فصل: كِتَاب الدِّيَاتِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب الدِّيَاتِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بسم الله الرحم الرحيم كتاب الديات‏)‏ بتخفيف التحتانية جمع دية مثل عدات وعدة، وأصلها ودية بفتح الواو وسكون الدال تقول‏:‏ ودي القتل يديه إذا أعطى وليه ديته، وهي ما جعل في مقابلة النفس، وسمى دية تسمية بالمصدر وفاؤها محذوفة والهاء عوض وفي الأمرد القتيل بدال مكسورة حسب فإن وقفت قلت ده، وأورد البخاري تحت هذه الترجمة ما يتعلق بالقصاص لأن كل ما يجب فيه القصاص يجوز العفو عنه على مال فتكون الدية أشمل، وترجم غيره ‏"‏ كتاب القصاص ‏"‏ وأدخل تحته الديات، بناء على أن القصاص هو الأصل في العمد‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وقول الله تعالى‏:‏ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم‏)‏ كذا للجميع، لكن سقطت الواو الأولى لأبي ذر والنسفي، وفي هذه الآية وعيد شديد لمن قتل مؤمنا متعمدا بغير حق، وقد تقدم النقل في تفسير سورة الفرقان عن ابن عباس وغيره في ذلك وبيان الاختلاف هل للقاتل توبة بما يغني عن إعادته‏.‏

وأخرج إسماعيل القاضي في ‏"‏ أحكام القرآن ‏"‏ بسند حسن أن هذه الآية لما نزلت قال المهاجرون والأنصار وجبت، حتى نزل ‏(‏إن الله لا يغفر به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏)‏ ‏.‏

قلت‏:‏ وعلى ذلك عول أهل السنة في أن القاتل في مشيئة الله، ويؤيده حديث عبادة المتفق عليه بعد أن ذكر القتل والزنا وغيرهما ‏"‏ ومن أصاب من ذلك شيئا فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه ‏"‏ ويؤيده قصة الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم قتل المكمل مائة وقد مضى في ذكر بني إسرائيل من أحادث الأنبياء‏.‏

ثم ذكر فيه خمسة أحاديث مرفوعة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَهَا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا الْآيَةَ

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود ‏"‏ أي الذنب أكبر ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفي في ‏"‏ باب ا إثم الزناة ‏"‏ وقوله ‏"‏ أن تقتل ولدك ‏"‏ قال الكرماني لا مفهوم له لأن القتل مطلقا أعظم‏.‏

قلت‏:‏ لا يمتنع أن يكون الذنب أعظم من غيره وبعض أفراده أعظم من بعض، ثم قال الكرماني وجه كونه أعظم أنه جمع مع القتل ضعف الاعتقاد في أن الله هو الرزاق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا

الشرح‏:‏

حدث ابن عمر‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا علي‏)‏ كذا للجميع غير منسوب ولم يذكره أبو علي الجياني في تقييده ولا نبه عليه الكلاباذي، وقد ذكرت في المقدمة أنه على بن الجعد لأن علي بن المديني لم يدرك إسحاق بن سعيد‏.‏

قوله ‏(‏لا‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ لن‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏في فسحة‏)‏ بضم الفاء وسكون المهملة وبحاء مهملة أي سعة‏.‏

قوله ‏(‏من دينه‏)‏ كذا للأكثر بكسر المهملة من الدين وفي رواية الكشميهني ‏"‏ من ذنبه ‏"‏ فمفهوم الأول أن يضيق عليه دينه ففيه إشعار بالوعيد على قتل المؤمن متعمدا بما يتوعد به الكافر، ومفهوم الثاني أنه يصير في ضيق بسبب ذنبه ففيه إشارة إلى استبعاد العفو عنه لاستمراره في الضيق المذكور‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقتا لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول، وحاصله أنه فسره على رأي ابن عمر في عدم قبول توبة القاتل‏.‏

قوله ‏(‏ما لم يصب دما حراما‏)‏ في رواية إسماعيل القاضي من هذا الوجه ‏"‏ ما لم يتند بدم حرام ‏"‏ وهو بمثناة ثم نون ثم دال ثقيلة ومعناه الإصابة وهو كناية عن شدة المخالطة ولو قلت، وقد أخرج الطبراني في ‏"‏ المعجم الكبير ‏"‏ عن ابن مسعود بسند رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا مثل حديث ابن عمر موقوفا أيضا وزاد في آخره ‏"‏ فإذا أصاب دما حراما نزع من الحياء‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ

الشرح‏:‏

أورد عن أحمد بن يعقوب وهو المسعودي الكوفي عن إسحاق بن سعيد وهو المذكور في السند الذي قبله بالسند المذكور إلى ابن عمر‏.‏

قوله ‏(‏إن من ورطات‏)‏ بفتح الواو والراء، وحكى ابن مالك أنه قيد في الرواية بسكون الراء والصواب التحريك وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها‏.‏

قوله ‏(‏سفك الدم‏)‏ أي إراقته والمراد به القتل بأي صفة كان، لكن لما كان الأصل إراقة الدم عبر به‏.‏

قوله ‏(‏بغير حله‏)‏ في رواية أبي نعيم ‏"‏ بغير حقه ‏"‏ وهو موافق للفظ الآية، وهل الموقوف على ابن عمر منتزع من المرفوع فكأن ابن عمر فهم من كون القاتل لا يكون في فسحه أنه ورط نفسه فأهلكها، لكن التعبير بقوله ‏"‏ من ورطات الأمور ‏"‏ يقتضي المشاركة بخلاف اللفظ الأول فهو أشد في الوعيد، وزعم الإسماعيلي أن هذه الرواية الثانية غلط ولم يبين وجه الغلط، وأظنه من جهة انفراد أحمد بن يعقوب بها فقد رواه عن إسحاق بن سعيد أبو النضر هاشم بن القاسم ومحمد بن كناسة وغيرهما باللفظ الأول، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال لمن قتل عامدا بغير حق ‏"‏ تزود من الماء البارد فإنك لا تدخل الجنة ‏"‏ وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر ‏"‏ زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم ‏"‏ قال الترمذي حديث حسن‏.‏

قلت‏:‏ وأخرجه النسائي بلفظ ‏"‏ لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ‏"‏ قال ابن العربي‏:‏ ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالتقي الصالح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش‏)‏ هذا السند يلتحق بالثلاثيات وهي أعلى ما عند البخاري من حيث العدد، وهذا في حكمه من جهة أن الأعمش تابعي وإن كان روى هذا عن تابعي آخر فإن ذلك التابعي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم تحصل له صحبة‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي وائل عن عبد الله‏)‏ تقدم في ‏"‏ باب القصاص يوم القيامة ‏"‏ في أواخر الرقاق من رواية حفص بن غياث عن الأعمش حدثني شقيق وهو أبو وائل المذكور قال‏:‏ ‏"‏ سمعت عبد الله ‏"‏ وهو ابن مسعود‏.‏

قوله ‏(‏أول ما يقضي بين الناس في الدماء‏)‏ زاد مسلم من طريق آخر عن الأعمش ‏"‏ يوم القيامة ‏"‏ وقد ذكرت شرحه في الباب المذكور وطريق الجمع بينه وبين حديث أبي هريرة ‏"‏ أول ما يحاسب به المرء صلاته ‏"‏ وننبه هنا على أن النسائي أخرجهما في حديث واحد من طريق أبي وائل عن ابن مسعود رفعه ‏"‏ أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضي بين الناس في الدماء ‏"‏ ‏"‏ وما ‏"‏ في هذا الحديث موصولة وهو موصول حرفي ويتعلق الجار بمحذوف أي أول القضاء يوم القيامة القضاء في الدماء أي في الأمر المتعلق بالدماء، وفيه عظم أمر القتل لأن الابتداء إنما يقع بالأهم، وقد استدل به على أن القضاء يختص بالناس ولا مدخل فيه للبهائم، وهو غلط لأن مفاده حصر الأولية في القضاء بين الناس وليس فيه نفي القضاء بين البهائم بعد القضاء بين الناس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيٍّ حَدَّثَهُ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ حَدَّثَهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَقِيتُ كَافِرًا فَاقْتَتَلْنَا فَضَرَبَ يَدِي بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ وَقَالَ أَسْلَمْتُ لِلَّهِ آقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقْتُلْهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ طَرَحَ إِحْدَى يَدَيَّ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا آقْتُلُهُ قَالَ لَا تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمِقْدَادِ إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ فَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبدان‏)‏ هو عبد الله بن عثمان وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد، وعطاء بن يزيد هو الليثي، وعبيد الله بالتصغير هو ابن عدي أي ابن الخيار بكسر المعجمة وتخفيف التحتانية النوفلي له إدراك، وقد تقدم بيانه في مناقب عثمان، والمقداد بن عمر وهو المعروف ابن الأسود‏.‏

قول ‏(‏إن لقيت‏)‏ كذا للأكثر بصيغة الشرط‏.‏

وفي رواية أبي ذر ‏"‏ إني لقيت كافرا فاقتتلنا فضرب يدي فقطعها ‏"‏ وظاهر سياقه أن ذلك وقع، والذي في نفس الأمر بخلافه، وإنما سأل المقداد عن الحكم في ذلك لو وقع، وقد تقدم في غزوة بدر بلفظ ‏"‏ أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار ‏"‏ الحديث وهو يؤيد رواية الأكثر‏.‏

قوله ‏(‏ثم لاذ بشجرة‏)‏ أي التجأ إليها‏.‏

وفي رواية الكشميهني ثم لاذ مني بشجرة والشجرة مثال‏.‏

قوله ‏(‏وقال أسلمت لله‏)‏ أي دخلت في الإسلام‏.‏

قوله ‏(‏فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله‏)‏ قال الكرماني‏:‏ القتل ليس سببا لكون كل منهما بمنزلة الآخر لكن عند النحاة مؤول بالإخبار أي هو سبب لإخباري لك بذلك، وعند البيانيين المراد لازمه كقوله يباح دمك إن عصيت‏.‏

قوله ‏(‏وأنت بمنزلته قبل أن يقول‏)‏ قال الخطابي‏:‏ معناه أن الكافر مباح الدم بحكم الدين قبل أن يسلم، فإذا أسلم صار مصان الدم كالمسلم، فإن قتله المسلم بعد ذلك صار دمه مباحا بحق القصاص كالكافر بحق الدين، وليس المراد إلحاقه في الكفر كما تقوله الخوارج من تكفير المسلم بالكبيرة، وحاصله اتحاد المنزلتين مع اختلاف المأخذ، فالأول أنه مثلك في صون الدم، والثاني أنك مثله في الهدر‏.‏

ونقل ابن التين عن الداودي قال‏:‏ معناه إنك صرت قاتلا كما كان هو قاتلا، قال‏:‏ وهذا من المعاريض، لأنه أراد الإغلاظ بظاهر اللفظ دون باطنه، وإنما أراد أن كلا منهما قاتل، ولم يرد أنه صار كافرا بقتله إياه‏.‏

ونقل ابن بطال عن المهلب معناه فقال‏:‏ أي أنك بقصدك لقتله عمدا آثم كما كان هو بقصده لقتلك آثما، فأنتما في حالة واحدة من العصيان‏.‏

وقيل المعنى أنت عنده حلال الدم قبل أن تسلم وكنت مثله في الكفر كما كان عندك حلال الدم قبل ذلك، وقيل معناه إنه مغفور له بشهادة التوحيد كما أنك مغفور لك بشهود بدر‏.‏

ونقل ابن بطال عن ابن القصار أن معنى قوله ‏"‏ وأنت بمنزلته ‏"‏ أي في إباحة الدم، وإنما قصد بذلك ردعه وزجره عن قتله لا أن الكافر إذا قال أسلمت حرم قتله، وتعقب بأن الكافر مباح الدم والمسلم الذي قتله إن لم يتعمد قتله ولم يكن عرف أنه مسلم وإنما قتله متأولا فلا يكون بمنزلته في إباحته‏.‏

وقال القاضي عياض‏:‏ معناه أنه مثله في مخالفة الحق وارتكاب الإثم وإن اختلف النوع في كون أحدهما كفرا والآخر معصية‏.‏

وقيل المراد إن قتلته مستحلا لقتله فأنت مثله في الكفر، وقيل المراد بالمثلية أنه مغفور له بشهادة التوحيد وأنت مغفور لك بشهود بدر، ونقل ابن التين أيضا عن الداودي أنه أوله على وجه آخر فقال‏:‏ يفسره حديث ابن عباس الذي في آخر الباب ومعناه أنه يجاز أن يكون اللائذ بالشجرة القاطع لليد مؤمنا يكتم إيمانه مع قوم كفار غلبوه على نفسه، فإن قتلته فأنت شاك في قتلك إياه أني ينزله الله من العمد والخطأ كما كان هو مشكوكا في إيمانه لجواز أن يكون يكتم إيمانه، ثم قال‏:‏ فإن قيل كيف قطع يد المؤمن وهو ممن يكتم إيمانه‏؟‏ فالجواب أنه دفع عن نفسه من يريد قتله فجاز له ذلك كما جاز للمؤمن أن يدفع عن نفسه من يريد قتله ولو أفضى إلى قتل من يريد قتله فإن دمه يكون هدرا، فلذلك لم يقد النبي صلى الله عليه وسلم من يد المقداد لأنه قطعها متأولا‏.‏

قلت‏:‏ وعليه مؤاخذات‏:‏ منها الجمع بين القصتين بهذا التكلف مع ظهور اختلافهما، وإنما الذي ينطبق على حديث ابن عباس قصة أسامة الآتية في الباب الذي يليه حيث حمل على رجل أراد قتله فقال إني مسلم فقتله ظنا أنه قال ذلك متعوذا من القتل، وكان الرجل في الأصل مسلما، فالذي وقع للمقداد نحو ذلك كما سأبينه وأما قصة قطع اليد فإنما قالها مستفتيا على تقدير أن لو وقعت كما تقدم تقريره، وإنما تضمن الجواب النهي عن قتله لكونه أظهر الإسلام فحقن دمه وصار ما وقع منه قبل الإسلام عفوا‏.‏

ومنها أن في جوابه عن الاستشكال نظرا لأنه كان يمكنه أن يدفع بالقول بأن يقول له عند إرادة المسلم قتله إني مسلم فيكف عنه، وليس له أن يبادر لقطع يده مع القدرة على القول المذكور ونحوه، واستدل به على صحة إسلام من قال أسلمت لله ولم يزد على ذلك، وفيه نظر لأن ذلك كاف في الكف، على أنه ورد في بعض طرقه أنه قال لا إله إلا الله، وهو رواية معمر عن الزهري عند مسلم في هذا الحديث، واستدل به على جواز السؤال عن النوازل قبل وقوعها بناء على ما تقدم ترجيحه، وأما ما نقل عن بعض السلف من كراهة ذلك فهو محمول على ما يندر وقوعه، وأما ما يمكن وقوعه عادة فيشرع السؤال عنه ليعلم‏.‏

قوله ‏(‏وقال حبيب بن أبي عمرة‏)‏ هو القصاب الكوفي لا يعرف اسم أبيه، وهذا التعليق وصله البزار والدار قطني في ‏"‏ الأفراد ‏"‏ والطبراني في ‏"‏ الكبير ‏"‏ من رواية أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم والد محمد بن أبي بكر المقدمي عن حبيب وفي أوله ‏"‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد، فلما أتوهم وجدوهم تفرقوا وفيهم رجل له مال كثير لم يبرح فقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، فأهوى إليه المقداد فقتله ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا مقداد قتلت رجلا قال لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله، فأنزل الله ‏(‏يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا‏)‏ الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمقداد‏:‏ كان رجلا مؤمنا يخفي إيمانه ‏"‏ إلخ قال الدار قطني‏:‏ تفرد به حبيب وتفرد به أبو بكر عنه‏.‏

قلت‏:‏ قد تابع أبا بكر سفيان الثوري لكنه أرسله، أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عنه، وأخرجه الطبري من طريق أبي إسحاق الفزاري عن الثوري كذلك، ولفظ وكيع بسنده عن سعيد بن جبير ‏"‏ خرج المقداد بن الأسود في سرية ‏"‏ فذكر الحديث مختصرا إلى قوله ‏"‏ فنزلت ‏"‏ ولم يذكر الخبر المعلق، وقد تقدمت الإشارة إلى هذه القصة في تفسير سورة النساء، وبينت الاختلاف في سبب نزول الآية المذكورة، وطريق الجمع، ولله الحمد‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ أَحْيَاهَا

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلَّا بِحَقٍّ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ومن أحياها‏)‏ في رواية غير أبي ذر ‏"‏ باب قوله تعالى ومن أحياها ‏"‏ وذاد المستملي والأصيلي ‏(‏فكأنما أحيا الناس جميعا‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏قال ابن عباس‏:‏ من حرم قتلها إلا بحق فكأنما أحيا الناس جميعا‏)‏ وصله ابن أبي حاتم، ومضى بيانه في تفسر سورة المائدة‏.‏

وذكره مغلطاي من طريق وكيع عن سفيان عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس، واعترض بأن خصيفا ضعيف، وهو اعتراض ساقط لوجوده من غير رواية خصيف، والمراد من هذه الآية صدرها وهو قوله تعالى‏:‏ ‏(‏من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا‏)‏ وعليه ينطبق أول أحادث الباب وهو قوله‏:‏ ‏"‏ إلا كان علي ابن آدم الأول كفل منها ‏"‏ وسائرها في تعظيم أمر القتل وهي اثنا عشر حديثا قال ابن بطال‏:‏ فيها تغليظ أمر القتل والمبالغة في الزجر عنه، قال‏:‏ واختلف السلف في المراد بقوله‏:‏ ‏(‏قتل الناس جميعا وأحيا الناس جميعا‏)‏ فقالت طائفة‏:‏ معناه تغليظ الوزر والتعظيم في قتل المؤمن أخرجه الطبري عن الحسن ومجاهد وقتادة، ولفظ الحسن أن قاتل النفس الواحدة يصير إلى النار كما لو قتل الناس جميعا، وقتل معناه أن الناس خصماؤه جمعيا، وقيل يجب عليه من القود بقتله المؤمن مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعا، لأنه لا يكون عليه غير قتلة واحدة لجميعهم، أخرجه الطبري عن زيد بن أسلم، واختار الطبري أن المراد بذلك تعظيم العقوبة وشدة الوعيد من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استيجاب غضب الله وعذابه وفي مقابله أن من لم يقتل أحدا فقد حيى الناس منه جميعا لسلامتهم منه وحكى ابن التين أن معناه أن من وجب له قصاص فعفا عنه أعطى من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعا، وقتل وجب شكره على الناس جميعا وكأنما من عليهم جميعا‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ وإنما اختار هذا لأنه لا توجد نفس يقوم قتلها في عاجل الضر مقام قتل جميع النفوس، ولا إحياؤها في عاجل النفع مقام إحياء جميع النفوس‏.‏

قلت‏:‏ واختار بعض المتأخرين تخصيص الشق الأول بابن آدم الأول لكونه سن القتل‏.‏

وهتك حرمة الدماء وجرا الناس على ذلك، وهو ضعيف لأن الإشارة بقوله في أول الآية ‏(‏من أجل ذلك‏)‏ لقصة ابني آدم فدل على أن المذكور بعد ذلك متعلق بغيرهما، فالحمل على ظاهر العموم أولى والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا سفيان‏)‏ هو الثوري، ويحتمل أن يكون ابن عيينة فسيأتي في الاعتصام من رواية الحميدي عنه حدثنا الأعمش‏.‏

قوله ‏(‏الأعمش‏)‏ هو سليمان بن مهران‏.‏

قوله ‏(‏عن عبد الله بن مرة‏)‏ في رواية حفص بن غياث عن الأعمش ‏"‏ حدثني عبد الله بن مرة ‏"‏ وهو الخارتي بمعجمة وراء مكسورة وفاء كوفي، وفي السند ثلاثة من التابعين‏.‏

في نسق كوفيون‏.‏

قوله ‏(‏لا تقتل نفس‏)‏ زاد حفص د روايته ‏"‏ ظلما ‏"‏ وفي الاعتصام ‏"‏ لهس من نفس تقتل ظلما‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏على ابن آدم الأول‏)‏ هو قابيل عن الأكثر، وعكس القاضي جمال الدين بن واصل في تاريخه فقال‏:‏ اسم المقتول قابيل اشتق من قبول قربانه، وقيل اسمه قابن بنون بدل اللام بغير ياء، وقيل قبن مثله بغير ألف، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في ‏"‏ باب خلق آدم من بدء الخلق ‏"‏ وأخرج الطبري عن ابن عباس‏:‏ كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه، إنما كان القربان يقربه الرجل فمهما قبل تنزل النار فتأكله وإلا فلا، وعن الحسن‏:‏ لم يكونا ولدي آدم لصلبه وإنما كانا من بني إسرائيل أخرجه الطبري، ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ كانا ولدي آدم لصلبه وهذا هو المشهور، ويؤيده حديث الباب لوصفه ابن بأنه الأول أي أول ما ولد لآدم، ويقال إنه لم يولد في الجنة لآدم غيره وغير توأمته، ومن ثم فخر على أخيه هابيل فقال‏:‏ نحن من أولاد الجنة وأنتما من أولاد الأرض، ذكر ذلك ابن إسحاق في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ وعن الحسن‏:‏ ذكر لي أن هابيل قتل وله عشرون سنة ولأخيه القاتل خمس وعشرون سنة، وتفسير هابيل هبة الله، ولما قتل هابيل وحزن عليه آدم ولد له بعد ذلك شيث ومعناه عطية الله ومنه انتشرت ذرية آدم‏.‏

وقال الثعلبي‏:‏ ذكر أهل العلم بالقرآن أن حواء ولدت لآدم أربعين نفسا في عشرين بطنا أولهم قابيل وأخته إقليما وآخرهم عبد المغيث وأمة المغيث ثم لم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا وهلكوا كلهم فلم يبق بعد الطوفان إلا ذرية نوح وهو من نسل شيث، قال الله تعالى ‏(‏وجعلنا ذريته هم الباقين‏)‏ وكان معه في السفينة ثمانون نفسا وهو المشار إليهم بقوله تعالى ‏(‏وما آمن معه إلا قليل‏)‏ ومع ذلك فما بقي إلا نسل نوح فتوالدوا حتى ملؤوا الأرض، وقد تقدم شيء من ذلك ترجمة نوح من أحاديث الأنبياء‏.‏

قوله ‏(‏كفل منها‏)‏ زاد في الاعتصام‏:‏ وربما قال سفيان من دمها، وزاد في آخره‏:‏ لأنه من سن القتل، وهذا مثل لفظ حفص بن غياث الماضي في خلق آدم، والكفل بكسر أوله وسكون الفاء النصيب، وأكثر ما يطلق على الأجر والضعف على الإثم، ومنه قوله تعالى ‏(‏كفلين من رحمته‏)‏ ووقع على الإثم في قوله تعالى ‏(‏ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها‏)‏ وقوله ‏"‏ لأنه أول من سن القتل ‏"‏ فيه أن من سن شيئا كتب له أو عليه، وهو أصل في أن المعونة على ما لا يحل حرام، وقد أخرج مسلم من حديث جرير ‏"‏ من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ‏"‏ وهو محمول على من لم يتب من ذلك الذنب‏.‏

وعن السدي‏:‏ شدخ قابيل رأس أخيه بحجر فمات‏.‏

وعن ابن جريح‏:‏ تمثل له إبليس فأخذ بحجر فشدخ به رأس طير ففعل ذلك قابيل وكان ذلك على جبل ثور، وقيل على عقبة حراء، وقيل بالهند، وقيل بموضع المسجد الأعظم بالبصرة، وكان من شأنه في دفنه ما قصه الله في كتابه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي عَنْ أَبِيهِ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏واقد بن عبد الله أخبرني‏)‏ هو من تقديم الاسم على الصيغة، وواقد هذا قال أبو ذر في روايته كذا وقع هنا واقد بن عبد الله واقد بن عبد الله والصواب واقد بن محمد‏.‏

قلت‏:‏ وهو كذلك لكن لقوله واقد ابن عبد الله توجيه وهو أن يكون الراوي نسبه لجده الأعلى عبد الله بن عمر فإنه واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله ابن عمر، والذي نسبه كذلك أبو الوليد شيخ البخاري فيه، فقد أخرجه أبو داود في السنن عن أبي الوليد كذلك، وتقدم للمصنف في الأدب من رواية خالد بن الحارث عن شعبة على الحقيقة فقال ‏"‏ عن واقد بن محمد ‏"‏ ويأتي في الفتن عن حجاج بن منهال عن شعبة كذلك وكذا لمسلم والنسائي من رواية غندر عن شعبة، ثم وجدته في الأول من فوائد أبي عمرو بن السماك كل من طريق عفان عن شعبة كما قال أبو الوليد، فلعل نسبته كذلك من شعبة، لكن أخرجه أحمد كل عن عفان وغيره عن شعبة كالجادة، وفي الجملة فقوله ‏"‏ عن أبيه ‏"‏ لا ينصرف لعبد الله بل لمحمد بن زيد جزما، ‏.‏

فمن ترجم لعبد الله والد واقد في رجال البخاري أخطأ، نعم في هذا النسب واقد عبد الله بن عمر تابعي معروف، وهو أقدم من هذا فإنه عم والد واقد المذكور هنا، وله والد اسمه عبد الله بن واقد وقد أخرج له مسلم‏.‏

قوله ‏(‏لا ترجعوا بعدي كفارا‏)‏ جملة ما فيه من الأقوال ثمانية‏:‏ أحدها قول الخوارج إنه على ظاهره، ثانيها هو في المستحلين، ثالثها المعنى كفارا بحرمة الدماء وحرمة المسلمين وحقوق الدين، رابعها تفعلون فعل الكفار في قتل بعضهم بعضا، خامسها لابسين السلاح يقال كفر درعه إذا لبس فوقها ثوبا، سادسها كفارا بنعمة الله، سابعها المراد الزجر عن الفعل وليس ظاهره مرادا، ثامنها لا يكفر بعضكم بعضا كأن يقول أحد الفريقين للآخر يا كافر فيكفر أحدهما، ثم وجدت تاسعا وعاشرا ذكرتهما في كتاب الفتن، وسيأتي شرح الحديث مستوفي في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ اسْتَنْصِتْ النَّاسَ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث جرير وهو ابن عبد الله البجلي‏.‏

قوله ‏(‏استنصت الناس‏)‏ أي اطلب منهم الإنصات ليسمعوا الخطبة، وقد تقدم أتم سياقا من هذا في كتاب الحج، ويأتي شرحه في الفتن أيضا‏.‏

قوله ‏(‏رواه أبو بكرة وابن عباس‏)‏ يريد قوله لا ترجعوا بعدي كفارا، وحديث أبي بكرة وصله المؤلف مطولا في الحج وشرح هناك، ويأتي في الفتن أيضا، وكذلك حديث ابن عباس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ قَالَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ شَكَّ شُعْبَةُ وَقَالَ مُعَاذٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ قَالَ وَقَتْلُ النَّفْسِ

الشرح‏:‏

حديث عبد الله بن عمرو في الكبائر تقدم شرحه في كتاب الأدب‏.‏

قوله ‏(‏وعقوق الوالدين أو قال اليمين الغموس شك شعبة‏)‏ قلت تقدم في الأيمان والنذور من طريق النضر بن شميل عن شعبة بالواو بغير شك وزاد مع الثلاثة ‏"‏ وقتل النفس ‏"‏ وهو المراد في هذا الباب‏.‏

قوله ‏(‏معاذ‏)‏ هر ابن معاذ العنبري، وهو من تعاليق البخاري، وجوز الكرماني أن يكون مقول محمد بن بشار فيكون موصولا، وقد وصله الإسماعيلي من رواية عبيد الله بن معاذ عن أبيه ولفظه ‏"‏ والكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين أو قال قتل النفس واليمين الغموس ‏"‏ وهذا مطابق لتعليق البخاري إلا أن فيه تأخير اليمين الغموس، والغرض منه إنما هو إثبات قتل النفس، وحاصل الاختلاف على شعبة أنه تارة ذكرها وتارة لم يذكرها وأخرى ذكرها مع الشك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْكَبَائِرُ ح و حَدَّثَنَا عَمْرٌو وَهُوَ ابْنُ مَرْزُوقٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَوْلُ الزُّورِ أَوْ قَالَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ

الشرح‏:‏

حديث أنس في الكبائر أيضا تقدم شرحه في كتاب الأدب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ حَدَّثَنَا أَبُو ظَبْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ قَالَ فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ قَالَ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ قَالَ فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ فَكَفَّ عَنْهُ الْأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ قَالَ فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَقَالَ لِي يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا قَالَ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ

الشرح‏:‏

حديث أسامة، قوله ‏(‏حدثنا عمرو بن زرارة حدثنا هشيم‏)‏ تقدم في المغازي عن عمرو بن محمد عن هشيم وكلاهما من شيوخ البخاري‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا هشيم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أنبأنا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا حصين‏)‏ في رواية أبي ذر والأصيلي ‏"‏ أنبأنا حصين ‏"‏ وهو ابن عبد الرحمن الواسطي من صغار التابعين، وأبو ظبيان بظاء معجمة مفتوحة ثم موحدة ساكنة ثم ياء آخر الحروف واسمه أيضا حصين وهو ابن جندب من كبار التابعين‏.‏

قوله ‏(‏بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة‏)‏ بضم المهملة وبالراء ثم قاف وهم بطن من جهينة تقدم نسبتهم إليهم في غزوة الفتح، قال ابن الكلبي‏:‏ سموا بذلك لوقعة كانت بينهم وبين بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان فأحرقوهم بالسهام لكثرة من قتلوا منهم، وهذه السرية يقال لها سرية غالب بن عبيد الله الليثي وكانت في رمضان سنة سبع فيما ذكره ابن سعد عن شيخه، وكذا ذكره ابن إسحاق في المغازي ‏"‏ حدثني شيخ من أسلم عن رجال من قومه قالوا‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبيد الله الكلبي ثم الليثي إلى أرض بني مرة وبها مرداس بن نهيك حليف لهم من بنى الحرقة فقتله أسامة ‏"‏ فهذا يبين السبب في قول أسامة ‏"‏ بعثنا إلى الحرقات من جهينة ‏"‏ والذي يظهر أن قصة الذي قتل ثم مات فدفن ولفظته الأرض غير قصة أسامة، لأن أسامة عاش بعد ذلك دهرا طويلا، وترجم البخاري في المغازي ‏"‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة ‏"‏ فجرى الداودي في شرحه على ظاهره فقال فيه ‏"‏ تأمير من لم يبلغ ‏"‏ وتعقب من وجهين‏:‏ أحدهما أنه ليس فيه تصريح بأن أسامة كان الأمير إذ يحتمل أن يكون جعل الترجمة باسمه لكونه وقعت له تلك الواقعة لا لكونه كان الأمير، والثاني أن كانت إن كانت سنة سبع أو ثمان فما كان أسامة يومئذ إلا بالغا لأنهم ذكروا أنه كان له لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر عاما‏.‏

قوله ‏(‏فصبحنا القوم‏)‏ أي هجموا عليهم صباحا قبل أن يشعروا بهم، يقال صبحته أتيتيه صباحا بغتة، ومنه قوله ‏(‏ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏ولحقت أنا ورجل من الأنصار‏)‏ لم اقف على اسم الأنصاري المذكور في هذه القصة قوله ‏(‏رجلا منهم‏)‏ قال ابن عبد البر اسمه مرداس بن عمرو الفدكي ويقال، مرداس بن نهيك الفزاري وهو قول ابن الكلبي قتله أسامة وساق القصة، وذكر ابن منده أن أبا سعيد الخدري قال ‏"‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها أسامة إلى بني ضمرة ‏"‏ فذكر قتل أسامة الرجل‏.‏

وقال ابن أبي عاصم في الديات ‏"‏ حدثنا يعقوب بن حميد حدثنا يحيى بن سليم عن هشام بن حسان عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا إلى فدك فأغاروا عليهم، وكان مرداس الفدكي قد خرج من الليل وقال لأصحابه أني لاحق بمحمد وأصحابه فبصر به رجل فحمل عليه فقال إني مؤمن فقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هلا شققت عن قلبه‏:‏ قال فقال أنس‏:‏ إن قاتل مرداس مات فدفنوه فأصبح فوق القبر فأعادوه فأصبح فوق القبر مرارا فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن يطرح في واد بين جبلين ثم قال‏:‏ إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله وعظكم‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ إن ثبت هذا فهو مرداس آخر، وقتيل أسامة لا يسمى مرداسا، وقد وقع مثل هذا عند الطبري في قتل محلم بن جثامة عامر بن الأضبط وأن محلهما لما مات ودفن لفظته الأرضي فذكر نحوه‏.‏

قوله ‏(‏غشيناه‏)‏ بفتح أوله وكسر ثانيه معجمتين أي لحقنا به حتى تغطي بنا‏.‏

وفي رواية الأعمش عن أبي ظبيان عند مسلم ‏"‏ فأدركت رجلا فطعنته برمحي حتى قتلته ‏"‏ ووقع في حديث جندب عند مسلم ‏"‏ فلما رفع عليه السيف قال لا إله إلا الله فقتله ‏"‏ ويجمع بأنه رفع عليه السيف أولا فلما لم يتمكن من ضربه بالسيف طعنه بالرمح‏.‏

قوله ‏(‏فلما قدمنا‏)‏ أي المدينة ‏(‏بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية الأعمش ‏"‏ فوقع في نفسي من ذلك شيء فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ولا منافاة بينهما لأنه يحمل على أن ذلك بلغ النبي صلى الله عليه وسلم من أسامة لا من غيره، فتقديره الأول بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مني‏.‏

قوله ‏(‏أقتلته بعد ما قال‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ بعد أن قال ‏"‏ قال ابن التين‏:‏ في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ في تكريره ذلك والإعراض عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام على مثل ذلك‏.‏

قوله ‏(‏إنما كان متعوذا‏)‏ في رواية الأعمش ‏"‏ قالها خوفا من السلاح ‏"‏ وفي رواية ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أسامة ‏"‏ إنما فعل ذلك ليحرز دمه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال قلت يا رسول الله والله إنما كان متعوذا‏)‏ كذا أعاد الاعتذار وأعيد عليه الإنكار‏.‏

وفي رواية الأعمش ‏"‏ أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ‏"‏ قال النووي الفاعل في قوله ‏"‏ أقالها ‏"‏ هو القلب، ومعناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان وأما القلب فليس لك طريق إلى ما فيه، فأنكر عليه ترك العمل بما ظهر من اللسان فقال ‏"‏ أفلا شققت عن قلبه ‏"‏ لتنظر هل كانت فيه حين قالها واعتقدها أو لا، والمعنى أنك إذا كنت لست قادرا على ذلك فاكتف منه باللسان‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ فيه حجة لمن أثبت الكلام النفسي، وفيه دليل عل ترتب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة‏.‏

قوله ‏(‏حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم‏)‏ أي أن إسلامي كان ذلك اليوم لأن الإسلام يجب ما قبله، فتمنى أن يكون ذلك الوقت أول دخوله في الإسلام ليأمن من جريرة تلك الفعلة، ولم يرد أنه تمنى أن لا يكون مسلما قبل ذلك‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وفيه إشعار بأنه كان استصغر ما سبق له قبل ذلك من عمل صالح في مقابلة هذه الفعلة لما سمع من الإنكار الشديد، وإنما أورد ذلك على سبيل المبالغة، ويبين ذلك أن في بعض طرقه في رواية الأعمش ‏"‏ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ ‏"‏ ووقع عند مسلم من حديث جندب بن عبد الله في هذه القصة زيادات ولفظه ‏"‏ بعث بعثا من المسلمين إلى قوم من المشركين فالتقوا فأوجع رجل من المشركين فيهم فأبلغ، فقصد رجل من المسلمين غيلته - كنا نتحدث إنه أسامة بن زيد - فلما رفع عليه السيف قال‏:‏ لا إله إلا الله فقتله ‏"‏ الحديث‏.‏

وفيه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ فكيف تصنع بلا إلى إله إلا الله إذا أتتك يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ يا رسول الله استغفر لي، قال‏:‏ كيف تصنع بلا إله إلا الله‏؟‏ فجعل لا يزيده على ذلك ‏"‏ وقال الخطابي‏:‏ لعل أسامة تأول قوله تعالى ‏(‏فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا‏)‏ ولذلك عذره النبي صلى الله عليه وسلم فلم يلزمه دية ولا غيرها‏.‏

قلت‏:‏ كأنه حمل نفي النفع على عمومه دنيا وأخرى، وليس ذلك المراد، والفرق بين المقامين أنه في مثل تلك الحالة ينفعه نفعا مقيدا بأن يجب الكف عنه حتى يختبر أمره هل قال ذلك خالصا من قلبه أو خشية من القتل، وهذا بخلاف ما لو هجم عليه الموت ووصل خروج الروح إلى الغرغرة وانكشف الغطاء فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة وهو المراد من الآية، وأما كونه لم يلزمه دية ولا كفارة فيتوقف فيه الداودي وقال‏:‏ لعله سكت عنه لعلم السامع أو كان ذلك قبل نزول آية الدية والكفارة‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ لا يلزم من السكوت عنه عدم الوقوع، لكن فيه بعد لأن العادة جرت بعدم السكوت عن مثل ذلك إن وقع، قال‏:‏ فيحتمل أنه لم يجب عليه شيء لأنه كان مأذونا له في أصل القتل فلا يضمن ما أتلف من نفس ولا مال كالخاتن والطبيب، أو لأن المقتول كان من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين يستحق ديته، قال‏:‏ وهذا يتمشى على بعض الآراء، أو لأن أسامة أقر بذلك ولم تقم بذلك بينة فلم تلزم العاقلة الدية وفيه نظر‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ كانت هذه القصة سبب حلف أسامة أن لا يقاتل مسلما بعد ذلك، ومن ثم تخلف عن علي في الجمل وصفين كما سيأتي بيانه في كتاب الفتن‏.‏

قلت‏:‏ وكذا وقع في رواية الأعمش المذكورة ‏"‏ أن سعد بن أبي وقاص كان يقول لا أقاتل مسلما حتى يقاتله أسامة ‏"‏ واستدل به النووي على رد الفرع الذي ذكره الرافعي فيمن رأى كافرا أسلم فأكرم إكراما كثرا فقال ليتني كنت كافرا فأسلمت لأكرم، فقال الرافعي‏:‏ يكفر بذلك، ورده النووي بأنه لا يكفر لأنه جازم الإسلام في الحال والاستقبال، وإنما تمنى ذلك في الحال الماضي مقيدا له بالإيمان ليتم له الإكرام، واستدل بقصة أسامة ثم قال‏:‏ ويمكن الفرق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنِّي مِنْ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَلَا نَنْتَهِبَ وَلَا نَعْصِيَ بِالْجَنَّةِ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ

الشرح‏:‏

حديث عبادة‏.‏

قوله ‏(‏حدثني يزيد‏)‏ هو ابن أبي كل حبيب المصري‏.‏

وأبو الخير هو مرثد بن عبد الله، والصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة بمهملتين مصغر‏.‏

قوله ‏(‏إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ يعني ليلة العقبة‏.‏

قوله ‏(‏بايعناه على أن لا نشرك‏)‏ ظاهره أن هذه البيعة على هذه الكيفية كانت ليلة العقبة، وليس كذلك كما بينته في كتاب الإيمان في أوائل الصحيح، وإنما كانت البيعة ليلة العقبة ‏"‏ على المنشط والمكره في العسر واليسر إلى آخره ‏"‏ وأما البيعة المذكورة هنا وهي التي تسمى بيعة النساء‏.‏

فكانت بعد ذلك بمدة، فإن آية النساء التي فيها البيعة المذكورة نزلت بعد عمرة الحديبية في زمن الهدنة وقبل فتح مكة، وكانت البيعة التي وقعت للرجال على وفقها كانت عام الفتح، وقد أوضحت ذلك والسبب في الحمل عليه في كتاب الإيمان، ومضى شرح الحديث هناك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر‏.‏

قوله ‏(‏جويرية‏)‏ بالجيم تصغير جارية وهر ابن أسماء سمع من نافع مولى ابن عمر وحدث عنه بواسطة مالك أيضا‏.‏

قوله ‏(‏من حمل علينا السلاح فليس منا‏)‏ المراد من حمل عليهم السلاح لقتالهم لما فيه من إدخال الرعب عليهم، لا من حمله لحراستهم مثلا فإنه يحمله لهم لا عليهم، وقوله فليس منا أي على طريقتنا، وأطلق اللفظ مع احتمال إرادة أنه ليس على الملة للمبالغة في الزجر والتخويف، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ قلت‏:‏ سيأتي موصولا مع شرحه في كتاب الفتن ومعه حديث أبي هريرة بمعناه، وهو عند مسلم من حديث سلمة بلفظ ‏"‏ من حمل علينا السيف‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَيُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قُلْتُ أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ قَالَ ارْجِعْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أيوب‏)‏ هو السختياني، ويونس هو ابن عبيد البصري، والحسن البصري‏.‏

قوله ‏(‏عن الأحنف‏)‏ هو ابن قيس‏.‏

قوله ‏(‏لأنصر هذا الرجل‏)‏ هو علي بن أبي طالب وكان الأحنف تخلف عنه في وقعة الجمل‏.‏

قوله ‏(‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما‏)‏ بالتثنية‏.‏

وفي رواية الكشميهني بالإفراد‏.‏

قوله ‏(‏في النار‏)‏ أي إن أنفذ الله عليهما ذلك لأنهما فعلا فعلا يستحقان أن يعذبا من أجله، وقوله ‏"‏إنه كان حريصا على قتل صاحبه ‏"‏ احتج به الباقلاني ومن تبعه على أن من عزم على المعصية يأثم ولو لم يفعلها، وأجاب من خالفه بأن هذا شرع في الفعل والاختلاف فيمن هم مجردا ثم صمم ولم يفعل شيئا هل يأثم، وقد تقدم شرحه مستوفى في شرح حديث ‏"‏ من هم بحسنة ومن هم بسيئة ‏"‏ في كتاب الرقاق‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ هذا الوعيد لمن قاتل على عداوة دنيوية أو طلب ملك مثلا، فأما من قاتل أهل البغي أو دفع الصائل فقتل فلا يدخل في هذا الوعيد لأنه مأذون له في القتال شرعا، وسيأتي شرح هذا الحديث في كتاب الفتن أيضا إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى

الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى ‏(‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الآية‏)‏ كذا لأبي ذر‏.‏

وفي رواية الأصيلي والنسفي وابن عساكر ‏(‏القتلى الحر بالحر - إلى قوله - عذاب أليم‏)‏ وللإسماعيلي ‏(‏القتلى - إلى قوله - أليم‏)‏ وساق في رواية كريمة الآية كلها‏.‏

*3*باب سُؤَالِ الْقَاتِلِ حَتَّى يُقِرَّ وَالْإِقْرَارِ فِي الْحُدُودِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب سؤال القاتل حتى يقر، والإقرار في الحدود‏)‏ كذا للأكثر، وبعده حديث أنس في قصة اليهودي والجارية‏.‏

ووقع عند النسفي وكريمة وأبي نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ بحذف ‏"‏ باب ‏"‏ وقالوا بعد قوله عذاب أليم ‏"‏ وإذا لم يزل يسأل القاتل حتى أقر ‏"‏ والإقرار في الحدود، وصنيع الأكثر أشبه، وقد صرح الإسماعيلي بأن الترجمة الأولى بلا حديث‏.‏

قلت‏:‏ والآية المذكورة أصل في اشتراط التكافؤ في القصاص وهو قول الجمهور، وخالفهم الكوفيون فقالوا يقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر الذمي، وتمسكوا بقوله تعالى ‏(‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏)‏ قال إسماعيل القاضي في ‏"‏ أحكام القرآن ‏"‏‏:‏ الجمع بين الآيتين أولى، فتحمل النفس على المكافئة، ويؤيده اتفاقهم على أن الحر لو قذف عبدا لم يجب عليه حد القذف، قال ويؤخذ الحكم من الآية نفسها فإن في آخرها ‏(‏فمن تصدق به فهو كفارة له‏)‏ والكافر لا يسمى متصدقا ولا مكفرا عنه، وكذلك العبد لا يتصدق بجرحه لأن الحق لسيده‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ لما اتفقوا على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس كانت النفس أولى بذلك‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ أجمعوا على أن العبد يقتل بالحر وأن الأنثى تقتل بالذكر ويقتل بها إلا أنه ورد عن بعض الصحابة كعلي والتابعين كالحسن البصري أن الذكر إذا قتل الأنثى فشاء أولياؤها قتله وجب عليهم نصف الدية وإلا فلهم الدية كاملة قال‏:‏ ولا يثبت عن علي لكن هو قول عثمان البتي أحد فقهاء البصرة، ويدل على التكافؤ بين الذكر والأنثى أنهم اتفقوا على أن مقطوع اليد والأعور لو قتله الصحيح عمدا لوجب عليه القصاص ولم يجب له بسبب عينه أو يده دية‏.‏

قوله في الترجمة ‏(‏سؤال القاتل حتى يقر‏)‏ أي من اتهم بالقتل ولم تقم عليه البينة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَقِيلَ لَهَا مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا أَفُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا همام‏)‏ هو ابن يحيى‏.‏

قوله ‏(‏عن أنس‏)‏ في رواية حبان بفتح المهملة وتشديد الموحدة عن همام الآتية بعد سبعة أبواب ‏"‏ حدثنا أنس‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أن يهوديا‏)‏ لم أقف على اسمه‏.‏

قوله ‏(‏رض رأس جارية‏)‏ الرض بالضاد المعجمة والرضخ بمعنى، والجارية يحتمل أن تكون أمة ويحتمل أن تكون حرة لكن دون البلوغ وقد وقع في رواية هشام بن زيد عن أنس في الباب الذي يليه ‏"‏ خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة فرماها يهودي بحجر ‏"‏ وتقدم من هذا الوجه في الطلاق بلفظ ‏"‏ عدا يهودي على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ورضخ رأسها ‏"‏ وفيه ‏"‏ فأتى أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق ‏"‏ وهذا لا يعين كونها حرة لاحتمال أن يراد بأهلها مواليها رقيقة كانت أو عتيقة، ولم أقف على اسمها لكن في بعض طرقه أنها من الأنصار، ولا تنافي بين قوله ‏"‏ رض رأسها بين حجرين ‏"‏ وبين قوله ‏"‏ رماها بحجر ‏"‏ وبين قوله ‏"‏ رضخ رأسها ‏"‏ لأنه يجمع بينها بأنه رماها بحجر فأصاب رأسها فسقطت على حجر آخر، وأما قوله ‏"‏ على أوضاح ‏"‏ فمعناه بسبب أوضاح، وهي بالضاد المعجمة والحاء المهملة جمع وضح، قال أبو عبيد هي حلي الفضة، ونقل عياض أنها حلي من حجارة، ولعله أراد حجارة الفضة احترازا من الفضة المضروبة أو المنقوشة‏.‏

قوله ‏(‏فقيل لها من فعل بك هذا أفلان أو فلان‏)‏ ‏؟‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فلان أو فلان ‏"‏ بحذف الهمزة، وقد تقدم في الأشخاص من وجه آخر عن همام ‏"‏ أفلان أفلان ‏"‏ بالتكرار بغير واو عطف، وجاء بيان الذي خاطبها بذلك في الرواية التي تلي هذه بلفظ ‏"‏ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان قتلك ‏"‏ وبين في رواية أبي قلابة عن أنس عند مسلم وأبي داود ‏"‏ فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها من قتلك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حتى سمي اليهودي‏)‏ زاد في الروايتين اللتين في الأشخاص والوصايا ‏"‏ فأومأت برأسها ‏"‏ ووقع في رواية هشام بن زيد في الرواية التي تلي هذا بيان الإيماء المذكور وأنه كان تارة دالا على النفي وتارة دالا على الإثبات بلفظ ‏"‏ فلان قتلك‏؟‏ فرفعت رأسها، فأعاد فقال‏:‏ فلان قتلك‏؟‏ فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة‏:‏ فلان قتلك‏؟‏ فخفضت رأسها ‏"‏ وهو مشعر بأن فلانا الثاني غير الأول، ووقع التصريح بذلك في الرواية التي في الطلاق وكذا الآتية بعد بابين ‏"‏ فأشارت برأسها أن لا، قال‏:‏ ففلان‏؟‏ لرجل آخر يعني عن - رجل آخر - فأشارت أن لا‏.‏

قال‏:‏ ففلان قاتلها فأشارت أن نعم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فلم يزل به حتى أقر‏)‏ في الوصايا ‏"‏ فجيء به يعترف فلم يزل به حتى اعترف ‏"‏ قال أبو مسعود‏:‏ لا أعلم أحدا قال في هذا الحديث‏:‏ فاعترف ولا‏.‏

فأقر إلا همام بن يحيى، قال المهلب‏:‏ فيه أنه ينبغي للحاكم أن يستدل على أهل الجنايات ثم يتلطف بهم حتى يقروا ليؤخذوا بإقرارهم، وهذا بخلاف ما إذا جاءوا تائبين فإنه يعرض عمن لم يصرح بالجناية فإنه يجب إقامة الحد عليه إذا أقر، وسياق القصة يقتضي أن اليهودي لم تقم عليه بينة وإنما أخذ بإقراره، وفيه أنه تجب المطالبة بالدم بمجرد الشكوى وبالإشارة، قال‏:‏ وفيه دليل على جواز وصية غير البالغ ودعواه بالدين والدم‏.‏

قلت‏:‏ في هذا نظر لأنه لم يتعين كون الجارية دون البلوغ‏.‏

وقال المازري فيه الرد على من أنكر القصاص بغير السيف، وقتل الرجل بالمرأة‏.‏

قلت‏:‏ وسيأتي البحث فيهما في بابين مفردين قال‏:‏ واستدل به بعضهم على التدمية لأنها لو لم تعتبر لم يكن لسؤال الجارية فائدة، قال‏:‏ ولا يصح اعتباره مجردا لأنه خلاف الإجماع فلم يبق إلا إنه يفيد القسامة‏.‏

وقال النووي‏:‏ ذهب مالك إلى ثبوت قتل المتهم بمجرد قول المجروح، واستدل بهذا الحديث، ولا دلالة فيه بل هو قول باطل لأن اليهودي اعترف كما وقع التصريح به في بعض طرقه، ونازعه بعض المالكية فقال‏:‏ لم يقل مالك ولا أحد من أهل مذهبه بثبوت القتل على المتهم بمجرد قول المجروح، وإنما قالوا إن قول المحتضر عند موته فلان قتلني لوث يوجب القسامة فيقسم اثنان فصاعدا من عصبته بشرط الذكورية، وقد وافق بعض المالكية الجمهور، واحتج من قال بالتدمية أن دعوى من وصل إلى تلك الحالة وهي وقت إخلاصه وتوبته عند معاينة مفارقة الدنيا يدل على أنه لا يقول إلا حقا، قالوا وهي أقوى من قول الشافعية أن الولي يقسم إذا وجد قرب وليه المقتول رجلا معه سكين لجواز أن يكون القاتل غير من معه السكين‏.‏

قوله ‏(‏فرض رأسه بالحجارة‏)‏ أي دق‏.‏

وفي رواية الأشخاص ‏"‏ فرضخ رأسه بين حجرين ‏"‏ ويأتي في رواية حبان أن هماما قال كلا من اللفظين‏.‏

وفي رواية هشام التي تليها ‏"‏ فقتله بين حجرين ‏"‏ ومضى في الطلاق بلفظ الرواية التي في الأشخاص‏.‏

وفي رواية أبي قلابة عند مسلم ‏"‏ فأمر به فرجم حتى مات ‏"‏ لكن في رواية أبي داود من هذا الوجه ‏"‏ فقتل بين حجرين ‏"‏ قال عياض‏:‏ رضخه بين حجرين ورميه بالحجارة ورجمه بها بمعنى، والجامع أنه رمى بحجر أو أكثر ورأسه على آخر‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ أجاب بعض الحنفية بأن هذا الحديث لا دلالة فيه على المماثلة في القصاص، لأن المرأة كانت حية والقود لا يكون في حي، وتعقبه بأن إنما أمر بقتله بعد موتها لأن في الحديث ‏"‏ أفلان قتلك ‏"‏ فدل على أنها ماتت حينئذ لأنها كانت تجود بنفسها، فلما ماتت اقتص منه وادعى ابن المرابط من المالكية أن هذا الحكم كان في أول الإسلام وهو قبول قول القتيل، وأما ما جاء أنه اعترف فهو في رواية قتادة ولم يقله غيره وهذا مما عد عليه انتهى‏.‏

ولا يخفى فساد هذه الدعوى فقتادة حافظ زيادته مقبولة لأن غيره لم يتعرض لنفيها فلم يتعارضا، والنسخ لا يثبت بالاحتمال‏.‏

واستدل به على وجوب القصاص على الذمي، وتعقب بأنه ليس فيه تصريح بكونه ذميا فيحتمل أن يكون معاهدا أو مستأمنا، والله أعلم‏.‏