فصل: باب كَيْفَ الْأَمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه‏)‏ كذا ترجم بالحديث الأول‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ فَقَالَ اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سفيان‏)‏ هو الثوري و ‏(‏الزبير بن عدي‏)‏ بفتح العين بعدها دال وهو كوفي همداني بسكون الميم ولي قضاء الري ويكنى أبا عدي، وهو من صغار التابعين، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد يلتبس به راو قريب من طبقته وهو الزبير بن عربي بفتح العين والراء بعدها موحدة مكسورة وهو اسم بلفظ النسب بصري يكنى أبا سلمة‏:‏ وليس له في البخاري سوى حديث واحد تقدم في الحج من روايته عن ابن عمر وتقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك هناك من كلام الترمذي‏.‏

قوله ‏(‏أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون‏)‏ فيه التفات ووقع في رواية الكشميهني ‏"‏ فشكوا ‏"‏ وهو على الجادة ووقع في رواية ابن أبي مريم عن الفريابي شيخ البخاري فيه عند أبي نعيم ‏"‏ نشكو ‏"‏ بنون بدل الفاء‏.‏

وفي رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عند الإسماعيلي ‏"‏ شكونا إلى أنس ما نلقى من الحجاج‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏من الحجاج‏)‏ أي ابن يوسف الثقفي الأمير المشهور، والمراد شكواهم ما يلقون من ظلمه لهم وتعديه، وقد ذكر الزبير في ‏"‏ الموفقيات ‏"‏ من طريق مجالد عن الشعبي قال ‏"‏ كان عمر فمن بعده إذا أخذوا العاصي أقاموه للناس ونزعوا عمامته، فلما كان زياد ضرب في الجنايات بالسياط، ثم زاد مصعب بن الزبير حلق اللحية، فلما كان بشر بن مروان سمر كف الجاني بمسمار، فلما قدم الحجاج قال‏:‏ هذا كله لعب، فقتل بالسيف‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال اصبروا‏)‏ زاد عبد الرحمن بن مهدي في روايته ‏"‏ اصبروا عليه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فإنه لا يأتي عليكم زمان‏)‏ في رواية عبد الرحمن بن مهدي ‏"‏ لا يأتيكم عام ‏"‏ وبهذا اللفظ أخرج الطبراني بسند جيد عن ابن مسعود نحو هذا الحديث موقوفا عليه قال ‏"‏ ليس عام إلا والذي بعده شر منه ‏"‏ وله عنه بسند صحيح قال ‏"‏ أمس خير من اليوم، واليوم خير من غد، وكذلك حتى تقوم الساعة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إلا والذي بعده‏)‏ كذا لأبي ذر، وسقطت الواو للباقين وثبتت لابن مهدي‏.‏

قوله ‏(‏أشر منه‏)‏ كذا لأبي ذر والنسفي، وللباقين بحذف الألف، وعلى الأول شرح ابن التين فقال‏:‏ كذا وقع ‏"‏ أشر ‏"‏ بوزن أفعل، وقد قال في الصحاح فلان شر من فلان ولا يقال أشر إلا في لغة رديئة‏.‏

ووقع في رواية محمد بن القاسم الأسدي عن الثوري ومالك بن مغول ومسعر وأبي سنان الشيباني أربعتهم عن الزبير بن عدي بلفظ ‏"‏ لا يأتي على الناس زمان إلا شر من الزمان الذي كان قبله، سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أخرجه الإسماعيلي، وكذا أخرجه ابن منده من طريق مالك بن مغول بلفظ ‏"‏ إلا وهو شر من الذي قبله ‏"‏ وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير‏:‏ من رواية مسلم بن إبراهيم عن شعبة عن الزبير بن عدي وقال‏:‏ تفرد به مسلم عن شعبة‏.‏

قوله ‏(‏حتى تلقوا ربكم‏)‏ أي حتى تموتوا، وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث آخر ‏"‏ واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية أبي نعيم ‏"‏ سمعت ذلك ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ هذا الخبر من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بفساد الأحوال، وذلك من الغيب الذي لا يعلم بالرأي وإنما يعلم بالوحي انتهى‏.‏

وقد استشكل هذا الإطلاق مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز وهو بعد زمن الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخبر الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز، بل لو قيل أن الشر اضمحل في زمانه لما كان بعيدا فضلا عن أن يكون شرا من الزمن الذي قبله وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج فقال‏:‏ لا بد للناس من تنفيس‏.‏

وأجاب بعضهم أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏خير القرون قرني ‏"‏ وهو في الصحيحين، وقوله ‏"‏أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال ‏"‏ سمعت عبد الله بن مسعود يقول‏:‏ لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالا يفيده ولكن لا يأتي عليكم يوم وإلا وهو أقل علما من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر فعند ذلك يهلكون ‏"‏ ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود إلى قوله ‏"‏ شر منه ‏"‏ قال ‏"‏ فأصابتنا سنة خصب فقال ليس ذلك أعني إنما أعني ذهاب العلماء ‏"‏ ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال ‏"‏ لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله أما إني لا أعني أميرا خيرا من أمير ولا عاما خيرا من عام ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا، ويجيء قوم يفتون برأيهم ‏"‏ وفي لفظ عنه من هذا الوجه ‏"‏ وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه ‏"‏ وأخرج الدارمي الأول من طريق الشعبي بلفظ ‏"‏ لست أعني عاما أخصب من عام ‏"‏ والباقي مثله وزاد ‏"‏ وخياركم ‏"‏ قبل قوله ‏"‏ وفقهاؤكم ‏"‏ واستشكلوا أيضا زمان عيسى بن مريم بعد زمان الدجال، وأجاب الكرماني بأن المراد الزمان الذي يكون بعد عيسى‏؟‏ أو المراد جنس الزمان الذي فيه الأمراء، وإلا فمعلوم من الدين بالضرورة أن زمان النبي المعصوم لا شر فيه‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال وما بعده ويكون المراد بالأزمنة المتفاضلة في الشر من زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال، وأما زمن عيسى عليه السلام فله حكم مستأنف والله أعلم‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة بناء على أنهم هم المخاطبون بذلك فيختص بهم، فأما من بعدهم فلم يقصد في الخبر المذكور، لكن الصحابي فهم التعميم فلذلك أجاب من شكا إليه الحجاج بذلك وأمرهم بالصبر، وهم أو جلهم من التابعين‏.‏

واستدل ابن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي وأنه يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، ثم وجدت عن ابن مسعود ما يصلح أن يفسر به الحديث وهو ما أخرجه الدارمي بسند حسن عن عبد الله قال ‏"‏ لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله، أما إني لست أعني عاما‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ الْفِرَاسِيَّةِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وحدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس وأخوه هو أبو بكر عبد الحميد، ومحمد ابن أبي عتيق هو محمد بن عبد الله بن أبي عتيق محمد بن عبد الله بن أبي بكر نسب لجده، هكذا عطف هذا الإسناد النازل على الذي قبله وهو أعلى منه بدرجتين لأنه أورد الأول مجردا في آخر كتاب الأدب بتمامه، فلما أورده هنا عنه أردفه بالسند الآخر وساقه على لفظ السند الثاني، وابن شهاب شيخ ابن أبي عتيق هو الزهري شيخ شعيب‏.‏

قوله ‏(‏هند بنت الحارث الفراسية‏)‏ بكسر الفاء بعدها راء وسين مهملة نسبة إلى بني فراس بطن من كنانة وهم إخوة قريش، وكانت هند زوج معبد بن المقداد وقد قيل إن لها صحبة، وتقدم شيء من ذلك في كتاب العلم‏.‏

قوله ‏(‏استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعا‏)‏ بنصب ليلة، وفزعا بكسر الزاي على الحال، ووقع في رواية سفيان بن عيينة عن معمر كما مضى في العلم ‏"‏ استيقظ ذات ليلة ‏"‏ وتقدم هناك الكلام على لفظ ذات ورواية هذا الباب تؤيد أنها زائدة‏.‏

وفي رواية هشام بن يوسف عن معمر في قيام الليل مثل الباب لكن بحذف فزعا وفي رواية شعيب بحذفهما‏.‏

قوله ‏(‏يقول سبحان الله‏)‏ في رواية سفيان ‏"‏ فقال سبحان الله ‏"‏ وفي رواية ابن المبارك عن معمر في اللباس ‏"‏ استيقظ من الليل وهو يقول لا إله إلا الله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل الليلة من الفتن‏)‏ في رواية غير الكشميهني ‏"‏ وماذا أنزل ‏"‏ بضم الهمزة وفي رواية سفيان ‏"‏ ماذا أنزل الليلة من الفتن، وماذا فتح من الخزائن ‏"‏ وفي رواية شعيب ‏"‏ ماذا أنزل من الخزائن وماذا أنزل من الفتن ‏"‏ وفي رواية ابن المبارك مثله لكن بتقديم وتأخير وقال ‏"‏ من الفتنة ‏"‏ بالإفراد، وقد تقدم الكلام على المراد بالخزائن وما ذكر معها في كتاب العلم‏:‏ و ‏"‏ ما ‏"‏ استفهامية فيها معنى التعجب‏.‏

قوله ‏(‏من يوقظ صواحب الحجرات‏)‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية سفيان ‏"‏ أيقظوا ‏"‏ بصيغة الأمر مفتوح الأول مكسور الثالث، وصواحب بالنصب على المفعولية، وجوز الكرماني إيقظوا بكسر أوله وفتح ثالثه وصواحب منادي ودلت رواية أيقظوا على أن المراد بقوله من يوقظ التحريض على إيقاظهن‏.‏

قوله ‏(‏يريد أزواجه لكي يصلين‏)‏ في رواية شعيب ‏"‏ حتى يصلين ‏"‏ وخلت سائر الروايات من هذه الزيادة‏.‏

قوله ‏(‏رب كاسية في الدنيا‏)‏ في رواية سفيان فرب بزيادة فاء في أوله‏.‏

وفي رواية ابن المبارك ‏"‏ يا رب كاسية ‏"‏ بزيادة حرف النداء في أوله‏.‏

وفي رواية هشام ‏"‏ كم من كاسية الدنيا عارية يوم القيامة ‏"‏ وهو يؤيد ما ذهب إليه ابن مالك من أن رب أكثر ما ترد للتكثير فإنه قال أكثر النحويين إنها للتقليل وأن معنى مما يصدر بها المضي، والصحيح أن معناها في الغالب التكثير وهو مقتضى كلام سيبويه فإنه قال في ‏"‏ باب كم ‏"‏ واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه رب، لأن المعنى واحد إلا أن كم اسم ورب غير اسم انتهى، ولا خلاف أن معنى كم الخبرية التكثير ولم يقع في كتابه ما يعارض ذلك فصح أن مذهبه ما ذكرت وحديث الباب شاهد لذلك، فليس مراده أن ذلك قليل بل المتصف بذلك من النساء كثير ‏"‏ ولذلك لو جعلت كم موضع رب لحسن انتهى، وقد وقعت كذلك في نفس هذا الحديث كما بينته، ومما وردت فيه للتكثير قول حسان‏:‏ رب حلم أضاعه عدم المال وجهل غطى عليه النعيم وقول عدي‏:‏ رب مأمول وراج أملا قد ثناه الدهر عن ذاك الأمل قال‏:‏ والصحيح أيضا أن الذي يصدر برب لا يلزم كونه ماضي المعنى بل يجوز مضيه وحضوره واستقباله، وقد اجتمع في الحديث الحضور والاستقبال، وشواهد الماضي كثيرة انتهى ملخصا‏.‏

وأما تصدير رب بحرف النداء في رواية ابن المبارك فقيل المنادى فيه محذوف والتقدير يا سامعين‏.‏

قوله ‏(‏عارية في الآخرة‏)‏ قال عياض الأكثر بالخفض على الوصف للمجرور برب‏.‏

وقال غيره‏:‏ الأولى الرفع على إضمار مبتدأ والجملة في موضع النعت أي هي عارية والفعل الذي يتعلق به رب محذوف‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ الأحسن الخفض على النعت لأن رب حرف جر يلزم صدر الكلام وهذا رأي سيبويه؛ وعند الكسائي هو اسم مبتدأ والمرفوع خبره، وإليه كان يذهب بعض شيوخنا انتهى‏.‏

واختلف في المراد بقوله ‏"‏ كاسية وعارية ‏"‏ على أوجه أحدها كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغني عارية في الآخرة من الثواب لعدم العمل في الدنيا، ثانيها كاسية بالثياب لكنها شفافة لا تستر عورتها فتعاقب في الآخرة بالعرى جزاء على ذلك، ثالثها كاسية من نعم الله عارية من الشكر الذي تظهر ثمرته في الآخرة بالثواب، رابعها كاسية جسدها لكنها تشد خمارها من ورائها فيبدو صدرها فتصير عارية فتعاقب في الآخرة، خامسها كاسية من خلعة التزوج بالرجل الصالح عارية في الآخرة من العمل فلا ينفعها صلاح زوجها كما قال تعالى ‏(‏فلا أنساب بينهم‏)‏ ذكر هذا الأخير الطيبي ورجحه لمناسبة المقام، واللفظة وإن وردت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لكن العبرة بعموم اللفظ، وقد سبق لنحوه الداودي فقال ‏"‏ كاسية للشرف في الدنيا لكونها أهل التشريف وعارية يوم القيامة قال‏:‏ ويحتمل أن يراد عارية في النار‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ في هذا الحديث أن الفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه وأن يبخل به فيمنع الحق أو يبطر صاحبه فيسرف، فأراد صلى الله عليه وسلم تحذير أزواجه من ذلك كله وكذا غيرهن ممن بلغه ذلك وأراد بقوله ‏"‏ من يوقظ ‏"‏ بعض خدمه كما قال يوم الخندق ‏"‏ من يأتيني بخبر القوم ‏"‏ وأراد أصحابه، لكن هناك عرف الذي انتدب كما تقدم وهنا لم يذكر، وفي الحديث الندب إلى الدعاء، والتضرع عند نزول الفتنة ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة لتكشف أو يسلم الداعي ومن دعا له وبالله التوفيق‏.‏

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من حمل علينا السلاح فليس منا‏)‏ ذكره من حديث ابن عمر ومن حديث أبي موسى وأورد معهما في الباب ثلاثة أحاديث أخرى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏من حمل علينا السلاح‏)‏ في حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم ‏"‏ من سل علينا السيف ‏"‏ ومعنى الحديث حمل السلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حق لما في ذلك من تخويفهم وإدخال الرعب عليهم، وكأنه كني بالحمل عن المقاتلة أو القتل للملازمة الغالبة‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ يحتمل أن يراد بالحمل ما يضاد الوضع ويكون كناية عن القتال به، ويحتمل أن يراد بالحمل حمله لإرادة القتال به لقرينة قوله ‏"‏ علينا ‏"‏ ويحتمل أن يكون المراد حمله للضرب به، وعلى كل حال ففيه دلالة على تحريم قتال المسلمين والتشديد فيه‏.‏

قلت‏:‏ جاء الحديث بلفظ ‏"‏ من شهر علينا السلاح ‏"‏ أخرجه البزار من حديث أبي بكرة، ومن حديث سمرة، ومن حديث عمرو بن عوف، وفي سند كل منها لين لكنها يعضد بعضها بعضا وعند أحمد من حديث أبي هريرة بلفظ ‏"‏ من رمانا بالنبل فليس منا ‏"‏ وهو عند الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ بلفظ ‏"‏ الليل ‏"‏ بدل النبل وعند البزار من حديث بريدة مثله‏.‏

قوله ‏(‏فليس منا‏)‏ أي ليس على طريقتنا، أو ليس متبعا لطريقتنا، لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتاله أو قتله ونظيره ‏"‏ من غشنا فليس منا وليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ‏"‏ وهذا في حق من لا يستحل ذلك، فأما من يستحله فإنه يكفر باستحلال المحرم بشرطه لا مجرد حمل السلاح، والأولى عند كثير من السلف إطلاق لفظ الخبر من غير تعرض لتأويله ليكون أبلغ في الزجر، وكان سفيان بن عيينة ينكر على من يصرفه عن ظاهره فيقول‏:‏ معناه ليس على طريقتنا، ويرى أن الإمساك عن تأويله أولى لما ذكرناه، والوعيد المذكور لا يتناول من قاتل البغاة من أهل الحق فيحمل على البغاة وعلى من بدأ بالقتال ظالما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا محمد أخبرنا عبد الرزاق‏)‏ كذا في الأصول التي وقفت عليها وكذا ذكر أبو علي الجياني أنه وقع هنا‏.‏

وفي العتق ‏"‏ حدثنا محمد - غير منسوب - عن عبد الرزاق ‏"‏ وأن الحاكم جزم بأنه محمد بن يحيى الذهلي إلى آخر كلامه ويحتمل أن يكون محمد هنا هو ابن رافع فإن مسلما أخرج هذا الحديث عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من مسند إسحاق بن راهويه ثم قال‏:‏ أخرجه البخاري عن إسحاق، ولم أر ذلك لغير أبي نعيم، ويدل على وهمه أن في رواية إسحاق عن عبد الرزاق ‏"‏ حدثنا معمر ‏"‏ والذي في البخاري ‏"‏ عن معمر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح‏)‏ كذا فيه بإثبات الياء وهو نفي بمعنى النهي، ووقع لبعضهم ‏"‏ لا يشر ‏"‏ بغير ياء وهو بلفظ النهي وكلاهما جائز‏.‏

قوله ‏(‏فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده‏)‏ بالغين المعجمة قال الخليل في العين نزغ الشيطان بين القوم نزغا حمل بعضهم على بعض بالفساد ومنه ‏(‏من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي‏)‏ وفي رواية الكشميهني بالعين المهملة ومعناه قلع، ونزع بالسهم رمى به، والمراد أنه يغري بينهم حتى يضرب أحدهما الآخر بسلاحه فيحقق الشيطان ضربته له وقال ابن التين‏:‏ معنى ينزعه يقلعه من يده فيصيب به الآخر أو يشد يده فيصيبه‏.‏

وقال النووي‏:‏ ضبطناه ونقله عياض عن جميع روايات مسلم بالعين المهملة ومعناه يرمي به في يده ويحقق ضربته، ومن رواه بالمعجمة فهو من الإغراء أي له تحقيق الضربة‏.‏

قوله ‏(‏فيقع في حفرة من النار‏)‏ هو كناية عن وقوعه في المعصية التي تفضي به إلى دخول النار، قال ابن بطال‏:‏ معناه أن أنفذ عليه الوعيد، وفي الحديث النهي عما يفضي إلى المحذور وإن لم يكن المحذور محققا سواء كان ذلك في جد أو هزل، وقد وقع في حديث أبي هريرة عند ابن أبي شيبة وغيره مرفوعا، من رواية ضمرة ابن ربيعة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه ‏"‏ الملائكة تلعن أحدكم إذا أشار إلى الآخر بحديدة وإن كان أخاه لأبيه وأمه ‏"‏ وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن أبي هريرة موقوفا من رواية أيوب عن ابن سيرين عنه‏.‏

وأخرج الترمذي أصله موقوفا من رواية خالد الحذاء عن ابن سيرين بلفظ ‏"‏ من أشار إلى أخيه بحديدة لعنته الملائكة ‏"‏ وقال حسن صحيح غريب، وكذا صححه أبو حاتم من هذا الوجه وقال في طريق ضمرة‏:‏ منمر‏.‏

وأخرج الترمذي بسند صحيح عن جابر ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعاطى السيف مسلولا ‏"‏ ولأحمد والبزار من وجه آخر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مر بقوم في مجلس يسلون سيفا يتعاطونه بينهم غير مغمود فقال‏:‏ ألم أزجر عن هذا‏؟‏ إذا سل أحدكم السيف فليغمده ثم ليعطه أخاه ‏"‏ ولأحمد والطبراني بسند جيد عن أبي بكرة نحوه وزاد ‏"‏ لعن الله من فعل هذا، إذا سل أحدكم سيفه فأراد أن يناوله أخاه فليغمده ثم يناوله إياه ‏"‏ قال ابن العربي‏:‏ إذا استحق الذي يشير بالحديدة اللعن فكيف الذي يصيب بها‏؟‏ وإنما يستحق اللعن إذا كانت إشارته تهديدا سواء كان جادا أم لاعبا كما تقدم، وإنما أوخذ اللاعب لما أدخله على أخيه من الروع، ولا يخفى أن إثم الهازل دون إثم الجاد وإنما نهي عن تعاطي السيف مسلولا لما يخاف من الغفلة عند التناول فيسقط فيؤدي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قُلْتُ لِعَمْرٍو يَا أَبَا مُحَمَّدٍ سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ مَرَّ رَجُلٌ بِسِهَامٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا قَالَ نَعَمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏قلت لعمرو‏)‏ يعني ابن دينار، وقد صرح به في رواية مسلم، وعمرو بن دينار هو القائل ‏"‏ نعم ‏"‏ جوابا لقول سفيان له ‏"‏ أسمعت جابرا ‏"‏ وقد تقدم البحث في ذلك في أوائل المساجد من كتاب الصلاة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ بِأَسْهُمٍ قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا لَا يَخْدِشُ مُسْلِمًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بأسهم‏)‏ هو جمع قلة يدل على أن المراد بقوله في الطريق الأولى ‏"‏ بسهام ‏"‏ أنها سهام قليلة، وقد وقع في رواية لمسلم أن المار المذكور كان يتصدق بها‏.‏

قوله ‏(‏قد بدا‏)‏ في رواية غير الكشميهني ‏"‏ أبدي ‏"‏ والنصول بضمتين جمع نصل بفتح النون وسكون المهملة ويجمع على نصال بكسر أوله كما في الرواية الأولى، والنصل حديدة السهم‏.‏

قوله ‏(‏فأمره أن يأخذ بنصولها‏)‏ يفسر قوله في الرواية الأخرى ‏"‏ أمسك بنصالها‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لا يخدش مسلما‏)‏ بمعجمتين هو تعلل للأمر بالإمساك على النصال، والخدش أول الجراح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا أَوْ قَالَ فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْءٌ

الشرح‏:‏

حديث أبي موسى، وهو بإسناد ‏"‏ من حمل علينا السلاح‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إذا مر أحدكم إلخ‏)‏ فيه أن الحكم عام في جميع المكلفين، بخلاف حديث جابر فإنه واقعة حال لا تستلزم التعميم‏.‏

وقوله ‏"‏فليقبض بكفه ‏"‏ أي على النصال، وليس المراد خصوص ذلك، بل يحرص على أن لا يصيب مسلما بوجه من الوجوه كما دل عليه التعليل بقوله ‏"‏ أن يصيب أحدا من المسلمين منها بشيء ‏"‏ وقوله ‏"‏ أن يصيب بها ‏"‏ بفتح أن والتقدير كراهية، ووقع في رواية مسلم ‏"‏ لئلا يصيب بها ‏"‏ وهو يؤيد مذهب الكوفيين في تقدير المحذوف في مثله، وزاد مسلم في آخر الحديث ‏"‏ سددنا بعضنا إلى وجوه بعض ‏"‏ وهي بالسين المهملة أي قومناها إلى وجوههم، وهي كناية عما وقع من قتال بعضهم بعضا في تلك الحروب الواقعة في الجمل وصفين، وفي هذين الحديثين تحريم قتال المسلم وقتله وتغليظ الأمر فيه، وتحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى أذيته بكل وجه، وفيه حجة للقول بسد الذرائع‏"‏‏.‏

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعدي كفارا إلخ‏)‏ ترجم بلفظ ثالث أحاديث الباب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عمر بن حفص‏)‏ هو ابن غياث، وشقيق هو أبو وائل، والسند كله كوفيون‏.‏

قوله ‏(‏سباب‏)‏ بكسر المهملة وموحدتين وتخفيف مصدر يقال سبه يسبه سبا وسبابا، وهذا المتن قد تقدم في كتاب الإيمان أول الكتاب من وجه آخر عن أبي وائل، وفيه بيان الاختلاف في رفعه ووقفه، وتقدم توجيه إطلاق الكفر على قتال المؤمن وأن أقوى ما قيل في ذلك أنه أطلق عليه مبالغة في التحذير من ذلك لينزجر السامع عن الإقدام عليه، أو أنه على سبيل التشبيه لأن ذلك فعل الكافر، كما ذكروا نظيره في الحديث الذي بعده‏.‏

وورد لهذا الحديث سبب أخرجه البغوي والطبراني من طريق أبي خالد الوالبي عن عمرو بن النعمان بن مقرن المزني قال ‏"‏ انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجلس من مجالس الأنصار ورجل من الأنصار كان عرف بالبذاء ومشاتمة الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ‏"‏ زاد البغوي في روايته ‏"‏ فقال ذلك الرجل‏:‏ والله لا أساب رجلا‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏واقد بن محمد‏)‏ أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر‏.‏

قوله ‏(‏لا ترجعون بعدي‏)‏ كذا لأبي ذر بصيغة الخبر وللباقين ‏"‏ لا ترجعوا ‏"‏ بصيغة النهي وهو المعروف‏.‏

قوله ‏(‏كفارا‏)‏ تقدم بيان المراد به في أوائل كتاب الديات، وجملة الأقوال فيه ثمانية، ثم وقفت على تاسع وهو أن المراد ستر الحق والكفر لغة الستر، لأن حق المسلم على المسلم أن ينصره ويعينه، فلما قاتله كأنه غطى على حقه الثابت له عليه‏.‏

وعاشر وهو أن الفعل المذكور يفضي إلى الكفر، لأن من اعتاد الهجوم على كبار المعاصي جره شؤم ذلك إلى أشد منها فيخشى أن لا يختم له بخاتمة الإسلام‏.‏

ومنهم من جعله من لبس السلاح يقول كفر فوق درعه إذا لبس فوقها ثوبا‏.‏

وقال الداودي‏:‏ معناه لا تفعلوا بالمؤمنين ما تفعلون بالكفار، ولا تفعلوا بهم ما لا يحل وأنتم ترونه حراما‏.‏

قلت‏:‏ وهو داخل في المعاني المتقدمة‏.‏

واستشكل بعض الشراح غالب هذه الأجوبة بأن راوي الخبر وهو أبو بكرة فهم خلاف ذلك، والجواب أن فهمه ذلك إنما يعرف من توقفه عن القتال واحتجاجه بهذا الحديث، فيحتمل أن يكون توقفه بطريق الاحتياط لما يحتمله ظاهر اللفظ، ولا يلزم أن يكون يعتقد حقيقة كفر من باشر ذلك، ويؤيده أنه لم يمتنع من الصلاة خلفهم ولا امتثال أوامرهم ولا غير ذلك مما يدل على أنه يعتقد فيهم حقيقته‏.‏

والله المستعان‏.‏

قوله ‏(‏يضرب بعضكم رقاب بعض‏)‏ بجزم يضرب على أنه جواب النهي، وبرفعه على الاستئناف، أو يجعل حالا‏.‏

فعلى الأول يقوي الحمل على الكفر الحقيقي ويحتاج إلى التأويل بالمستحل مثلا، وعلى الثاني لا يكون متعلقا بما قبله، ويحتمل أن يكون متعلقا وجوابه ما تقدم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَعَنْ رَجُلٍ آخَرَ هُوَ أَفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ أَلَا تَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلِّغٍ يُبَلِّغُهُ لِمَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ فَكَانَ كَذَلِكَ قَالَ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ حِينَ حَرَّقَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ قَالَ أَشْرِفُوا عَلَى أَبِي بَكْرَةَ فَقَالُوا هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَحَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لَوْ دَخَلُوا عَلَيَّ مَا بَهَشْتُ بِقَصَبَةٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يحيى‏)‏ هو ابن سعيد القطان والسند كله بصريون‏.‏

قوله ‏(‏ابن سيرين‏)‏ هو محمد‏.‏

قوله ‏(‏وعن رجل آخر‏)‏ هو حميد بن عبد الرحمن الحميري كما وقع مصرحا به في ‏"‏ باب الخطبة أيام منى ‏"‏ من كتاب الحج، وقد تقدم شرح الخطبة المذكورة في كتاب الحج، وقوله ‏"‏أبشاركم ‏"‏ بموحدة ومعجمة جمع بشرة وهو ظاهر جلد الإنسان، وأما البشر الذي هو الإنسان فلا يثنى ولا يجمع، وأجازه بعضهم لقوله تعالى ‏(‏فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا‏)‏ وقوله ‏"‏ فإنه ‏"‏ الهاء ضمير الشأن، وقوله ‏"‏رب مبلغ ‏"‏ بفتح اللام الثقيلة و ‏"‏ يبلغه ‏"‏ بكسرها، وقوله ‏"‏من هو ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ لمن هو‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أوعى له‏)‏ زاد في رواية الحج ‏"‏ منه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فكان كذلك‏)‏ هذه جملة موقوفة من كلام محمد بن سيرين تخللت بين الجمل المرفوعة كما وقع التنبيه عليه واضحا في، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب، من كتاب العلم‏.‏

قوله ‏(‏قال لا ترجعوا‏)‏ هو بالسند المذكور من رواية محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة، وقد قال البزار بعد تخريجه بطوله لا نعلم من رواه بهذا اللفظ إلا قرة عن محمد بن سيرين‏.‏

قوله ‏(‏فلما كان يوم حرق ابن الحضرمي‏)‏ في رواية محمد بن أبي بكر المقدمي عن يحيى القطان عند الإسماعيلي ‏"‏ قال فلما كان ‏"‏ وفاعل قال هو عبد الرحمن بن أبي بكرة، وحرق بضم أوله على البناء للمجهول، ووقع في خط الدمياطي‏:‏ الصواب أحرق، وتبعه بعض الشراح، وليس الآخر بخطأ بل جزم أهل اللغة باللغتين أحرقه وحرقه والتشديد للتكثير، والتقدير هنا يوم حرق ابن الحضرمي ومن معه، وابن الحضرمي فيما ذكره العسكري اسمه عبد الله بن عمرو بن الحضرمي وأبوه عمرو هو أول من قتل من المشركين يوم بدر، وعلى هذا فلعبد الله رؤية، وقد ذكره بعضهم في الصحابة، ففي الاستيعاب‏:‏ قال الواقدي ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي عن عمر وعند المدائني أنه عبد الله بن عامر الحضرمي وهو ابن عمرو المذكور، والعلاء ابن الحضرمي الصحابي المشهور عمه، واسم الحضرمي عبد الله بن عماد وكان حالف بني أمية في الجاهلية، وأم ابن الحضرمي المذكور أرنب بنت كريز بن ربيعة وهي عمة عبد الله بن عامر بن كريز الذي كان أمير البصرة في زمن عثمان‏.‏

قوله ‏(‏حين حرقه جارية‏)‏ بجيم وتحتانية ‏(‏ابن قدامة‏)‏ أي ابن مالك بن زهير بن الحصين التميمي السعدي، وكان السبب في ذلك ما ذكره العسكري في الصحابة كان جارية يلقب محرقا لأنه أحرق ابن الحضرمي بالبصرة، وكان معاوية وجه ابن الحضرمي إلى البصرة ليستنفرهم على قتال علي، فوجه على جارية بن قدامة فحصره، فتحصن منه ابن الحضرمي في دار فأحرقها جارية عليه‏.‏

وذكر الطبري في حوادث سنة ثمان وثلاثين من طريق أبي الحسن المدائني، وكذا أخرجه عمر بن شبة في ‏"‏ أخبار البصرة ‏"‏ أن عبد الله بن عباس خرج من البصرة وكان عاملها لعلي واستخلف زياد بن سمية على البصرة، فأرسل معاوية عبد الله بن عمرو بن الحضرمي ليأخذ له البصرة، فنزل في بني تميم، وانضمت إليه العثمانية، فكتب زياد إلى علي يستنجده، فأرسل إليه أعين ابن ضبيعة المجاشعي فقتل غيلة، فبعث علي بعده جارية بن قدامة فحصر ابن الحضرمي في الدار التي نزل فيها ثم أحرق الدار عليه وعلى من معه وكانوا سبعين رجلا أو أربعين، وأنشد في ذلك أشعارا، فهذا هو المعتمد، وأما ما حكاه ابن بطال عن المهلب أن ابن الحضرمي رجل امتنع من الطاعة، فأخرج إليه جارية بن قدامة فصلبه على جذع ثم ألقى النار في الجذع الذي صلب عليه، فما أدري ما مستنده فيه، وكأنه قاله بالظن، والذي ذكره الطبري هو الذي ذكره أهل العلم بالأخبار، وكان الأحنف يدعو جارية عما إعظاما له، قاله الطبري ومات جارية في خلافة يزيد بن معاوية قاله ابن حبان، ويقال إنه جويرية بن قدامة الذي روى قصة قتل عمر كما تقدم‏.‏

قوله ‏(‏قال أشرفوا على أبي بكرة‏)‏ أي اطلعوا من مكان مرتفع فرأوه، زاد البزار عن يحيى بن حكيم عن القطان ‏"‏ وهو في حائط له‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقالوا هذا أبو بكرة يراك‏)‏ قال المهلب‏:‏ لما فعل جارية بابن الحضرمي ما فعل أمر جارية بعضهم أن يشرفوا على أبي بكرة ليختبر إن كان محاربا أو في الطاعة، وكان قد قال له خيثمة‏:‏ هذا أبو بكرة يراك وما صنعت بابن الحضرمي فربما أنكر عليك بسلاح أو بكلام‏.‏

فلما سمع أبو بكرة ذلك وهو في علية له قال‏:‏ لو دخلوا علي داري ما رفعت عليهم قصبة، لأني لا أرى قتال المسلمين فكيف أن أقاتلهم بسلاح‏.‏

قلت‏:‏ ومقتضى ما ذكره أهل العلم بالأخبار كالمدائني أن ابن عباس كان استنفر أهل البصرة بأمر علي ليعاودوا محاربة معاوية بعد الفراغ من أمر التحكيم، ثم وقع أمر الخوارج فسار ابن عباس إلى علي فشهد معه النهروان، فأرسل بعض عبد القيس في غيبته إلى معاوية يخبره أن بالبصرة جماعة من العثمانية، ويسأله توجيه رجل يطلب بدم عثمان، فوجه ابن الحضرمي، فكان من أمره ما كان، فالذي يظهر أن جارية بن قدامة بعد أن غلب وحرق ابن الحضرمي ومن معه استنفر الناس بأمر علي، فكان من رأي أبي بكرة ترك القتال في الفتنة كرأي جماعة من الصحابة، فدل بعض الناس على أبي بكرة ليلزموه الخروج إلى القتال فأجابهم بما قال‏.‏

قوله ‏(‏قال عبد الرحمن‏)‏ هو ابن أبي بكرة الراوي، وهو موصول بالسند المذكور‏.‏

قوله ‏(‏فحدثتني أمي‏)‏ هي هالة بنت غليظ العجلية، ذكر ذلك خليفة بن خياط في تاريخه، وتبعه أبو أحمد الحاكم وجماعة؛ وسمى ابن سعد أمه هولة والله أعلم‏.‏

وذكر البخاري في تاريخه وابن سعد أن عبد الرحمن كان أول مولود ولد بالبصرة بعد أن بنيت، وأرخها ابن زيد سنة أربع عشرة وذلك في أوائل خلافة عمر رضي الله عنه‏.‏

قوله ‏(‏لو دخلوا علي‏)‏ بتشديد الياء‏.‏

قوله ‏(‏ما بهشت‏)‏ بكسر الهاء وسكون المعجمة، وللكشميهني بفتح الهاء وهما لغتان، والمعنى ما دافعتهم يقال بهش بعض القوم إلى بعض إذا تراموا للقتال، فكأنه قال ما مددت يدي إلى قصبة ولا تناولتها لأدافع بها عني‏.‏

وقال ابن التين ‏"‏ ما قمت إليهم بقصبة ‏"‏ يقال بهش له إذا ارتاح له وخف إليه، وقيل معناه ما رميت وقيل معناه ما تحركت‏.‏

وقال صاحب النهاية‏:‏ المراد ما أقبلت إليهم مسرعا أدفعهم عني ولا بقصبة، ويقال لمن نظر إلى شيء فأعجبه واشتهاه أو أسرع إلى تناوله‏:‏ بهش إلى كذا، ويستعمل أيضا في الخير والشر، يقال بهش إلى معروف فلان في الخير وبهش إلى فلان تعرض له بالشر، ويقال بهش القوم بعضهم إلى بعض إذا ابتدروا في القتال وهذا الذي قاله أبو بكرة يوافق ما وقع عند أحمد من حديث ابن مسعود ذكر الفتنة ‏"‏ قلت يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك‏؟‏ قال‏:‏ كف يدك ولسانك وادخل دارك، قلت يا رسول الله أرأيت إن دخل رجل علي داري‏؟‏ قال‏:‏ فادخل بيتك‏.‏

قال قلت‏:‏ أفرأيت إن دخل علي بيتي قال فادخل مسجدك - وقبض بيمينه على الكوع - وقل ربي الله حتى تموت على ذلك ‏"‏ وعند الطبراني من حديث جندب ‏"‏ ادخلوا بيوتكم وأخملوا ذكركم قال‏:‏ أرأيت إن دخل على أحدنا بيته قال‏:‏ ليمسك بيده وليكن عبد الله المقتول لا القاتل ‏"‏ ولأحمد وأبي يعلى من حديث خرشة ابن الحر ‏"‏ فمن أتت عليه فليمش بسيفه إلى صفاة فليضربه بها حتى ينكسر ثم ليضطجع لها حتى تنجلي ‏"‏ وفي حديث أبي بكرة عند مسلم ‏"‏ قال رجل يا رسول الله أرأيت أن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين فجاء سهم أو ضربني رجل بسيف‏؟‏ قال‏:‏ يبوء بإثمه وإثمك ‏"‏ الحديث، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِشْكَابٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَرْتَدُّوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏محمد بن فضيل عن أبيه‏)‏ هو ابن غزوان بفتح المعجمة وسكون الزاي‏.‏

قوله ‏(‏لا ترتدوا‏)‏ تقدم في الحج من وجه آخر عن فضيل بلفظ ‏"‏ لا ترجعوا ‏"‏ وساقه هناك أتم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ جَدِّهِ جَرِيرٍ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ اسْتَنْصِتْ النَّاسَ ثُمَّ قَالَ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ

الشرح‏:‏

حديث جرير وهو ابن عبد الله البجلي‏.‏

قوله ‏(‏لا ترجعوا‏)‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية الكشميهني لا ترجعن بعد العين المهملة المضمومة نون ثقيلة وأصله لا ترجعون، وقد تقدم في العلم وفي أواخر المغازي وفي الديات بلفظ ‏"‏ لا ترجعوا ‏"‏ وليس لأبي زرعة بن عمرو ابن جرير عن جده في البخاري إلا هذا الحديث، وعلي بن مدرك الراوي عنه نخعي كوفي متفق على توثيقه، ولا أعرف له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد في المواضع المذكورة‏.‏

*3*باب تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم‏)‏ كذا ترجم ببعض الحديث، وأورده من رواية سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سلمة وهو عمه، ومن رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب كلاهما عن أبي هريرة، ومن رواية شعيب عن ابن شهاب الزهري ‏"‏ أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ‏"‏ وكأنه صحح أن لابن شهاب فيه شيخين‏.‏

ولفظ الحديثين سواء إلا ما سأبينه، وقد أخرجه في علامات النبوة عن عبد العزيز الأويسي عن إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عنهما جميعا، وكذا أخرجه مسلم من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه، ولم يسق البخاري لفظ سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة وساقه مسلم من طريق أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد وفي أوله ‏"‏ تكون فتنة النائم فيها خير من اليقظان واليقظان فيها خير من القائم‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ح قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏ستكون فتن‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ فتنة ‏"‏ بالإفراد‏.‏

قوله ‏(‏القاعد فيها خير من القائم‏)‏ زاد الإسماعيلي من طريق الحسن بن إسماعيل الكلبي عن إبراهيم بن سعد بسنده فيه في أوله ‏"‏ النائم فيها خير من اليقظان واليقظان فيها خير من القاعد‏"‏، والحسن بن إسماعيل المذكور وثقه النسائي وهو من شيوخه، ثم وجدت هذه الزيادة عند مسلم أيضا من رواية أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد، وكان أخرجه أولا من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه كرواية محمد بن عبيد الله شيخ البخاري فيه، فكأن إبراهيم بن سعد كان يذكره تاما وناقصا، ووقع في رواية خرشة بن الحر عند أحمد وأبي يعلى مثل هذه الزيادة، وقد وجدت لهذه الزيادة شاهدا من حديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود بلفظ ‏"‏ النائم فيها خير من المضطجع ‏"‏ وهو المراد باليقظان في الرواية المذكورة لأنه قابله بالقاعد‏.‏

قوله ‏(‏والماشي فيها خير من الساعي‏)‏ في حديث ابن مسعود ‏"‏ والماشي فيها خير من الراكب والراكب فيها خير من المجري قتلاها كلها في النار‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏خير من الساعي‏)‏ في حديث أبي بكرة عند مسلم ‏"‏ من الساعي إليها ‏"‏ وزاد ‏"‏ ألا فإذا نزلت فمن كانت له إبل فليلحق بإبله ‏"‏ الحديث قال بعض الشراح في قوله ‏"‏ والقاعد فيها خير من القائم ‏"‏ أي القاعد في زمانها عنها قال‏:‏ والمراد بالقائم الذي لا يستشرفها وبالماشي من يمشي في أسبابه لأمر سواها، فربما يقع بسبب مشيه في أمر يكرهه وحكى ابن التين عن الداودي أن الظاهر أن المراد من يكون مباشرا لها في الأحوال كلها، يعني أن بعضهم في ذلك أشد من بعض، فأعلاهم في ذلك الساعي فيها بحيث يكون سببا لإثارتها، ثم من يكون قائما بأسبابها وهو الماشي، ثم من يكون مباشرا لها وهو القائم، ثم من يكون مع النظارة ولا يقاتل وهو القاعد، ثم من يكون مجتنبا لها ولا يباشر ولا ينظر وهو المضطجع اليقظان، ثم من لا يقع منه شيء من ذلك ولكنه راض وهو النائم، والمراد بالأفضلية في هذه الخيرية من يكون أقل شرا ممن فوقه على التفصيل المذكور‏.‏

قوله ‏(‏من تشرف لها‏)‏ بفتح المثناة والمعجمة وتشديد الراء أي تطلع لها بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها، وضبط أيضا من الشرف ومن الإشراف‏.‏

قوله ‏(‏تستشرفه‏)‏ أي تهلكه بأن يشرف منها على الهلاك، يقال استشرفت الشيء علوته وأشرفت عليه، يريد من انتصب لها انتصبت له ومن أعرض عنها أعرضت عنه، وحاصله أن من طلع فيها بشخصه قابلته بشرها، ويحتمل أن يكون المراد من خاطر فيها بنفسه أهلكته، ونحوه قول القائل من غالبها غلبته‏.‏

قوله ‏(‏فمن وجد فيها‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ منها‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ملجأ‏)‏ أي يلتجئ إليه من شرها‏.‏

قوله ‏(‏أو معاذا‏)‏ بفتح الميم وبالعين المهملة وبالذال المعجمة هو بمعنى الملجأ، قال ابن التين ورويناه بالضم يعني معاذا، قوله ‏(‏فليعذبه‏)‏ أي ليعتزل فيه ليسلم من شر الفتنة وفي رواية سعد بن إبراهيم ‏"‏ فليستعذ ‏"‏ ووقع تفسيره عند مسلم في حديث أبي بكرة ولفظه ‏"‏ فإذا نزلت فمن كان له إبل فليلحق بإبله - وذكر الغنم والأرض - قال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له‏؟‏ قال‏:‏ يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع‏"‏‏.‏

وفيه التحذير من الفتنة والحث على اجتناب الدخول فيها وأن شرها يكون بحسب التعلق بها، والمراد بالفتنة ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يعلم المحق من المبطل‏.‏

قال الطبري‏:‏ اختلف السلف فحمل ذلك بعضهم على العموم وهم من قعد عن الدخول في القتال بين المسلمين مطلقا كسعد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة في آخرين، وتمسكوا بالظواهر المذكورة وغيرها، ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة بلزوم البيوت‏.‏

وقالت طائفة بل بالتحول عن بلد الفتن أصلا‏.‏

ثم اختلفوا فمنهم من قال‏:‏ إذا هجم عليه شيء من ذلك يكف يده ولو قتل، ومنهم من قال‏:‏ بل يدافع عن نفسه وعن ماله وعن أهله وهو معذور إن قتل أو قتل‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إذا بغت طائفة على الإمام فامتنعت من الواجب عليها ونصبت الحرب وجب قتالها، وكذلك لو تحاربت طائفتان وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ ونصر المصيب، وهذا قول الجمهور، وفصل آخرون فقالوا‏:‏ كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة فالقتال حينئذ ممنوع، وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب، وغيره على ذلك وهو قول الأوزاعي، قال الطبري‏:‏ والصواب أن يقال إن الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها‏.‏

وذهب آخرون إلى أن الأحاديث وردت في حق ناس مخصوصين، وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك‏.‏

وقيل إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان حيث يحصل التحقق أن المقاتلة إنما هي في طلب الملك‏.‏

وقد وقع في حديث ابن مسعود الذي أشرت إليه ‏"‏ قلت يا رسول الله ومتى ذلك‏؟‏ قال أيام الهرج قلت ومتى‏؟‏ قال حين لا يأمن الرجل جليسه‏"‏‏.‏

*3*بَاب إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ خَرَجْتُ بِسِلَاحِي لَيَالِيَ الْفِتْنَةِ فَاسْتَقْبَلَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قُلْتُ أُرِيدُ نُصْرَةَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلَاهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ قِيلَ فَهَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَيُّوبَ وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ يُحَدِّثَانِي بِهِ فَقَالَا إِنَّمَا رَوَى هَذَا الحَدِيثَ الْحَسَنُ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ بِهَذَا وَقَالَ مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَيُونُسُ وَهِشَامٌ وَمُعَلَّى بْنُ زِيَادٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الْأَحْنَفِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ وَرَوَاهُ بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَقَالَ غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب‏)‏ وهو الحجبي بفتح المهملة والجيم‏.‏

قوله ‏(‏حماد‏)‏ هو ابن زيد وقد نسبه في أثناء الحديث‏.‏

قوله ‏(‏عن رجل لم يسمه‏)‏ هو عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة وكان سيئ الضبط، هكذا جزم المزي في التهذيب بأنه المبهم في هذا الموضع، وجوز غيره كمغلطاي أن يكون هو هشام بن حسان وفيه بعد‏.‏

قوله ‏(‏عن الحسن‏)‏ هو البصري ‏(‏قال خرجت بسلاحي ليالي الفتنة‏)‏ كذا وقع في هذه الرواية، وسقط الأحنف بين الحسن وأبي بكرة كما سيأتي، والمراد بالفتنة الحرب التي وقعت بين علي ومن معه وعائشة ومن معها، وقوله ‏"‏خرجت بسلاحي ‏"‏ في رواية عمر بن شبة عن خالد بن خداش عن حماد بن زيد عن أيوب ويونس عن الحسن ‏"‏ عن الأحنف قال‏:‏ التحفت علي بسيفي لآتى عليا فأنصره ‏"‏‏:‏ وقوله ‏"‏ فاستقبلني أبو بكرة ‏"‏ في رواية مسلم الآتي التنبيه عليها ‏"‏ فلقيني أبو بكرة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أين تريد‏)‏ زاد مسلم في روايته ‏"‏ يا أحنف‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏نصرة ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ أريد نصر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يعني عليا ‏"‏ قال فقال لي‏:‏ يا أحنف ارجع‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فكلاهما من أهل النار‏)‏ في رواية الكشميهني في النار ‏"‏ وفي رواية مسلم فالقاتل والمقتول في النار‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قيل فهذا القاتل‏)‏ القائل هو أبو بكرة وقع مبينا في رواية مسلم، لكن شك فقال ‏"‏ فقلت أو قيل ‏"‏ ووقع في رواية أيوب عند عبد الرزاق ‏"‏ قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ‏"‏ وقوله ‏"‏ هذا القاتل ‏"‏ مبتدأ وخبره محذوف، أي هذا القاتل يستحق النار، وقوله ‏"‏فما بال المقتول ‏"‏ أي فما ذنبه‏.‏

قوله ‏(‏إنه أراد قتل صاحبه‏)‏ تقدم في الإيمان بلفظ ‏"‏ إنه كان حريصا على قتل صاحبه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال حماد بن زيد‏)‏ هو موصول بالسند المذكور‏.‏

قوله ‏(‏فقالا إنما روى هذا الحديث الحسن عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة‏)‏ يعني أن عمرو بن عبيد أخطأ في حذف الأحنف بين الحسن وأبي بكرة، لكن وافقه قتادة أخرجه النسائي من وجهين عنه عن الحسن عن أبي بكرة، إلا أنه اقتصر على الحديث دون القصة، فكأن الحسن كان يرسله عن أبي بكرة فإذا ذكر القصة أسنده، وقد رواه سليمان التيمي عن الحسن عن أبي موسى أخرجه النسائي أيضا، وتعقب بعض الشراح قول البزار لا يعرف الحديث بهذا اللفظ إلا عن أبي بكرة وهو ظاهر، ولكن لعل البزار يرى أن رواية التيمي شاذة لأن المحفوظ عن الحسن رواية من قال عنه عن الأحنف عن أبي بكرة‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا سليمان حدثنا حماد بهذا‏)‏ سليمان هو ابن حرب والظاهر أن قوله ‏"‏ بهذا ‏"‏ إشارة إلى موافقة الرواية التي ذكرها حماد بن زيد عن أيوب ويونس بن عبيد، وقد أخرجه مسلم والنسائي جميعا عن أحمد بن عبدة الضبي عن حماد بن زيد عن أيوب ويونس بن عبيد والمعلى بن زياد ثلاثتهم عن الحسن البصري عن الأحنف ابن قيس فساق الحديث دون القصة، وأخرجه أبو داود عن أبي كامل الجحدري ‏"‏ حدثنا حماد ‏"‏ فذكر القصة باختصار يسير‏.‏

قوله ‏(‏وقال مؤمل‏)‏ بواو مهموزة وزن محمد وهو ابن إسماعيل أبو عبد الرحمن البصري نزيل مكة، أدركه البخاري ولم يلقه لأنه مات سنة ست ومائتين وذلك قبل أن يرحل البخاري، ولم يخرج عنه إلا تعليقا، وهو صدوق كثير الخطأ قاله أبو حاتم الرازي، وقد وصل هذه الطريق الإسماعيلي من طريق أبي موسى محمد بن المثنى ‏"‏ حدثنا مؤمل بن إسماعيل حدثنا أحمد بن زيد عن أيوب يونس هو ابن عبيد وهشام عن الحسن عن الأحنف عن أبي بكرة ‏"‏ فذكر الحديث دون القصة، ووصله أيضا من طريق يزيد بن سنان ‏"‏ حدثنا مؤمل حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب ويونس والمعلى بن زياد قالوا حدثنا الحسن ‏"‏ فذكره، وأخرجه أحمد عن مؤمل عن حماد عن الأربعة، فكأن البخاري أشار إلى هذه الطريق‏.‏

قوله ‏(‏ورواه معمر عن أيوب‏)‏ ‏.‏

قلت‏:‏ وصله مسلم وأبو داود والنسائي والإسماعيلي من طريق عبد الرزاق عنه فلم يسق مسلم لفظه ولا أبو داود، وساقه النسائي والإسماعيلي فقال ‏"‏ عن أيوب عن الحسن عن الأحنف ابن قيس عن أبي بكرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر الحديث دون القصة، وفي هذا السند لطيفة وهو أن رجاله كلهم بصريون، وفيهم ثلاثة عن التابعين في نسق أولهم أيوب، قال الدار قطني بعد أن ذكر الاختلاف في سنده‏:‏ والصحيح حديث أيوب من حديث حماد بن زيد ومعمر عنه‏.‏

قوله ‏(‏ورواه بكار بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي بكرة‏)‏ ‏.‏

قلت‏:‏ عبد العزيز هو ابن عبد الله بن أبي بكرة، وقد وقع منسوبا عند ابن ماجه، ومنهم من نسبه إلى جده فقال عبد العزيز بن أبي بكرة، وليس له ولا لولده بكار في البخاري إلا هذا الحديث، وهذه الطريق وصلها الطبراني من طريق خالد بن خداش بكسر المعجمة والدال المهملة وآخره شين معجمة قال ‏"‏ حدثنا بكار بن عبد العزيز ‏"‏ بالسند المذكور ولفظه ‏"‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن فتنة كائنة، القاتل والمقتول في النار، إن المقتول قد أراد قتل القاتل‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وقال غندر حدثنا شعبة عن منصور‏)‏ هو ابن المعتمر ‏(‏عن ربعي‏)‏ بكسر الراء وسكون الموحدة وهو اسم بلفظ النسب واسم أبيه حراش بكسر المهملة وآخره شين معجمة تابعي مشهور، وقد وصله الإمام أحمد قال ‏"‏ حدثنا محمد بن جعفر ‏"‏ وهو غندر بهذا السند مرفوعا ولفظه ‏"‏ إذا التقى المسلمان حمل أحدهما على صاحبه السلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتله وقعا فيها جميعا ‏"‏ وهكذا أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة ومن طريقه أبو عوانة في صحيحه‏.‏

قوله ‏(‏ولم يرفعه سفيان‏)‏ يعني الثوري ‏(‏عن منصور‏)‏ يعني بالسند المذكور، وقد وصله النسائي من رواية يعلى بن عبيد عن سفيان الثوري بالسند المذكور إلى أبي بكرة قال ‏"‏ إذا حمل الرجلان المسلمان السلاح أحدهما على الآخر فهما على جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما الآخر فهما في النار ‏"‏ وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في كتاب الإيمان أوائل الصحيح، قال العلماء معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك ولكن أمرهما إلى الله تعالى إن شاء عاقبهما ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين وإن شاء عفا عنهما فلم يعاقبهما أصلا، وقيل هو محمول على من استحل ذلك، ولا حجة فيه للخوارج ومن قال من المعتزلة بأن أهل المعاصي مخلدون في النار لأنه لا يلزم من قوله فهما في النار استمرار بقائهما فيها‏.‏

واحتج به من لم ير القتال في الفتنة وهم كل من ترك القتال مع علي في حروبه كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة وغيرهم وقالوا‏:‏ يجب الكف حتى لو أراد أحد قتله لم يدفعه عن نفسه‏.‏

ومنهم من قال لا يدخل في الفتنة فإن أراد أحد قتله دفع عن نفسه، وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين، وحمل هؤلاء الأحاديث الواردة في ذلك على من ضعف عن القتال أو قصر نظره عن معرفة صاحب الحق، واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وأن المصيب يؤجر أجرين كما سيأتي بيانه في كتاب الأحكام، وحمل هؤلاء الوعيد المذكور في الحديث على من قاتل بغير تأويل سائغ بل بمجرد طلب الملك، ولا يرد على ذلك منع أبي بكرة الأحنف من القتال مع علي لأن ذلك وقع عن اجتهاد من أبي بكرة أداه إلى الامتناع والمنع احتياطا لنفسه ولمن نصحه وسيأتي في الباب الذي بعده مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

قال الطبري‏:‏ لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل وكسر السيوف لما أقيم حد ولا أبطل باطل، ولوجد أهل الفسوق سبيلا إلى ارتكاب المحرمات من أخذ الأموال وسفك الدماء وسبي الحريم بأن يحاربوهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولوا هذه فتنة وقد نهينا عن القتال فيها وهذا مخالف للأمر بالأخذ على أيدي السفهاء انتهى‏.‏

وقد أخرج البزار في حديث ‏"‏ القاتل والمقتول في النار ‏"‏ زيادة تبين المراد وهي ‏"‏ إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل والمقتول في النار ‏"‏ ويؤيده ما أخرجه مسلم بلفظ ‏"‏ لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل، فقيل‏:‏ كيف يكون ذلك‏؟‏ قال‏:‏ الهرج، القاتل والمقتول في النار ‏"‏ قال القرطبي فبين هذا الحديث أن القتال إذا كان على جهل من طلب الدنيا أو اتباع هوى فهو الذي أريد بقوله ‏"‏ القاتل والمقتول في النار‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ومن ثم كان الذين توقفوا عن القتال في الجمل وصفين أقل عددا من الذين قاتلوا، وكلهم متأول مأجور إن شاء الله، بخلاف من جاء بعدهم ممن قاتل على طلب الدنيا كما سيأتي عن أبي برزة الأسلمي والله أعلم‏.‏

ومما يؤيد ما تقدم ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلته جاهلية ‏"‏ واستدل بقوله ‏"‏ إنه كان حريصا على قتل صاحبه ‏"‏ من ذهب إلى المؤاخذة بالعزم وإن لم يقع الفعل، وأجاب من لم يقل بذلك أن في هذا فعلا وهو المواجهة بالسلاح ووقوع القتال، ولا يلزم من كون القاتل والمقتول في النار أن يكونا في مرتبة واحدة، فالقاتل يعذب على القتال والقتل، والمقتول يعذب على القتال فقط فلم يقع التعذيب على العزم المجرد، وقد تقدم البحث في هذه المسألة في كتاب الرقاق عند الكلام على قوله ‏"‏ من هم بحسنة ومن هم بسيئة ‏"‏ وقالوا في قوله تعالى ‏(‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏)‏ اختيار باب الافتعال في الشر لأنه يشعر بأنه لا بد فيه من المعالجة، بخلاف الخير فإنه يثاب عليه بالنية المجردة، ويؤيده حديث ‏"‏ إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا ‏"‏ والحاصل أن المراتب ثلاث‏:‏ الهم المجرد وهو يثاب عليه ولا يؤاخذ به، واقتران الفعل بالهم أو بالعزم ولا نزاع في المؤاخذة به، والعزم وهو أقوى من الهم وفيه النزاع‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ ورد في اعتزال الأحنف القتال في وقعة الجمل سبب آخر، فأخرج الطبري بسند صحيح عن حصين بن عبد الرحمن عن عمرو بن جاوان قال ‏"‏ قلت له أرأيت اعتزال الأحنف ما كان‏؟‏ قال‏:‏ سمعت الأحنف قال‏:‏ حججنا فإذا الناس مجتمعون في وسط المسجد - يعني النبوي - وفيهم علي والزبير وطلحة وسعد إذ جاء عثمان ‏"‏ فذكر قصة مناشدته لهم في ذكر مناقبه، قال الأحنف‏:‏ فلقيت طلحة والزبير فقلت‏:‏ إني لا أرى هذا الرجل - يعني عثمان - إلا مقتولا، فمن تأمراني به‏؟‏ قالا‏:‏ علي، فقدمنا مكة فلقيت عائشة وقد بلغنا قتل عثمان فقلت لها‏:‏ من تأمريني به‏؟‏ قالت‏:‏ علي، قال فرجعنا إلى المدينة فبايعت عليا ورجعت إلى البصرة فبينما نحن كذلك إذ أتاني آت فقال‏:‏ هذه عائشة وطلحة والزبير نزلوا بجانب الخريبة يستنصرون بك، فأتيت عائشة فذكرتها بما قالت لي، ثم أتيت طلحة والزبير فذكرتهما ‏"‏ فذكر القصة وفيها ‏"‏ قال فقلت والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أقاتل رجلا أمرتموني ببيعته، فاعتزل القتال مع الفريقين‏.‏

ويمكن الجمع بأنه هم بالترك ثم بدا له في القتال مع علي ثم ثبطه عن ذلك أبو بكرة، أو هم بالقتال مع علي فثبطه أبو بكرة، وصادف مراسلة عائشة له فرجح عنده الترك‏.‏

وأخرج الطبري أيضا من طريق قتادة قال‏:‏ نزل علي بالزاوية فأرسل إليه الأحنف‏:‏ إن شئت أتيتك وإن شئت كففت عنك أربعة آلاف سيف، فأرسل إليه‏:‏ كف من قدرت على كفه‏.‏

*3*باب كَيْفَ الْأَمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ

الشرح‏:‏

قول ‏(‏باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة‏)‏ ‏؟‏ كان تامة، والمعنى ما الذي يفعل المسلم في حال الاختلاف من قبل ألا يقع الإجماع على خليفة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ قُلْتُ وَمَا دَخَنُهُ قَالَ قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ قُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا قَالَ هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ قَالَ تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ قَالَ فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا ابن جابر‏)‏ هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر كما صرح به مسلم في روايته عن محمد بن المثنى شيخ البخاري فيه‏.‏

قوله ‏(‏حدثني بسر‏)‏ بضم الموحدة وسكون المهملة ‏(‏ابن عبيد الله‏)‏ بالتصغير تابعي صغير، والسند كله شاميون إلا شيخ البخاري والصحابي‏.‏

قوله ‏(‏مخافة أن يدركني‏)‏ في رواية نصر بن عاصم عن حذيفة عند ابن أبي شيبة ‏"‏ وعرفت أن الخير لن يسبقني‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏في جاهلية وشر‏)‏ يشير إلى ما كان من قبل الإسلام من الكفر وقتل بعضهم بعضا ونهب بعضهم بعضا وإتيان الفواحش‏.‏

قوله ‏(‏فجاءنا الله بهذا الخير‏)‏ يعني الإيمان والأمن وصلاح الحال واجتناب الفواحش، زاد مسلم في رواية أبي الأسود عن حذيفة ‏"‏ فنحن فيه ‏"‏ قوله ‏(‏فهل بعد هذا الخير من شر‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏)‏ في رواية نصر بن عاصم ‏"‏ فتنة وفي رواية سبيع بن خالد عن حذيفة عند ابن أبي شيبة ‏"‏ فما العصمة منه‏؟‏ قال السيف قال فهل بعد السيف من تقية‏؟‏ قال نعم هدنة ‏"‏ والمراد بالشر ما يقع من الفتن من بعد قتل عثمان وهلم جرا أو ما يترتب على ذلك من عقوبات الآخرة‏.‏

قوله ‏(‏قال‏:‏ نعم، وفيه دخن‏)‏ بالمهملة ثم المعجمة المفتوحتين بعدها نون وهو الحقد، وقيل الدغل، وقيل فساد في القلب، ومعنى الثلاثة متقارب‏.‏

يشير إلى أن الخير الذي يجيء بعد الشر لا يكون خيرا خالصا بل فيه كدر‏.‏

وقيل المراد بالدخن الدخان ويشير بذلك إلى كدر الحال، وقيل الدخن كل أمر مكروه‏.‏

وقال أبو عبيد يفسر المراد بهذا الحديث، الحديث الآخر ‏"‏ لا ترجع قلوب قوم على ما كانت عليه ‏"‏ وأصله أن يكون في لون الدابة كدورة فكأن المعنى أن قلوبهم لا يصفو بعضها لبعض‏.‏

قوله ‏(‏قوم يهدون‏)‏ بفتح أوله ‏(‏بغير هديي‏)‏ بباء الإضافة بعد الياء للأكثر وبياء واحدة مع التنوين للكشميهني‏.‏

وفي رواية أبي الأسود ‏"‏ يكون بعدي أئمة يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏تعرف منهم وتنكر‏)‏ يعني من أعمالهم، وفي حديث أم سلمة عند مسلم ‏"‏ فمن أنكر برئ ومن كره سلم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏دعاة‏)‏ بضم الدال المهملة جمع داع أي إلى غير الحق‏.‏

قوله ‏(‏على أبواب جهنم‏)‏ أطلق عليهم ذلك باعتبار ما يؤول إليه حالهم، كما يقال لمن أمر بفعل محرم‏:‏ وقف على شفير جهنم‏.‏

قوله ‏(‏هم من جلدتنا‏)‏ أي من قومنا ومن أهل لساننا وملتنا، وفيه إشارة إلى أنهم من العرب‏.‏

وقال الداودي‏:‏ أي من بني آدم‏.‏

وقال القابسي‏:‏ معناه أنهم في الظاهر على ملتنا وفي الباطن محالفون، وجلدة الشيء ظاهره، وهي في الأصل غشاء البدن، قيل ويؤيد إرادة العرب أن السمرة غالبة عليهم واللون إنما يظهر في الجلد، ووقع في رواية أبي الأسود ‏"‏ فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ‏"‏ وقوله ‏"‏ جثمان ‏"‏ بضم الجيم وسكون المثلثة هو الجسد ويطلق على الشخص، قال عياض‏:‏ المراد بالشر الأول الفتن التي وقعت بعد عثمان، والمراد بالخير الذي بعده ما وقع في خلافة عمر بن عبد العزيز، والمراد بالذين تعرف منهم وتنكر الأمراء بعده، فكان فيهم من يتمسك بالسنة والعدل وفيهم من يدعو إلى البدعة ويعمل بالجور قلت‏:‏ والذي يظهر أن المراد بالشر الأول ما أشار إليه من الفتن الأولى، وبالخير ما وقع من الاجتماع مع علي ومعاوية وبالدخن ما كان في زمنهما من بعض الأمراء كزياد بالعراق وخلاف من خالف عليه من الخوارج، وبالدعاة على أبواب جهنم من قام في طلب الملك من الخوارج وغيرهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله ‏"‏ الزم جماعة المسلمين وإمامهم ‏"‏ يعني ولو جار ويوضح ذلك رواية أبي الأسود ‏"‏ ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك ‏"‏ وكان مثل ذلك كثيرا في إمارة الحجاج ونحوه‏.‏

قوله ‏(‏تلزم جماعة المسلمين وإمامهم‏)‏ بكسر الهمزة أي أميرهم زاد في رواية أبي الأسود ‏"‏ تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ‏"‏ وكذا في رواية خالد بن سبيع عند الطبراني ‏"‏ فإن رأيت خليفة فالزمه وإن ضرب ظهرك، فإن لم يكن خليفة فالهرب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ولو أن تعض‏)‏ بفتح العين المهملة وتشديد الضاد المعجمة أي ولو كان الاعتزال بالعض فلا تعدل عنه‏.‏

وتعض بالنصب للجميع، وضبطه الأشيري بالرفع، وتعقب بأن جوازه متوقف على أن يكون ‏"‏ أن ‏"‏ التي تقدمته مخففة من الثقيلة وهنا لا يجوز ذلك لأنها لا تلي ‏"‏ لو ‏"‏ نبه عليه صاحب المغني‏.‏

وفي رواية عبد الرحمن ابن قرط عن حذيفة عند ابن ماجه ‏"‏ فلأن تموت وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم ‏"‏ والجذل بكسر الجيم وسكون المعجمة بعدها لام عود ينص لتحتك به الإبل، وقوله ‏"‏وأنت على ذلك أي العض‏"‏، وهو كناية عن لزوم جماعة المسلمين وطاعة سلاطينهم ولو عصوا‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ المعنى إذا لم يكن في الأرض خليفة فعليك بالعزلة والصبر على تحمل شدة الزمان، وعض أصل الشجرة كناية عن مكابدة المشقة كقولهم فلان يعض الحجارة من شدة الألم، أو المراد اللزوم كقوله في الحديث الآخر ‏"‏ عضوا عليها بالنواجذ ‏"‏ ويؤيد الأول قوله في الحديث الآخر ‏"‏ فإن مت وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم ‏"‏ وقال ابن بطال‏:‏ فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك الخروج على أئمة الجور، لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم ‏"‏ دعاة على أبواب جهنم ‏"‏ ولم يقل فيهم ‏"‏ تعرف وتنكر ‏"‏ كما قال في الأولين، وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حق، وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة‏.‏

قال الطبري‏:‏ اختلف في هذا الأمر وفي الجماعة، فقال قوم‏:‏ هو للوجوب والجماعة السواد الأعظم، ثم ساق عن محمد بن سيرين عن أبي مسعود أنه وصى من سأله لما قتل عثمان ‏"‏ عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة‏"‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ المراد بالجماعة الصحابة دون من بعدهم‏.‏

وقال قوم‏:‏ المراد بهم أهل العلم لأن الله جعلهم حجة على الخلق والناس تبع لهم في أمر الدين‏.‏

قال الطبري‏:‏ والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة، قال‏:‏ وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابا فلا يتبع أحدا في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر، وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها، ويؤيده رواية عبد الرحمن بن قرط المتقدم ذكرها، قال ابن أبي جمرة‏:‏ في الحديث حكمة الله في عباده كيف أقام كلا منهم فيما شاء؛ فحبب إلى أكثر الصحابة السؤال عن وجوه الخير ليعلموا بها ويبلغوها غيرهم، وحبب لحذيفة السؤال عن الشر ليجتنبه ويكون سببا في دفعه عمن أراد الله له النجاة، وفيه سعة صدر النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بوجوه الحكم كلها حتى كان يجيب كل من سأله بما يناسبه، ويؤخذ منه أن كل من حبب إليه شيء فإنه يفوق فيه غيره، ومن ثم كان حذيفة صاحب السر الذي لا يعلمه غيره حتى خص بمعرفة أسماء المنافقين وبكثير من الأمور الآتية، ويؤخذ منه أن من أدب التعليم أن يعلم التلميذ من أنواع العلوم ما يراه مائلا إليه من العلوم المباحة، فإنه أجدر أن يسرع إلى تفهمه والقيام به وأن كل شيء يهدي إلى طريق الخير يسمى خيرا وكذا بالعكس‏.‏

ويؤخذ منه ذم من جعل للدين أصلا خلاف الكتب والسنة وجعلهما فرعا لذلك الأصل الذي ابتدعوه، وفيه وجوب رد الباطل وكل ما خالف الهدي النبوي ولو قاله من قاله من رفيع أو وضيع‏.‏