فصل: الفصل الْخَامِسُ: أَخْبَارُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ***


الفصل الثَّالِثَ عَشَرَ‏:‏ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ، وَالْكَلَامِ عَلَى مَا احْتَجُّوا بِهِ فِي ذَلِكَ

اعْلَمْ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِلصَّغَائِرِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُحَدِّثِينَ، وَمَنْ شَايَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِظَوَاهِرَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إِنِ الْتَزَمُوا ظَوَاهِرَهَا أَفْضَتْ بِهِمْ إِلَى تَجْوِيزِ الْكَبَائِرِ، وَخَرْقِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مَا لَا يَقُولُ بِهِ مُسْلِمٌ، فَكَيْفَ، وَكُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِمَّا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ، وَتَقَابَلَتِ الِاحْتِمَالَاتُ فِي مُقْتَضَاهُ، وَجَاءَتْ أَقَاوِيلُ فِيهَا لِلسَّلَفِ بِخِلَافِ مَا الْتَزَمُوهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَذْهَبُهُمْ إِجْمَاعًا، وَكَانَ الْخِلَافُ فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ قَدِيمًا، وَقَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى خَطَأِ قَوْلِهِمْ، وَصِحَّةِ غَيْرِهِ وَجَبَ تَرْكُهُ، وَالْمَصِيرُ إِلَى مَا صَحَّ‏.‏

وَهَا نَحْنُ نَأْخُذُ فِي النَّظَرِ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الْفَتْحِ‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشَّرْحِ‏:‏ 2- 3‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 43‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى‏}‏ ‏[‏عَبَسَ‏:‏ 1- 2‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

وَمَا قَصَّ مِنْ قَصَصِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 121‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ 7 الْآيَةَ‏:‏ 190‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ عَنْ يُونُسَ‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 87‏]‏‏.‏

وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ قِصَّةِ دَاوُدَ، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 24‏]‏، وَمَا قَصَّ مِنْ قِصَّتِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ‏.‏

وَقَوْلِهِ عَنْ مُوسَى‏:‏ ‏{‏فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ‏}‏ ‏[‏الْقَصَصِ‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ‏:‏ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ» وَنَحْوِهِ مِنْ أَدْعِيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْمَوْقِفِ ذُنُوبَهُمْ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ»‏.‏

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»‏.‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ‏:‏ ‏{‏وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 47‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَدْ كَانَ قَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وَقَوْلِهِ عَنْ مُوسَى‏:‏ ‏{‏تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 143‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 34‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ‏.‏

فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الْفَتْحِ‏:‏ 2‏]‏ فَهَذَا قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ، فَقِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَبَعْدَهَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ مَا وَقَعَ لَكَ مِنْ ذَنْبٍ، وَمَا لَمْ يَقَعْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُتَقَدِّمُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَالْمُتَأَخِّرُ عِصْمَتُكَ بَعْدَهَا، حَكَاهُ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أُمَّتُهُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ مَا كَانَ عَنْ سَهْوٍ، وَغَفْلَةٍ، وَتَأْوِيلٍ، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ ، وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَا تَقَدَّمَ لِأَبِيكَ آدَمَ، وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ ذُنُوبِ أُمَّتِكَ، حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ ، وَالسُّلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ ‏.‏

وَبِمِثْلِهِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ يُتَأَوَّلُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 19‏]‏‏.‏

قَالَ مَكِّيٌّ ‏:‏ مُخَاطَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاهُنَا هِيَ مُخَاطَبَةٌ لِأُمَّتِهِ، وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُمِرَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ‏}‏ ‏[‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 9‏]‏ سُرَّ بِذَلِكَ الْكُفَّارُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الْفَتْحِ‏:‏ 2‏]‏ الْآيَةَ، وَبِمَآلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بَعْدَهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، فَمَقْصِدُ الْآيَةِ‏:‏ إِنَّكَ مَغْفُورٌ لَكَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِذَنْبٍ أَنْ لَوْ كَانَ‏.‏ قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الْمَغْفِرَةُ هَاهُنَا تَبْرِئَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشَّرْحِ‏:‏ 2- 3‏]‏، فَقِيلَ‏:‏ مَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَمَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَاهُ أَنَّهُ حُفِظَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ مِنْهَا وَعُصِمَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَثْقَلَتْ ظَهْرَهُ، حَكَى مَعْنَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَا أَثْقَلَ ظَهْرَهُ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ حَتَّى بَلَّغَهَا، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَالسُّلَمِيُّ 0‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ حَطَطْنَا عَنْكَ ثِقَلَ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، حَكَاهُ مَكِّيٌّ ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ثِقَلُ شُغْلِ سِرِّكَ، وَحَيْرَتِكَ، وَطَلَبِ شَرِيعَتِكَ حَتَّى شَرَعْنَا ذَلِكَ لَكَ، حَكَى مَعْنَاهُ الْقُشَيْرِيُّ ‏.‏

وَقِيلَ الْمَعْنَى‏:‏ خَفَّفْنَا عَلَيْكَ مَا حُمِّلْتَ بِحِفْظِنَا لِمَا اسْتُحْفِظْتَ، وَحُفِظَ عَلَيْكَ‏.‏

وَمَعْنَى أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، أَيْ كَادَ يَنْقُضُهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ لِمَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ اهْتِمَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمُورٍ فَعَلَهَا قَبْلَ نُبُوَّتِهِ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، فَعَدَّهَا أَوْزَارًا، وَثَقُلَتْ عَلَيْهِ، وَأَشْفَقَ مِنْهَا‏.‏

أَوْ يَكُونُ الْوَضْعُ عِصْمَةَ اللَّهِ لَهُ، وَكِفَايَتَهُ مِنْ ذُنُوبٍ لَوْ كَانَتْ لَأَنْقَضَتْ ظَهْرَهُ‏.‏

أَوْ يَكُونُ مِنْ ثِقَلِ الرِّسَالَةِ، أَوْ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِ، وَشَغَلَ قَلْبَهُ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِحِفْظِ مَا اسْتَحْفَظَهُ مِنْ وَحْيِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 43‏]‏ فَأَمْرٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَهْيٌ فَيُعَدُّ مَعْصِيَةً، وَلَا عَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مَعْصِيَةً، بَلْ لَمْ يَعُدَّهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مُعَاتَبَةً‏.‏ وَغَلَّطُوا مَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، قَالَ نِفْطَوَيْهِ ‏:‏ وَقَدْ حَاشَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَمْرَيْنِ، قَالُوا‏:‏ وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ، فَكَيْفَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏النُّورِ‏:‏ 62‏]‏‏.‏ فَلَمَّا أَذِنَ لَهُمْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مِنْ سِرِّهِمْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَقَعَدُوا، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَ، وَلَيْسَ عَفَا هُنَا بِمَعْنَى غَفَرَ، بَلْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ»‏.‏ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ قَطُّ، أَيْ لَمْ يُلْزِمْكُمْ ذَلِكَ‏.‏

وَنَحْوُهُ لِلْقُشَيْرِيِّ ، قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا يَقُولُ الْعَفْوُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذَنْبٍ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ كَلَامَ الْعَرَبِ، وَمَعْنَى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ أَيْ لَمْ يُلْزِمْكَ ذَنْبًا‏.‏

قَالَ الدَّاوُدِيُّ ‏:‏ رُوِيَ أَنَّهَا تَكْرِمَةٌ‏.‏

وَقَالَ مَكِّيٌّ ‏:‏ هُوَ اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ، مِثْلَ أَصْلَحَكَ اللَّهُ وَأَعَزَّكَ‏.‏

وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ عَافَاكَ اللَّهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ‏:‏ ‏{‏تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 67‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏ فَلَيْسَ فِيهِ إِلْزَامُ ذَنْبٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ فِيهِ بَيَانُ مَا خُصَّ بِهِ، وَفُضِّلَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَا كَانَ هَذَا لِنَبِيٍّ غَيْرِكَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِنَبِيٍّ قَبْلِي»‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 67‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

قِيلَ الْمَعْنَى‏:‏ الْخِطَابُ لِمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَتَجَرَّدَ غَرَضُهُ لِغَرَضِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عِلْيَةَ أَصْحَابِهِ، بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِالسَّلْبِ، وَجَمْعِ الْغَنَائِمِ عَنِ الْقِتَالِ، حَتَّى خَشِيَ عُمَرُ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ‏.‏

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 68‏]‏، فَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقِيلَ‏:‏ مَعْنَاهَا لَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنْ لَا أُعِذِّبَ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ النَّهْيِ لَعَذَّبْتُكُمْ‏.‏

فَهَذَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ أَمْرُ الْأَسْرَى مَعْصِيَةً‏.‏

وَقِيلَ الْمَعْنَى‏:‏ لَوْلَا إِيمَانُكُمْ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ الْكِتَابُ السَّابِقُ فَاسْتَوْجَبْتُمْ بِهِ الصَّفْحَ لَعُوقِبْتُمْ عَلَى الْغَنَائِمِ‏.‏

وَيُزَادُ هَذَا الْقَوْلُ تَفْسِيرًا وَبَيَانًا بِأَنْ يُقَالَ‏:‏ لَوْلَا مَا كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ وَكُنْتُمْ مِمَّنْ أُحِلَّتُ لَهُمُ الْغَنَائِمُ لَعُوقِبْتُمْ، كَمَا عُوقِبَ مَنْ تَعَدَّى‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهَا حَلَالٌ لَكُمْ لَعُوقِبْتُمْ‏.‏

فَهَذَا كُلُّهُ يَنْفِي الذَّنْبَ وَالْمَعْصِيَةَ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا أُحِلُّ لَهُ لَمْ يَعْصِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَالِ‏:‏ 69‏]‏‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ بَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خُيِّرَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ‏:‏ جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ‏:‏ خَيِّرْ أَصْحَابَكَ فِي الْأُسَارَى، إِنْ شَاءُوا الْقَتْلَ، وَإِنْ شَاءُوا الْفِدَاءَ، عَلَى أَنْ يُقْتُلَ مِنْهُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِثْلُهُمْ‏.‏

فَقَالُوا‏:‏ الْفِدَاءَ، وَيُقْتَلُ مِنَّا‏.‏

وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا إِلَّا مَا أُذِنَ لَهُمْ فِيهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ مَالَ إِلَى أَضْعَفِ الْوَجْهَيْنِ مِمَّا كَانَ الْأَصْلَحُ غَيْرَهُ مِنَ الْإِثْخَانِ وَالْقَتْلِ، فَعُوتِبُوا عَلَى ذَلِكَ، وَبُيِّنَ لَهُمْ ضَعْفُ اخْتِيَارِهِمْ، وَتَصْوِيبُ اخْتِيَارِ غَيْرِهِمْ، وَكُلُّهُمْ غَيْرُ عُصَاةٍ، وَلَا مُذْنِبِينَ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا أَشَارَ الطَّبَرِيُّ ‏.‏

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ‏:‏ «لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ إِلَّا عُمَرُ»‏.‏ إِشَارَةً إِلَى هَذَا مِنْ تَصْوِيبِ رَأْيِهِ، وَرَأْيِ مَنْ أَخَذَ بِمَأْخَذِهِ، فِي إِعْزَازِ الدِّينِ، وَإِظْهَارِ كَلِمَتِهِ، وَإِبَادَةِ عَدُوِّهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ لَوِ اسْتَوْجَبَتْ عَذَابًا نَجَا مِنْهُ عُمَرُ وَمِثْلُهُ، وَعَيَّنَ عُمَرَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ عَذَابًا لِحِلِّهِ لَهُمْ فِيمَا سَبَقَ‏.‏

وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ ‏:‏ وَالْخَبَرُ بِهَذَا لَا يَثْبُتُ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمَا جَازَ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا دَلِيلَ مِنْ نَصٍّ، وَلَا جُعِلَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَيْهِ، وَقَدْ نَزَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ الْقَاضِي بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ ‏:‏ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ تَأْوِيلَهُ، وَافَقَ مَا كَتَبَهُ لَهُ مِنْ إِحْلَالِ الْغَنَائِمِ، وَالْفِدَاءِ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ هَذَا فَادَوْا فِي سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ بِالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ وَصَاحِبِهِ، فَمَا عَتَبَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ بَدْرٍ بِأَزْيَدَ مِنْ عَامٍ‏.‏

فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ الْأَسْرَى كَانَ عَلَى تَأْوِيلٍ وَبَصِيرَةٍ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلُ مِثْلُهُ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ لِعِظَمِ أَمْرِ بَدْرٍ، وَكَثْرَةِ أَسْرَاهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِظْهَارَ نِعْمَتِهِ، وَتَأْكِيدَ مِنَّتِهِ، بِتَعْرِيفِهِمْ مَا كَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنْ حِلِّ ذَلِكَ لَهُمْ، لَا عَلَى وَجْهِ عِتَابٍ وَإِنْكَارٍ وَتَذْنِيبٍ‏.‏ هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى‏}‏ ‏[‏عَبَسَ‏:‏ 1‏]‏ الْآيَاتِ‏.‏

فَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ ذَنْبٍ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ إِعْلَامُ اللَّهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَصَدَّى لَهُ مِمَّنْ لَا يَتَزَكَّى، وَأَنَّ الصَّوَابَ وَالْأَوْلَى كَانَ لَوْ كُشِفَ لَكَ حَالُ الرَّجُلَيْنِ الْإِقْبَالُ عَلَى الْأَعْمَى‏.‏

وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا فَعَلَ، وَتَصَدِّيهِ لِذَلِكَ الْكَافِرِ، كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ، وَتَبْلِيغًا عَنْهُ، وَاسْتِئْلَافًا لَهُ، كَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ لَا مَعْصِيَةً وَلَا مُخَالَفَةً لَهُ‏.‏

وَمَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إِعْلَامٌ بِحَالِ الرَّجُلَيْنِ، وَتَوْهِينِ أَمْرِ الْكَافِرِ عِنْدَهُ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى‏}‏ وَقِيلَ‏:‏ أَرَادَ بِعَبَسَ وَتَوَلَّى الْكَافِرَ الَّذِي كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ أَبُو تَمَّامٍ‏.‏

وَأَمَّا قِصَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَكَلَا مِنْهَا‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 121‏]‏ بَعْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏{‏أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 22‏]‏، وَتَصْرِيحُهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 121‏]‏، أَيْ جَهِلَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ أَخْطَأَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِعُذْرِهِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 115‏]‏، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ ‏:‏ نَسِيَ عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ لَهُ، وَمَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 117‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ نَسِيَ ذَلِكَ بِمَا أَظْهَرَ لَهُمَا‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ‏:‏ إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَمْ يَقْصِدِ الْمُخَالَفَةَ اسْتِحْلَالًا لَهَا، وَلَكِنَّهُمَا اغْتَرَّا بِحَلِفِ إِبْلِيسَ لَهُمَا‏:‏ ‏{‏إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 21‏]‏، وَتَوَهَّمَا أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِاللَّهِ حَانِثًا‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عُذْرُ آدَمَ بِمِثْلِ هَذَا فِي بَعْضِ الْآثَارِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ ‏:‏ حَلَفَ بِاللَّهِ لَهُمَا حَتَّى غَرَّهُمَا، وَالْمُؤْمِنُ يُخْدَعُ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ نَسِيَ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الْمُخَالَفَةَ، فَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا‏}‏ أَيْ قَصْدًا لِلْمُخَالَفَةِ‏.‏

وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ هُنَا الْجَزْمُ وَالصَّبْرُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ كَانَ عِنْدَ أَكْلِهِ سَكْرَانَ وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ خَمْرَ الْجَنَّةِ أَنَّهَا لَا تُسْكِرُ، فَإِذَا كَانَ نَاسِيًا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مُلَبَّسًا عَلَيْهِ غَالِطًا، إِذِ الِاتِّفَاقُ عَلَى خُرُوجِ النَّاسِي وَالسَّاهِي عَنْ حُكْمِ التَّكْلِيفِ‏.‏

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُ‏:‏ إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 121‏]‏، فَذَكَرَ أَنَّ الِاجْتِبَاءَ، وَالْهِدَايَةَ كَانَا بَعْدَ الْعِصْيَانِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ بَلْ أَكَلَهَا مُتَأَوِّلًا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا الشَّجَرَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا، لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ نَهْيَ اللَّهِ عَنْ شَجَرَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَا عَلَى الْجِنْسِ، وَلِهَذَا قِيلَ‏:‏ إِنَّمَا كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنْ تَرْكِ التَّحَفُّظِ، لَا مِنَ الْمُخَالَفَةِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ تَأَوَّلَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْهَهُ عَنْهَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 121‏]‏‏.‏ وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ‏:‏ «وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ»، وَقَالَ‏:‏ إِنِّي نُهِيتُ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُ، فَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ، وَعَنْ أَشْبَاهِهِ مُجْمَلًا آخِرَ الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَأَمَّا قِصَّةُ يُونُسَ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِهَا آنِفًا، وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ يُونُسَ نَصٌّ عَلَى ذَنْبٍ، وَإِنَّمَا فِيهَا‏:‏ أَبَقَ، وَذَهَبَ مُغَاضِبًا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّمَا نَقَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ خُرُوجَهُ عَنْ قَوْمِهِ فَارًّا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ بَلْ لَمَّا وَعَدَهُمُ الْعَذَابَ ثُمَّ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ‏:‏ وَاللَّهِ لَا أَلْقَاهُمْ بِوَجْهِ كَذَّابٍ أَبَدًا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ بَلْ كَانُوا يَقْتُلُونَ مَنْ كَذَبَ فَخَافَ ذَلِكَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ضَعُفَ عَنْ حَمْلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ‏.‏ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْهُمْ‏.‏

وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى مَعْصِيَةٍ إِلَّا عَلَى قَوْلٍ مَرْغُوبٍ عَنْهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 140‏]‏ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ تَبَاعَدَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 87‏]‏، فَالظُّلْمُ، وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بِذَنْبِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِخُرُوجِهِ عَنْ قَوْمِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ، أَوْ لِضَعْفِهِ عَمَّا حُمِّلَهُ، أَوْ لِدُعَائِهِ بِالْعَذَابِ عَلَى قَوْمِهِ‏.‏ وَقَدْ دَعَا نُوحٌ بِهَلَاكِ قَوْمِهِ فَلَمْ يُؤَاخَذْ‏.‏

وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ فِي مَعْنَاهُ‏:‏ نَزَّهَ رَبَّهُ عَنِ الظُّلْمِ، وَأَضَافَ الظُّلْمَ إِلَى نَفْسِهِ اعْتِرَافًا، وَاسْتِحْقَاقًا‏.‏ وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ آدَمَ وَحَوَّاءَ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 23‏]‏، إِذْ كَانَا السَّبَبُ فِي وَضْعِهِمَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُنْزِلَا فِيهِ، وَإِخْرَاجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، وَإِنْزَالِهِمَا إِلَى الْأَرْضِ‏.‏

وَأَمَّا قِصَّةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَى مَا سَطَّرَهُ فِيهِ الْأَخْبَارِيُّونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَدَّلُوا، وَغَيَّرُوا، وَنَقَلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ‏.‏ وَلَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ‏.‏ وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏- إِلَى قَوْلِهِ-‏:‏ ‏{‏وَحُسْنَ مَآبٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ فِيهِ‏:‏ ‏{‏أَوَّابٌ‏}‏‏.‏ فَمَعْنَى فَتَنَّاهُ‏:‏ اخْتَبَرْنَاهُ‏.‏ وَأَوَّابٌ‏:‏ قَالَ قَتَادَةُ ‏:‏ مُطِيعٌ‏.‏ وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ‏:‏ مَا زَادَ دَاوُدُ عَلَى أَنْ قَالَ لِلرَّجُلِ‏:‏ انْزِلْ لِي عَنِ امْرَأَتِكَ، وَاكْفِلْنِيهَا، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَنَبَّهَهُ عَلَيْهِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ شُغْلَهُ بِالدُّنْيَا، وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ خَطَبَهَا عَلَى خِطْبَتِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ بَلْ أَحَبَّ بِقَلْبِهِ أَنْ يُسْتَشْهَدَ‏.‏

وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ أَنَّ ذَنْبَهُ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ قَوْلُهُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ ظَلَمَكَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 25‏]‏ فَظَلَمَهُ بِقَوْلِ خَصْمِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ بَلْ لَمَّا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ، وَظَنَّ مِنَ الْفِتْنَةِ بِمَا بُسِطَ لَهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالدُّنْيَا‏.‏

وَإِلَى نَفْيِ مَا أُضِيفَ فِي الْأَخْبَارِ إِلَى دَاوُدَ مِنْ ذَلِكَ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ، وَأَبُو تَمَّامٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ‏.‏

وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ ‏:‏ لَيْسَ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ، وَأُورِيَا خَبَرٌ يَثْبُتُ، وَلَا يُظَنُّ بِنَبِيٍّ مَحَبَّةُ قَتْلِ مُسْلِمٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ الْخَصْمَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ رَجُلَانِ فِي نِتَاجِ غَنَمٍ، عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ‏.‏

وَأَمَّا قِصَّةُ يُوسُفَ، وَإِخْوَتِهِ فَلَيْسَ عَلَى يُوسُفَ فِيهَا تَعَقُّبٌ، وَأَمَّا إِخْوَتُهُ فَلَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُمْ فَيَلْزَمُ الْكَلَامُ عَلَى أَفْعَالِهِمْ‏.‏ وَذِكْرُ الْأَسْبَاطِ، وَعَدُّهُمْ فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ صَرِيحًا فِي كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَنْبِيَاءِ‏.‏

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ‏:‏ يُرِيدُ مَنْ نُبِّئَ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَسْبَاطِ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّهُمْ كَانُوا حِينَ فَعَلُوا بِيُوسُفَ مَا فَعَلُوهُ صِغَارَ الْأَسْنَانِ وَلِهَذَا لَمْ يُمَيِّزُوا يُوسُفَ حِينَ اجْتَمَعُوا بِهِ، وَلِهَذَا قَالُوا‏:‏ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ، وَإِنْ ثَبَتَتْ لَهُمْ نُبُوَّةٌ فَبَعْدَ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 24‏]‏ فَعَلَى طَرِيقِ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ أَنَّ هَمَّ النَّفْسِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلَيْسَ سَيِّئَةً، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ‏:‏ ‏[‏إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ‏]‏، فَلَا مَعْصِيَةَ فِي هَمِّهِ إِذًا‏.‏

وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّ الْهَمَّ إِذَا وُطِّنَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ سَيِّئَةٌ‏.‏ وَأَمَّا مَا لَمْ تُوَطَّنْ عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنْ هُمُومِهَا، وَخَوَاطِرهَا فَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ‏.‏

هَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَيَكُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هَمُّ يُوسُفَ مِنْ هَذَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 53‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

أَيْ مَا أُبَرِّئُهَا مِنْ هَذَا الْهَمِّ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ التَّوَاضُعِ، وَالِاعْتِرَافِ بِمُخَالَفَةِ النَّفْسِ لِمَا زُكِّيَ قَبْلُ، وَبُرِّئَ، فَكَيْفَ، وَقَدْ حَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَهُمَّ، وَأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ‏:‏ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَلَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمَرْأَةِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 132‏]‏‏.‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 23‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

قِيلَ فِي رَبِّي‏:‏ اللَّهُ، وَقِيلَ‏:‏ الْمَلِكُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هَمَّ بِهَا، أَيْ بِزَجْرِهَا، وَوَعْظِهَا

وَقِيلَ‏:‏ هَمَّ بِهَا، أَيْ غَمَّهَا امْتِنَاعُهُ عَنْهَا‏.‏

وَقِيلَ هَمَّ بِهَا‏:‏ نَظَرَ إِلَيْهَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هَمَّ بِضَرْبِهَا، وَدَفْعِهَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هَذَا كُلُّهُ كَانَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَا زَالَ النِّسَاءُ يَمِلْنَ إِلَى يُوسُفَ مَيْلَ شَهْوَةٍ حَتَّى نَبَّأَهُ اللَّهُ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ هَيْبَةَ النُّبُوَّةِ، فَشَغَلَتْ هَيْبَتُهُ كُلَّ مَنْ رَآهُ عَنْ حُسْنِهِ‏.‏

وَأَمَّا خَبَرُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَتِيلِهِ الَّذِي وَكَزَهُ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مِنْ عَدُوِّهِ، وَقِيلَ‏:‏ كَانَ مِنَ الْقِبْطِ الَّذِينَ عَلَى دِينِ فِرْعَوْنَ‏.‏

وَدَلِيلُ السُّورَةِ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ قَبْلَ نُبُوَّةِ مُوسَى‏.‏

وَقَالَ قَتَادَةُ ‏:‏ وَكَزَهُ بِالْعَصَا، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَهُ، فَعَلَى هَذَا لَا مَعْصِيَةَ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ‏}‏ ‏[‏الْقَصَصِ‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي‏}‏ ‏[‏الْقَصَصِ‏:‏ 16‏]‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ‏:‏ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَقْتُلَ حَتَّى يُؤْمَرَ‏.‏

وَقَالَ النَّقَّاشُ ‏:‏ لَمْ يَقْتُلْهُ عَنْ عَمْدٍ مُرِيدًا لِلْقَتْلِ، وَإِنَّمَا وَكَزَهُ وَكْزَةً يُرِيدُ بِهَا دَفْعَ ظُلْمِهِ، قَالَ‏:‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى التِّلَاوَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِ‏:‏ ‏{‏وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 40‏]‏، أَيِ ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً بَعْدَ ابْتِلَاءٍ‏.‏ قِيلَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ، وَقِيلَ‏:‏ إِلْقَاؤُهُ فِي التَّابُوتِ، وَالْيَمِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَاهُ أَخْلَصْنَاكَ إِخْلَاصًا، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ فَتَنْتَ الْفِضَّةَ فِي النَّارِ إِذَا خَلَّصْتَهَا‏.‏ وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ مَعْنًى الِاخْتِبَارُ، وَإِظْهَارُ مَا بَطَنَ، إِلَّا أَنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فِي اخْتِبَارٍ أَدَّى إِلَى مَا يُكْرَهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ، مِنْ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ جَاءَهُ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَفَقَأَهَا‏.‏‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏‏.‏ لَيْسَ فِيهِ مَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَى مُوسَى بِالتَّعَدِّي، وَفِعْلِ مَا لَا يَجِبُ لَهُ، إِذْ هُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ، بَيِّنُ الْوَجْهِ، جَائِزُ الْفِعْلِ، لِأَنَّ مُوسَى دَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ أَتَاهُ لِإِتْلَافِهَا، وَقَدْ تُصُوِّرَ لَهُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنَّهُ عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَدَافَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ مُدَافَعَةً أَدَّتْ إِلَى ذَهَابِ عَيْنِ تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي تُصُوِّرَ لَهُ فِيهَا الْمَلَكُ امْتِحَانًا مِنَ اللَّهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ بَعْدُ، وَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ رَسُولُهُ إِلَيْهِ اسْتَسْلَمَ‏.‏

وَلِلْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَجْوِبَةٌ هَذَا أَسَدُّهَا عِنْدِي، وَهُوَ تَأْوِيلُ شَيْخِنَا الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيِّ ‏.‏

وَقَدْ تَأَوَّلَهُ قَدِيمًا ابْنُ عَائِشَةَ، وَغَيْرُهُ عَلَى صَكِّهِ، وَلَطْمِهِ بِالْحُجَّةِ، وَفَقْءِ عَيْنِ حُجَّتِهِ، وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي هَذَا الْبَابِ فِي اللُّغَةِ مَعْرُوفٌ‏.‏

وَأَمَّا قِصَّةُ سُلَيْمَانَ وَمَا حَكَى فِيهَا أَهْلُ التَّفَاسِيرِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 34‏]‏، فَمَعْنَاهُ ابْتَلَيْنَا، وَابْتِلَاؤُهُ‏:‏ مَا حُكِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ يَأْتِينَ بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ‏:‏ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ‏.‏ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُمْ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشَقِّ رُجُلٍ‏.‏ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ»‏.‏

قَالَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي‏:‏ وَالشِّقُّ هُوَ الْجَسَدُ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ، وَهِيَ عُقُوبَتُهُ، وَمِحْنَتُهُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ بَلْ مَاتَ فَأُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ مَيِّتًا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ذَنْبُهُ حِرْصُهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَمَنِّيهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ لِمَا اسْتَغْرَقَهُ مِنَ الْحِرْصِ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمَنِّي‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ عُقُوبَتُهُ أَنْ سُلِبَ مُلْكُهُ، وَذَنْبُهُ أَنْ أَحَبَّ بِقَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِأَخْتَانِهِ عَلَى خَصْمِهِمْ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ أُوخِذَ بِذَنْبٍ قَارَفَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ‏.‏ وَلَا يَصِحُّ مَا نَقَلَهُ الْأَخْبَارِيُّونَ مِنْ تَشَبُّهِ الشَّيْطَانِ بِهِ، وَتَسَلُّطِهِ عَلَى مُلْكِهِ، وَتَصَرُّفِهِ فِي أُمَّتِهِ بِالْجَوْرِ فِي حُكْمِهِ، لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا يُسَلَّطُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا وَقَدْ عُصِمَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ مِثْلِهِ‏.‏

وَإِنْ سُئِلَ‏:‏ لِمَ لَمْ يَقُلْ سُلَيْمَانُ فِي الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ‏:‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ نَسِيَ أَنْ يَقُولَهَا، وَذَلِكَ لِيَنْفُذَ مُرَادَ اللَّهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ صَاحِبَهُ، وَشُغِلَ عَنْهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِيِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏‏.‏ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا سُلَيْمَانُ غَيْرَةً عَلَى الدُّنْيَا، وَلَا نَفَاسَةً بِهَا، وَلَكِنْ مَقْصِدُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ أَنْ لَا يُسَلَّطَ عَلَيْهِ أَحَدٌ كَمَا سُلِّطَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ الَّذِي سَلَبَهُ إِيَّاهُ مُدَّةَ امْتِحَانِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ بَلْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ اللَّهِ فَضِيلَةٌ، وَخَاصَّةٌ يَخْتَصُّ بِهَا كَاخْتِصَاصِ غَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، وَرُسُلِهِ بِخَوَاصَّ مِنْهُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا، وَحُجَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ، كَإِلَانَةِ الْحَدِيدِ لِأَبِيهِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِعِيسَى، وَاخْتِصَاصِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّفَاعَةِ، وَنَحْوِ هَذَا‏.‏

وَأَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَظَاهِرَةُ الْعُذْرِ، وَأَنَّهُ أَخَذَ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ، وَظَاهِرِ اللَّفْظِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَهْلَكَ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 40‏]‏ الْآيَةَ‏.‏ فَطَلَبَ مُقْتَضَى هَذَا اللَّفْظِ وَأَرَادَ عِلْمَ مَا طُوِيَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ شَكَّ فِي وَعْدِ اللَّهِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُ بِنَجَاتِهِمْ لِكُفْرِهِ، وَعَمَلِهِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ صَالِحٍ، وَقَدْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ مُغْرِقُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَنَهَاهُ عَنْ مُخَاطَبَتِهِ فِيهِمْ، فَأُوخِذَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ، وَعَتَبَ عَلَيْهِ، وَأَشْفَقَ هُوَ مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَى رَبِّهِ لِسُؤَالِهِ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي السُّؤَالِ فِيهِ، وَكَانَ نُوحٌ فِيمَا حَكَاهُ النَّقَّاشُ لَا يَعْلَمُ بِكُفْرِ ابْنِهِ‏.‏

وَقِيلَ فِي الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا، وَكُلُّ هَذَا لَا يَقْضِي عَلَى نُوحٍ بِمَعْصِيَةٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَأْوِيلِهِ، وَإِقْدَامِهِ بِالسُّؤَالِ فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، وَلَا نُهِيَ عَنْهُ‏.‏

وَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ نَبِيًّا قَرَصَتْهُ نَمْلَةٌ فَحَرَقَ قَرْيَةَ النَّمْلِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ‏:‏ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ‏.‏‏.‏‏.‏ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَتَى مَعْصِيَةً، بَلْ فَعَلَ مَا رَآهُ مَصْلَحَةً، وَصَوَابًا بِقَتْلِ مَنْ يُؤْذِي جِنْسُهُ، وَيَمْنَعُ الْمَنْفَعَةَ مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ كَانَ نَازِلًا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا آذَتْهُ النَّمْلَةُ تَحَوَّلَ بِرِجْلِهِ عَنْهَا مَخَافَةَ تَكْرَارِ الْأَذَى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ مَا يُوجِبُ مَعْصِيَةً، بَلْ نَدَبَهُ إِلَى احْتِمَالِ الصَّبْرِ، وَتَرْكِ التَّشَفِّي، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهْو خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ‏}‏ إِذْ ظَاهِرُ فِعْلِهِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهَا آذَتْهُ هُوَ فِي خَاصَّتِهِ، فَكَانَ انْتِقَامًا لِنَفْسِهِ، وَقَطْعَ مَضَرَّةٍ يَتَوَقَّعُهَا مِنْ بَقِيَّةِ النَّمْلِ هُنَاكَ، وَلَمْ يَأْتِ فِي كُلِّ هَذَا أَمْرٌ نُهِيَ عَنْهُ، فَيُعَصَّى بِهِ، وَلَا نَصَّ فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَلَا بِالتَّوْبَةِ، وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا أَلَمَّ بِذَنْبٍ أَوْ كَادَ إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا» أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

فَالْجَوَابُ عَنْهُ‏:‏ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذُنُوبِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي وَقَعَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَعَنْ سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ‏.‏

الفصل الرَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ حَالَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَوْفِ وَالِاسْتِغْفَارِ

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَإِذَا نَفَيْتَ عَنْهُمْ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- الذُّنُوبَ، وَالْمَعَاصِي بِمَا ذَكَرْتَهُ مِنَ اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ، وَتَأْوِيلِ الْمُحَقِّقِينَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏ وَمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنَ اعْتِرَافِ الْأَنْبِيَاءِ بِذُنُوبِهِمْ، وَتَوْبَتِهِمْ، وَاسْتِغْفَارِهِمْ، وَبُكَائِهِمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ، وَإِشْفَاقِهِمْ‏.‏ وَهَلْ يُشْفَقُ، وَيُتَابُ، وَيُسْتَغْفَرُ مِنْ لَا شَيْءَ‏؟‏‏.‏

فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الرِّفْعَةِ، وَالْعُلُوِّ، وَالْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَسُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ، وَعِظَمِ سُلْطَانِهِ وَقُوَّةِ بَطْشِهِ، مِمَّا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْخَوْفِ مِنْهُ جَلَّ جَلَالُهُ، وَالْإِشْفَاقِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُهُمْ، وَأَنَّهُمْ فِي تَصَرُّفِهِمْ بِأُمُورٍ لَمْ يُنْهَوْا عَنْهَا، وَلَا أُمِرُوا بِهَا، ثُمَّ وُوخِذُوا عَلَيْهَا، وَعُوتِبُوا بِسَبَبِهَا وَحُذِّرُوا مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا، وَأَتَوْهَا عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ أَوِ السَّهْوِ، أَوْ تَزَيُّدٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا الْمُبَاحَةِ، خَائِفُونَ وَجِلُونَ، وَهِيَ ذُنُوبٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَلِيِّ مَنْصِبِهِمْ، وَمَعَاصٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ طَاعَتِهِمْ، لَا أَنَّهَا كَذُنُوبِ غَيْرِهِمْ، وَمَعَاصِيهِمْ، فَإِنَّ الذَّنْبَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّيْءِ الدَّنِيِّ الرَّذْلِ، وَمِنْهُ ذَنَبُ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ آخِرُهُ‏.‏ وَأَذْنَابُ النَّاسِ رُذَّالُهُمْ، فَكَأَنَّ هَذِهِ أَدْنَى أَفْعَالِهِمْ، وَأَسْوَأُ مَا يَجْرِي مِنْ أَحْوَالِهِمْ لِتَطْهِيرِهِمْ، وَتَنْزِيهِهِمْ، وَعِمَارَةِ بَوَاطِنِهِمْ، وَظَوَاهِرِهِمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْكَلِمِ الطَّيِّبِ، وَالذِّكْرِ الظَّاهِرِ، وَالْخَفِيِّ، وَالْخَشْيَةِ لِلَّهِ، وَإِعْظَامِهِ فِي السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةِ، وَغَيْرُهُمْ يَتَلَوَّثُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالْقَبَائِحِ، وَالْفَوَاحِشِ مَا تَكُونُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ هَذِهِ الْهَنَاتِ فِي حَقِّهِ كَالْحَسَنَاتِ، كَمَا قِيلَ‏:‏ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، أَيْ يَرَوْنَهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَلِيِّ أَحْوَالِهِمْ كَالسَّيِّئَاتِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْعِصْيَانُ التَّرْكُ وَالْمُخَالَفَةُ، فَعَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظَةِ كَيْفَمَا كَانَتْ مِنْ سَهْوٍ أَوْ تَأْوِيلٍ فَهِيَ مُخَالَفَةٌ وَتَرْكٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏غَوَى‏}‏ أَيْ جَهِلَ أَنَّ تِلْكَ الشَّجَرَةَ هِيَ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا، وَالْغَيُّ‏:‏ الْجَهْلُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ أَخْطَأَ مَا طَلَبَ مِنَ الْخُلُودِ، إِذْ أَكَلَهَا، وَخَابَتْ أُمْنِيَّتُهُ‏.‏

وَهَذَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أُوخِذَ بِقَوْلِهِ لِأَحَدِ صَاحِبَيِ السِّجْنِ‏:‏ ‏{‏اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكِ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 42‏]‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ أُنْسِيَ يُوسُفُ ذِكْرَ اللَّهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ أُنْسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لِسَيِّدِهِ الْمَلِكِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لَوْلَا كَلِمَةُ يُوسُفَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ»‏.‏

قَالَ ابْنُ دِينَارٍ ‏:‏ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ يُوسُفُ قِيلَ لَهُ‏:‏ اتَّخَذْتَ مِنْ دُونِي وَكِيلًا، لَأُطِيلَنَّ حَبْسَكَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ يَا رَبِّ، أَنْسَى قَلْبِي كَثْرَةُ الْبَلْوَى‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ يُؤَاخَذُ الْأَنْبِيَاءُ بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ، لِمَكَانَتِهِمْ عِنْدَهُ، وَيُجَاوِزُ عَنْ سَائِرِ الْخَلْقِ لِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِهِمْ فِي أَضْعَافِ مَا أَتَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ الْمُحْتَجُّ لِلْفِرْقَةِ الْأُولَى عَلَى سِيَاقِ مَا قُلْنَاهُ‏:‏ إِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يُؤَاخَذُونَ بِهَذَا مِمَّا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ السَّهْوِ، وَالنِّسْيَانِ وَمَا ذَكَرْتَهُ، وَحَالُهُمْ أَرْفَعُ فَحَالُهُمْ إذًا فِي هَذَا أَسْوَأُ حَالًا مِنْ غَيْرِهِمْ‏.‏

فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّا لَا نُثْبِتُ لَكَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي هَذَا عَلَى حَدِّ مُؤَاخَذَةِ غَيْرِهِمْ، بَلْ نَقُولُ‏:‏ إِنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي دَرَجَاتِهِمْ، وَيُبْتَلُونَ بِذَلِكَ، لِيَكُونَ اسْتِشْعَارُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِمَنْمَاةِ رُتَبِهِمْ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 122‏]‏‏.‏

وَقَالَ لِدَاوُدَ‏:‏ ‏{‏فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِ مُوسَى‏:‏ ‏{‏تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏‏:‏ ‏{‏إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 144‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ فِتْنَةِ سُلَيْمَانَ وَإِنَابَتِهِ‏:‏ ‏{‏فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 36‏]‏- إِلَى- ‏{‏وَحُسْنَ مَآبٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ‏:‏ زَلَّاتُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الظَّاهِرِ زَلَّاتٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ كَرَامَاتٌ، وَزُلَفٌ، وَأَشَارَ إِلَى نَحْوٍ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ‏.‏

وَأَيْضًا فَلْيُنَبَّهْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ مِنْهُمْ، أَوْ مِمَّنْ لَيْسَ فِي دَرَجَتِهِمْ بِمُؤَاخَذَتِهِمْ بِذَلِكَ، فَيَسْتَشْعِرُوا الْحَذَرَ، وَيَعْتَقِدُوا الْمُحَاسَبَةَ لِيَلْتَزِمُوا الشُّكْرَ عَلَى النِّعَمِ، وَيُعِدُّوا الصَّبْرَ عَلَى الْمِحَنِ بِمُلَاحَظَةِ مَا وَقَعَ بِأَهْلِ هَذَا النِّصَابِ الرَّفِيعِ الْمَعْصُومِ، فَكَيْفَ بِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ صَالِحٌ الْمُرِّيُّ‏:‏ ذِكْرُ دَاوُدَ بَسْطَةٌ لِلتَّوَّابِينَ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ ‏:‏ لَمْ يَكُنْ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ قَضِيَّةِ صَاحِبِ الْحُوتِ نَقْصًا لَهُ، وَلَكِنِ اسْتِزَادَةً مِنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَأَيْضًا فَيُقَالُ لَهُمْ‏:‏ فَإِنَّكُمْ، وَمَنْ وَافَقَكُمْ تَقُولُونَ بِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ‏.‏

وَلَا خِلَافَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَمَا جَوَّزْتُمْ مِنْ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ عَلَيْهِمْ هِيَ مَغْفُورَةٌ عَلَى هَذَا، فَمَا مَعْنَى الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا إِذًا عِنْدَكُمْ، وَخَوْفِ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَوْبَتِهِمْ مِنْهَا، وَهِيَ مَغْفُورَةٌ لَوْ كَانَتْ‏؟‏ فَمَا أَجَابُوا بِهِ فَهُوَ جَوَابُنَا عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِأَعْمَالِ السَّهْوِ وَالتَّأْوِيلِ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ كَثْرَةَ اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَوْبَتِهِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى وَجْهِ مُلَازِمَةِ الْخُضُوعِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالِاعْتِرَافِ بِالتَّقْصِيرِ، شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَمِنَ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ مِمَّا تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ‏:‏ «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «إِنِّي أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمُكُمْ بِمَا أَتَّقِي»‏.‏

قَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ ‏:‏ خَوْفُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ خَوْفُ إِعْظَامٍ وَتَعَبُّدٍ لِلَّهِ لِأَنَّهُمْ آمِنُونَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقْتَدَى بِهِمْ، وَتَسْتَنَّ بِهِمْ أُمَمُهُمْ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا»‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مَعْنًى آخَرَ لَطِيفًا أَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ مَحَبَّةِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 222‏]‏‏.‏

فَإِحْدَاثُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ وَالْإِنَابَةَ وَالْأَوْبَةَ فِي كُلِّ حِينٍ اسْتِدْعَاءٌ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ‏!‏، وَالِاسْتِغْفَارُ فِيهِ مَعْنَى التَّوْبَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ بَعْدَ أَنْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 117‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ ‏[‏النَّصْرِ‏:‏ 3‏]‏‏.‏

الفصل الْخَامِسَ عَشَرَ‏:‏ فَائِدَةُ مَا مَرَّ مِنَ الْفُصُولِ فِي الْعِصْمَةِ

قَدِ اسْتَبَانَ لَكَ أَيُّهَا النَّاظِرُ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ، مَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِصْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجَهْلِ بِاللَّهِ، وَصِفَاتِهِ أَوْ كَوْنِهِ عَلَى حَالَةِ تُنَافِي الْعِلْمَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ جُمْلَةً بَعْدِ النُّبُوَّةِ عَقْلًا وإِجْمَاعًا وَقَبْلَهَا سَمْعًا وَنَقْلًا، وَلَا بِشَيْءٍ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ مِنْ أُمُورِ الشَّرْعِ، وَأَدَّاهُ عَنْ رَبِّهِ مِنَ الْوَحْيِ قَطْعًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا، وَعِصْمَتِهِ عَنِ الْكَذِبِ، وَخُلْفِ الْقَوْلِ مُنْذُ نَبَّأَهُ اللَّهُ، وَأَرْسَلَهُ قَصْدًا أَوْ غَيْرَ قَصْدٍ، وَاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ شَرْعًا وإِجْمَاعًا وَنَظَرًا وَبُرْهَانًا، وَتَنْزِيهِهِ عَنْهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ قَطْعًا، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْكَبَائِرِ إِجْمَاعًا، وَعَنِ الصَّغَائِرِ تَحْقِيقًا، وَعَنِ اسْتِدَامَةِ السَّهْوِ، وَالْغَفْلَةِ، وَاسْتِمْرَارِ الْغَلَطِ، وَالنِّسْيَانِ عَلَيْهِ فِيمَا شَرَعَهُ لِلْأُمَّةِ، وَعِصْمَتِهِ فِي كُلِّ حَالَاتِهِ، مِنْ رِضًى، وَغَضَبً وَجَدٍّ وَمَزْحٍ، فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَلَقَّاهُ بِالْيَمِينِ، وَتَشُدَّ عَلَيْهِ يَدَ الضَّنِينِ، وَتُقَدِّرَ هَذِهِ الْفُصُولَ حَقَّ قَدْرِهَا، وَتَعْلَمَ عَظِيمَ فَائِدَتِهَا، وَخَطَرِهَا، فَإِنَّ مَنْ يَجْهَلُ مَا يَجِبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَجُوزُ لَهُ، أَوْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْرِفُ صُوَرَ أَحْكَامِهِ، لَا يَأْمَنُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي بَعْضِهَا خِلَافَ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَلَا يُنَزِّهُهُ عَمًّا لَا يَجِبُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ، فَيَهْلِكَ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَيَسْقُطَ فِي هُوَّةِ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ إِذْ ظَنَّ الْبَاطِلَ بِهِ، وَاعْتِقَادُ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ يُحِلُّ بِصَاحِبِهِ دَارَ الْبَوَارِ‏.‏

وَلِهَذَا مَا احْتَاطَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَأَيَاهُ لَيْلًا، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ صَفِيَّةَ، فَقَالَ لَهُمَا‏:‏ إِنَّهَا صَفِيَّةُ‏.‏ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا‏:‏ «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا فَتَهْلِكَا»‏.‏

هَذِهِ أَكْرَمَكَ اللَّهُ إِحْدَى فَوَائِدِ مَا تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ، وَلَعَلَّ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ بِجَهْلِهِ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا مِنْهَا يَرَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا جُمْلَةً مِنْ فُضُولِ الْعِلْمِ، وَأَنَّ السُّكُوتَ أَوْلَى‏.‏ وَقَدِ اسْتَبَانَ لَكَ أَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لِلْفَائِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا‏.‏

وَفَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ يُضْطَرُّ إِلَيْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَيُبْتَنَى عَلَيْهَا مَسَائِلُ لَا تَنْعَدُّ مِنَ الْفِقْهِ، وَيَتَخَلَّصُ بِهَا مِنْ تَشْعِيبِ مُخْتَلِفِي الْفُقَهَاءِ فِي عِدَّةٍ مِنْهَا، وَهِيَ الْحُكْمُ فِي أَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَفْعَالِهِ، وَهُوَ بَابٌ عَظِيمٌ، وَأَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بِنَائِهِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَخْبَارِهِ، وَبَلَاغِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ السَّهْوُ فِيهِ، وَعِصْمَتُهُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي أَفْعَالِهِ عَمْدًا، وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُقُوعِ الصَّغَائِرِ، وَقَعَ خِلَافٌ فِي امْتِثَالِ الْفِعْلِ، بُسِطَ بَيَانُهُ فِي كُتُبِ ذَلِكَ الْعِلْمِ فَلَا نُطَوِّلُ بِهِ‏.‏

وَفَائِدَةٌ ثَالِثَةٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْحَاكِمُ وَالْمُفْتِي فِيمَنْ أَضَافَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَوَصَفَهُ بِهَا، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا يَجُوزُ، وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ، وَمَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ فِيهِ وَالْخِلَافُ، كَيْفَ يُصَمِّمُ فِي الْفُتْيَا فِي ذَلِكَ، وَمِنْ أَيْنَ يَدْرِي‏؟‏ هَلْ مَا قَالَهُ فِيهِ نَقْضٌ أَوْ مَدْحٌ، فَإِمَّا أَنْ يَجْتَرِئَ عَلَى سَفْكِ دَمِ مُسْلِمٍ حَرَامٍ، أَوْ يُسْقِطَ حَقًّا، أَوْ يُضَيِّعَ حُرْمَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَبِسَبِيلِ هَذَا مَا قَدِ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ الْأُصُولِ وَأَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَقِّقُونَ فِي عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ‏.‏

الفصل السَّادِسَ عَشَرَ‏:‏ فِي الْقَوْلِ فِي عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ

أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُؤْمِنُونَ فُضَلَاءُ، وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ حُكْمَ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ حُكْمُ النَّبِيِّينَ سَوَاءً فِي الْعِصْمَةِ مِمَّا ذَكَرْنَا عِصْمَتَهُمْ مِنْهُ، وَأَنَّهُمْ فِي حُقُوقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالتَّبْلِيغِ إِلَيْهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْأُمَمِ‏.‏

وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى عِصْمَةِ جَمِيعِهِمْ عَنِ الْمَعَاصِي، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ ‏[‏التَّحْرِيمِ‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وَبِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 164- 166‏]‏‏.‏ وَبِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 19- 20‏]‏‏.‏ وَبِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 206‏]‏ الْآيَةَ‏.‏ وَبِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كِرَامٍ بَرَرَةٍ‏}‏ ‏[‏عَبَسَ‏:‏ 16‏]‏، وَ‏{‏لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الْوَاقِعَةِ‏:‏ 79‏]‏، وَنَحْوِهِ مِنَ السَّمْعِيَّاتِ‏.‏

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا خُصُوصٌ لِلْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ، وَالْمُقَرَّبِينَ‏.‏ وَاحْتَجُّوا بِأَشْيَاءَ ذَكَرَهَا أَهْلُ الْأَخْبَارِ وَالتَّفَاسِيرِ، نَحْنُ نَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدُ وَنُبَيِّنُ الْوَجْهَ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَالصَّوَابُ عِصْمَةُ جَمِيعِهِمْ وَتَنْزِيهُ نِصَابِهِمُ الرَّفِيعِ عَنْ جَمِيعِ مَا يَحُطُّ مِنْ رُتْبَتِهِمْ، وَمَنْزِلَتِهِمْ عَنْ جَلِيلِ مِقْدَارِهِمْ‏.‏

وَرَأَيْتُ بَعْضَ شُيُوخِنَا أَشَارَ أَنْ لَا حَاجَةَ بِالْفَقِيهِ إِلَى الْكَلَامِ فِي عِصْمَتِهِمْ، وَأَنَا أَقُولُ‏:‏ إِنَّ لِلْكَلَامِ فِي ذَلِكَ مَا لِلْكَلَامِ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا سِوَى فَائِدَةِ الْكَلَامِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَهِيَ سَاقِطَةٌ هَاهُنَا‏.‏

فَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يُوجِبْ عِصْمَةَ جَمِيعِهِمْ قِصَّةُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَمَا ذَكَرَ فِيهَا أَهْلُ الْأَخْبَارِ، وَنَقَلَةُ الْمُفَسِّرِينَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي خَبَرِهِمَا وَابْتِلَائِهِمَا‏.‏

فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ لَمْ يُرْوَ مِنْهَا شَيْءٌ لَا سَقِيمٌ، وَلَا صَحِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا يُؤْخَذُ بِقِيَاسٍ‏.‏

وَالَّذِي مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ، وَأَنْكَرَ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ‏.‏ وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ، وَافْتِرَائِهِمْ، كَمَا نَصَّهُ اللَّهُ أَوَّلَ الْآيَاتِ مِنَ افْتِرَائِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى سُلَيْمَانَ وَتَكْفِيرِهِمْ إِيَّاهُ‏.‏

وَقَدِ انْطَوَتِ الْقِصَّةُ عَلَى شُنَعٍ عَظِيمَةٍ‏.‏ وَهَا نَحْنُ نُخْبِرُ فِي ذَلِكَ مَا يَكْشِفُ غِطَاءَ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏:‏

فَاخْتُلِفَ أَوَّلًا فِي هَارُوتَ وَمَارُوتَ، هَلْ هُمَا مَلَكَانِ أَوْ إِنْسِيَّانِ‏؟‏، وَهَلْ هُمَا الْمُرَادُ بِالْمَلَكَيْنِ أَمْ لَا‏؟‏، وَهَلِ الْقِرَاءَةُ مَلَكَيْنِ أَوْ مَلِكَيْنِ‏؟‏، وَهَلْ مَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا أُنْزِلَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 102‏]‏‏.‏‏}‏ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 102‏]‏ نَافِيَةٌ أَوْ مُوجِبَةٌ‏!‏‏.‏

فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَحَنَ النَّاسَ بِالْمَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ وَتَبْيِينِهِ، وَأَنَّ عَمَلَهُ كُفْرٌ، فَمَنْ تَعَلَّمَهُ كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَهُ آمَنَ‏.‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 102‏]‏، وَتَعْلِيمُهُمَا النَّاسَ لَهُ تَعْلِيمُ إِنْذَارٍ، أَيْ يَقُولَانِ لِمَنْ جَاءَ يَطْلُبُ تَعَلُّمَهُ‏:‏ لَا تَفْعَلُوا كَذَا‏:‏ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَلَا تَتَخَيَّلُوا بِكَذَا، فَإِنَّهُ سِحْرٌ، فَلَا تَكْفُرُوا‏.‏

فَعَلَى هَذَا فِعْلُ الْمَلَكَيْنِ طَاعَةٌ، وَتَصَرُّفُهُمَا فِيمَا أُمِرَا بِهِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَهِيَ لِغَيْرِهِمَا فِتْنَةٌ‏.‏

وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ هَارُوتُ وَمَارُوتُ، وَأَنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ السِّحْرَ، فَقَالَ‏:‏ نَحْنُ نُنَزِّهُهُمَا عَنْ هَذَا‏.‏

فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏{‏وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 102‏]‏‏.‏ فَقَالَ خَالِدٌ‏:‏ لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِمَا‏.‏

فَهَذَا خَالِدٌ عَلَى جَلَالَتِهِ، وَعِلْمِهِ نَزَّهَهُمَا عَنْ تَعْلِيمِ السِّحْرِ الَّذِي قَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُمَا مَأْذُونٌ لَهُمَا فِي تَعْلِيمِهِ بِشَرِيطَةِ أَنْ يُبَيِّنَا أَنَّهُ كُفْرٌ، وَأَنَّهُ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ، وَابْتِلَاءٌ، فَكَيْفَ لَا يُنَزِّهُهُمَا عَنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ الْأَخْبَارِ‏.‏

وَقَوْلُ خَالِدٍ‏:‏ لَمْ يُنْزَلْ‏:‏ يُرِيدُ أَنَّ مَا نَافِيَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ مَكِّيٌّ ‏:‏ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ‏:‏ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ يُرِيدُ بِالسِّحْرِ الَّذِي افْتَعَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ، فَاتَّبَعَتْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَهُودُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، قَالَ مَكِّيٌّ ‏:‏ هُمَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ‏:‏

ادَّعَى الْيَهُودُ عَلَيْهِمَا الْمَجِيءَ بِهِ، كَمَا ادَّعَوْا عَلَى سُلَيْمَانَ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ‏.‏

‏}‏ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 102‏]‏ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ قِيلَ‏:‏ هُمَا رَجُلَانِ تَعلَّمَاهُ‏.‏

قَالَ الْحَسَنُ ‏:‏ هَارُوتُ وَمَارُوتُ عِلْجَانِ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْزَلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 102‏]‏ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَتَكُونُ ‏[‏مَا‏]‏ إِيجَابًا عَلَى هَذَا‏.‏

وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى بِكَسْرِ اللَّامِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ‏:‏ الْمَلِكَانِ هَنَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَتَكُونُ ‏[‏مَا‏]‏ نَفْيًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ كَانَا مَلِكَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ، حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ ‏.‏

وَالْقِرَاءَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ شَاذَّةٌ، فَمَحْمَلُ الْآيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَكِّيٍّ حَسَنٌ يُنَزِّهُ الْمَلَائِكَةَ، وَيُذْهِبُ الرِّجْسَ عَنْهُمْ، وَيُطَهِّرُهُمْ تَطْهِيرًا‏.‏

وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ مُطَهَّرُونَ، وَكِرَامٌ بَرَرَةٌ، وَلَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ‏.‏

وَمِمَّا يَذْكُرُونَهُ قِصَّةُ إِبْلِيسَ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَرَئِيسًا فِيهِمْ، وَمِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى آخِرِ مَا حَكَوْهُ، وَأَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 34‏]‏

وَهَذَا أَيْضًا لَمْ يُتَّفَقْ عَلَيْهِ، بَلِ الْأَكْثَرُ يَنْفُونَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ أَبُو الْجِنِّ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَبُو الْإِنْسِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ زَيْدٍ‏.‏

وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ ‏:‏ كَانَ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ طَرَدَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي الْأَرْضِ حِينَ أَفْسَدُوا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ سَائِغٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ‏}‏ ‏[‏النِّسَاءِ‏:‏ 157‏]‏‏.‏

وَمِمَّا رَوَوْهُ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّ خَلْقًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَصَوُا اللَّهَ فَحُرِّقُوا، وَأُمِرُوا أَنْ يَسْجُدُوا لِآدَمَ فَأَبَوْا فَحُرِّقُوا، ثُمَّ آخَرُونَ كَذَلِكَ، حَتَّى سَجَدَ لَهُ مَنْ ذَكَرَ اللَّهُ إِلَّا إِبْلِيسَ، فِي أَخْبَارٍ لَا أَصْلَ لَهَا تَرُدُّهَا صِحَاحُ الْأَخْبَارِ، فَلَا يُشْتَغَلُ بِهَا‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

الباب الثَّانِي‏:‏ فِيمَا يَخُصُّهُمْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَيَطْرَأُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ

الفصل الْأَوَّلُ‏:‏ حَالَةُ الْأَنْبِيَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ

قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ، وَأَنَّ جِسْمَهُ، وَظَاهِرَهُ خَالِصٌ لِلْبَشَرِ، يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الْآفَاتِ، وَالتَّغْيِيرَاتِ، وَالْآلَامِ، وَالْأَسْقَامِ، وَتَجَرُّعِ كَأْسِ الْحِمَامِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْبَشَرِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِنَقِيصَةٍ فِيهِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يُسَمَّى نَاقِصًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَتَمُّ، وَأَكْمَلُ مِنْ نَوْعِهِ، وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الدَّارِ‏:‏ فِيهَا يَحْيَوْنَ، وَفِيهَا يَمُوتُونَ، وَمِنْهَا يُخْرَجُونَ، وَخَلَقَ جَمِيعَ الْبَشَرِ بِمَدْرَجَةِ الْغِيَرِ، فَقَدْ مَرِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاشْتَكَى، وَأَصَابَهُ الْحَرُّ، وَالْقَرُّ، وَأَدْرَكَهُ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَلَحِقَهُ الْغَضَبُ وَالضَّجَرُ، وَنَالَهُ الْإِعْيَاءُ وَالتَّعَبُ وَمَسَّهُ الضَّعْفُ وَالْكِبَرُ وَسَقَطَ فَجُحِشَ شِقُّهُ، وَشَجَّهُ الْكُفَّارُ، وَكَسَرُوا رُبَاعِيَّتَهُ، وَسُقِيَ السُّمُّ وَسُحِرَ وَتَدَاوَى وَاحْتَجَمَ وَتَنَشَّرَ وَتَعَوَّذَ، ثُمَّ قَضَى نَحْبَهُ فَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَحِقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَتَخَلَّصَ مِنْ دَارِ الِامْتِحَانِ وَالْبَلْوَى، وَهَذِهِ سِمَاتُ الْبَشَرِ الَّتِي لَا مَحِيصَ عَنْهَا، وَأَصَابَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَقُتِّلُوا قَتْلًا‏.‏

وَرُمُوا فِي النَّارِ، وَنُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ‏.‏ وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ‏.‏ وَمِنْهُمْ مَنْ عَصَمَهُ كَمَا عُصِمَ بَعْدُ نَبِيُّنَا مِنَ النَّاسِ، فَلَئِنْ لَمْ يَكْفِ نَبِيَّنَا رَبُّهُ يَدَ ابْنِ قَمِئَةَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَا حَجَبَهُ عَنْ عُيُونِ عِدَاهُ عِنْدَ دَعْوَتِهِ أَهْلَ الطَّائِفِ، فَلَقَدْ أَخَذَ عَلَى عُيُونِ قُرَيْشٍ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى ثَوْرٍ، وَأَمْسَكَ عَنْهُ سَيْفَ غَوْرَثٍ، وَحَجَرَ أَبِي جَهْلٍ، وَفَرَسَ سُرَاقَةَ، وَلَئِنْ لَمْ يَقِهِ مِنْ سِحْرِ ابْنِ الْأَعْصَمِ فَلَقَدْ وَقَاهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ، مِنْ سُمِّ الْيَهُودِيَّةِ‏.‏

وَهَكَذَا سَائِرُ أَنْبِيَائِهِ مُبْتَلًى، وَمُعَافًى، وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ حِكْمَتِهِ، لِيُظْهِرَ شَرَفَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، وَيُبَيِّنُ أَمْرَهُمْ، وَيُتِمُّ كَلِمَتَهُ فِيهِمْ، وَلِيُحَقِّقَ بِامْتِحَانِهِمْ بَشَرِيَّتَهُمْ، وَيَرْتَفِعَ الِالْتِبَاسُ عَنْ أَهْلِ الضَّعْفِ فِيهِمْ لِئَلَّا يَضِلُّوا بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْعَجَائِبِ عَلَى أَيْدِيهِمْ ضَلَالَ النَّصَارَى بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَلِيَكُونَ فِي مِحَنِهِمْ تَسْلِيَةٌ لِأُمَمِهِمْ، وَوُفُورٌ لِأُجُورِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ‏.‏

قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ‏:‏ وَهَذِهِ الطَّوَارِئُ، وَالتَّغَيُّرَاتُ الْمَذْكُورَةُ إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِأَجْسَامِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ الْمَقْصُودِ بِهَا مُقَاوَمَةُ الْبَشَرِ، وَمُعَانَاةُ بَنِي آدَمَ لِمُشَاكَلَةِ الْجِنْسِ‏.‏

وَأَمَّا بَوَاطِنُهُمْ فَمُنَزَّهَةٌ غَالِبًا عَنْ ذَلِكَ مَعْصُومَةٌ مِنْهُ، مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى وَالْمَلَائِكَةِ لِأَخْذِهَا عَنْهُمْ، وَتَلَقِّيهَا الْوَحْيَ مِنْهُمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي»‏.‏ وَقَالَ‏:‏ «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي، وَيَسْقِينِي»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «لَسْتُ أَنْسَى، وَلَكِنْ أُنَسَّى، لِيُسْتَنَّ بِي»‏.‏

فَأَخْبَرَ أَنَّ سِرَّهُ وَبَاطِنَهُ، وَرُوحَهُ بِخِلَافِ جِسْمِهِ وَظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الْآفَاتِ الَّتِي تَحِلُّ ظَاهِرَهُ مِنْ ضَعْفٍ وَجُوعٍ وَسَهَرٍ وَنَوْمٍ، لَا يَحِلُّ مِنْهَا شَيْءٌ بَاطِنَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ، لِأَنَّ غَيْرَهُ إِذَا نَامَ اسْتَغْرَقَ النَّوْمُ جِسْمَهُ، وَقَلْبَهُ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَوْمِهِ حَاضِرُ الْقَلْبِ كَمَا هُوَ فِي يَقَظَتِهِ حَتَّى قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ كَانَ مَحْرُوسًا مِنَ الْحَدَثِ فِي نَوْمِهِ لِكَوْنِ قَلْبِهِ يَقْظَانَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ إِذَا جَاعَ ضَعُفَ لِذَلِكَ جِسْمُهُ، وَخَارَتْ قُوَّتُهُ، فَبَطَلَتْ بِالْكُلِّيَّةِ جُمْلَتُهُ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَعْتَرِيهِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ بِخِلَافِهِمْ، لِقَوْلِهِ‏:‏ لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ‏:‏ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي، وَيَسْقِينِي‏.‏

وَكَذَلِكَ أَقُولُ‏:‏ إِنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مِنْ وَصَبٍ وَمَرَضٍ وَسِحْرٍ وَغَضَبٍ لَمْ يَجُزْ عَلَى بَاطِنِهِ مَا يَحِلُّ بِهِ، وَلَا فَاضَ مِنْهُ عَلَى لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، كَمَا يَعْتَرِي غَيْرَهُ مِنَ الْبَشَرِ مِمَّا نَأْخُذُ بَعْدُ فِي بَيَانِهِ‏.‏

الفصل الثَّانِي‏:‏ حَالَتُهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلسِّحْرِ

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَقَدْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ كَمَا حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَتَّابِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قَالَ‏:‏ نَا حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ خَلَفٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، نَا الْبُخَارِيُّ، نَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ‏:‏ سُحِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ، وَمَا فَعَلَهُ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى‏:‏ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي النِّسَاءَ، وَلَا يَأْتِيهِنَّ‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنَ الْتِبَاسِ الْأَمْرِ عَلَى الْمَسْحُورِ فَكَيْفَ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ‏؟‏، وَكَيْفَ جَازَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْصُومٌ‏؟‏‏.‏

فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ طَعَنَتْ فِيهِ الْمُلْحِدَةُ، وَتَدَرَّعَتْ بِهِ لِسُخْفِ عُقُولِهَا، وَتَلْبِيسِهَا عَلَى أَمْثَالِهَا إِلَى التَّشْكِيكِ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ الشَّرْعَ وَالنَّبِيَّ عَمَّا يُدْخِلُ فِي أَمْرِهِ لَبْسًا، وَإِنَّمَا السِّحْرُ مَرَضٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَعَارِضٌ مِنَ الْعِلَلِ، يَجُوزُ عَلَيْهِ كَأَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ مِمَّا لَا يُنْكَرُ، وَلَا يَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِهِ‏.‏

وَأَمَّا مَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ، وَلَا يَفْعَلُهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُدْخِلُ عَلَيْهِ دَاخِلَةً فِي شَيْءٍ مِنْ تَبْلِيغِهِ أَوْ شَرِيعَتِهِ، أَوْ يَقْدَحُ فِي صِدْقِهِ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى عِصْمَتِهِ مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا هَذَا، فِيمَا يَجُوزُ طُرُوُّهُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بِسَبَبِهَا، وَلَا فُضِّلَ مِنْ أَجْلِهَا، وَهُوَ فِيهَا لِلْآفَاتِ كَسَائِرِ الْبَشَرِ، فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِهَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، ثُمَّ يَنْجَلِي عَنْهُ، كَمَا كَانَ‏.‏

وَأَيْضًا فَقَدْ فَسَّرَ هَذَا الْفَصْلَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ، وَلَا يَأْتِيهِنَّ‏.‏

وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ، وَلَمْ يَأْتِ فِي خَبَرٍ مِنْهَا أَنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ بِخِلَافِ مَا كَانَ أَخْبَرَ أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خَوَاطِرَ وَتَخَيُّلَاتٍ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ‏:‏ كَانَ يَتَخَيَّلُ الشَّيْءَ أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَمَا فَعَلَهُ، لَكِنَّهُ تَخْيِيلٌ لَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ، فَتَكُونُ اعْتِقَادَاتُهُ كُلُّهَا عَلَى السَّدَادِ، وَأَقْوَالُهُ عَلَى الصِّحَّةِ‏.‏

هَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ لِأَئِمَّتِنَا مِنَ الْأَجْوِبَةِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ مَا أَوْضَحْنَاهُ مِنْ مَعْنَى كَلَامِهِمْ، وَزِدْنَاهُ بَيَانًا مِنْ تَلْوِيحَاتِهِمْ‏.‏ وَكُلُّ وَجْهٍ مِنْهَا مُقْنِعٌ، لَكِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ لِي فِي الْحَدِيثِ تَأْوِيلٌ أَجْلَى وَأَبْعَدُ مِنْ مَطَاعِنِ ذَوِي الْأَضَالِيلِ يُسْتَفَادُ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ فِيهِ عَنْهُمَا‏:‏ سَحَرَ يَهُودُ بَنِي زُرَيْقٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلُوهُ فِي بِئْرٍ حَتَّى كَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْكِرَ بَصَرَهُ، ثُمَّ دَلَّهُ اللَّهُ عَلَى مَا صَنَعُوا فَاسْتَخْرَجَهُ مِنَ الْبِئْرِ‏.‏

وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الْوَاقِدِيِّ ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، وَعُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ‏.‏

وَذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ‏:‏ حُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَائِشَةَ سَنَةً، فَبَيْنَا هُوَ نَائِمٌ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ‏.‏‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ‏:‏ حُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَائِشَةَ خَاصَّةً سَنَةً حَتَّى أَنْكَرَ بَصَرَهُ‏.‏

وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏:‏ مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحُبِسَ عَنِ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ‏.‏‏.‏‏.‏ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ‏.‏

فَقَدِ اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ مَضْمُونِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَجَوَارِحِهِ، لَا عَلَى قَلْبِهِ، وَاعْتِقَادِهِ، وَعَقْلِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَثَّرَ فِي بَصَرِهِ، وَحَبَسَهُ عَنْ وَطْءِ نِسَائِهِ وَطَعَامِهِ، وَأَضْعَفَ جِسْمَهُ، وَأَمْرَضَهُ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ، وَلَا يَأْتِيهِنَّ، أَيْ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَشَاطِهِ، وَمُتَقَدَّمِ عَادَتِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى النِّسَاءِ، فَإِذَا دَنَا مِنْهُنَّ أَصَابَتْهُ أَخْذَةُ السِّحْرِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِتْيَانِهِنَّ، كَمَا يَعْتَرِي مَنْ أُخِذَ، وَاعْتُرِضَ‏.‏

وَلَعَلَّهُ لِمِثْلِ هَذَا أَشَارَ سُفْيَانُ بِقَوْلِهِ‏:‏ وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ‏.‏ وَيَكُونُ قَوْلُ عَائِشَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى‏:‏ إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ، وَمَا فَعَلَهُ، مِنْ بَابِ مَا اخْتَلَّ مِنْ بَصَرِهِ، كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ رَأَى شَخْصًا مِنْ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ، أَوْ شَاهَدَ فِعْلًا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى مَا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ لِمَا أَصَابَهُ فِي بَصَرِهِ، وَضَعْفِ نَظَرِهِ، لَا لِشَيْءٍ طَرَأَ عَلَيْهِ فِي مَيْزِهِ‏.‏

وَإِذَا كَانَ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ إِصَابَةِ السِّحْرِ لَهُ، وَتَأْثِيرِهِ فِيهِ مَا يُدْخِلُ لَبْسًا، وَلَا يَجِدُ بِهِ الْمُلْحِدُ الْمُعْتَرِضُ أُنْسًا‏.‏

الفصل الثَّالِثُ‏:‏ أَحْوَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا

هَذِهِ حَالُهُ فِي جِسْمِهِ، فَأَمَّا أَحْوَالُهُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَنَحْنُ نَسْبِرُهَا عَلَى أُسْلُوبِنَا الْمُتَقَدِّمِ بِالْعَقْدِ وَالْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ‏.‏

أَمَّا الْعَقْدُ مِنْهَا فَقَدْ يَعْتَقِدُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا الشَّيْءَ عَلَى وَجْهٍ، وَيَظْهَرُ خِلَافُهُ، أَوْ يَكُونُ مِنْهُ عَلَى شَكٍّ أَوْ ظَنٍّ بِخِلَافِ أُمُورِ الشَّرْعِ، كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو بَحْرٍ سُفْيَانُ بْنُ الْعَاصِي، وَغَيْرُ وَاحِدٍ سَمَاعًا وَقِرَاءَةً، قَالُوا‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَمْرَوَيْهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرُّومِيِّ، وَعَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ، وَأَحْمَدُ الْمَعْقِرِيُّ، قَالُوا‏:‏ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّجَاشِيِّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، قَالَ‏:‏ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ‏:‏ مَا تَصْنَعُونَ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ كُنَّا نَصْنَعُهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا، فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ‏:‏ «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ»‏.‏

وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ‏:‏ «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»‏.‏

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ‏:‏ «إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ»‏.‏

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْخَرْصِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَمَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا قُلْتُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ»‏.‏

وَهَذَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا قَالَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَظَنِّهِ مِنْ أَحْوَالِهَا، لَا مَا قَالَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي شَرْعٍ شَرَعَهُ، وَسُنَّةٍ سَنَّهَا‏.‏

وَكَمَا حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِأَدْنَى مِيَاهِ بَدْرٍ قَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ‏:‏ أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ‏؟‏

قَالَ‏:‏ «لَا، بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ»‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، انْهَضْ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقَلْبِ، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ «أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ»، وَفَعَلَ مَا قَالَهُ‏.‏

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ‏:‏ ‏{‏وَشَاوْرِهُمْ فِي الْأَمْرِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 159‏]‏‏.‏

وَأَرَادَ مُصَالَحَةَ بَعْضِ عَدُوِّهِ عَلَى ثُلُثِ ثَمَرِ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَشَارَ الْأَنْصَارَ‏.‏ فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ بِرَأْيِهِمْ رَجَعَ عَنْهُ‏.‏

فَمِثْلُ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِعِلْمِ دِيَانَةٍ وَلَا اعْتِقَادِهَا وَلَا تَعْلِيمِهَا، يَجُوزُ عَلَيْهِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، إِذْ لَيْسَ فِي هَذَا كُلِّهِ نَقِيصَةٌ، وَلَا مَحَطَّةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ اعْتِيَادِيَّةٌ يَعْرِفُهَا مَنْ جَرَّبَهَا، وَجَعَلَهَا هَمَّهُ، وَشَغَلَ نَفْسَهُ بِهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْحُونُ الْقَلْبِ بِمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ مَلْآنُ الْجَوَانِحِ بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ، مُقَيَّدُ الْبَالِ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَكِنْ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَيَجُوزُ فِي النَّادِرِ فِيمَا سَبِيلُهُ التَّدْقِيقُ فِي حِرَاسَةِ الدُّنْيَا وَاسْتِثْمَارِهَا، لَا فِي الْكَثِيرِ الْمُؤْذِنِ بِالْبَلَهِ، وَالْغَفْلَةِ‏.‏

وَقَدْ تَوَاتَرَ بِالنَّقْلِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا، وَدَقَائِقِ مَصَالِحِهَا، وَسِيَاسَةِ فِرَقِ أَهْلِهَا مَا هُوَ مُعْجِزٌ فِي الْبَشَرِ مِمَّا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي بَابِ مُعْجِزَاتِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ‏.‏

الفصل الرَّابِعُ‏:‏ أَحْكَامُ الْبَشَرِ الْجَارِيَةُ عَلَى يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَأَمَّا مَا يَعْتَقِدُهُ فِي أُمُورِ أَحْكَامِ الْبَشَرِ الْجَارِيَةِ عَلَى يَدَيْهِ، وَقَضَايَاهُمْ، وَمَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَعِلْمِ الْمُصْلِحِ مِنَ الْمُفْسِدِ، فَبِهَذِهِ السَّبِيلِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»‏.‏

حَدَّثَنَا الْفَقِيهُ أَبُو الْوَلِيدِ- رَحِمَهُ اللَّهُ-، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ‏:‏ «فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِيَ لَهُ»‏.‏

وَتَجْرِي أَحْكَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الظَّاهِرِ، وَمُوجَبِ غَلَبَاتِ الظَّنِّ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَيَمِينِ الْحَالِفِ، وَمُرَاعَاةِ الْأَشْبَهِ، وَمَعْرِفَةِ الْعِفَاصِ، وَالْوِكَاءِ، مَعَ مُقْتَضَى حِكْمَةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَأَطْلَعَهُ عَلَى سَرَائِرِ عِبَادِهِ، وَمُخَبَّآتِ ضَمَائِرِ أُمَّتِهِ، فَتَوَلَّى الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ بِمُجَرَّدِ يَقِينِهِ، وَعِلْمِهِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى اعْتِرَافٍ أَوْ بَيِّنَةٍ أَوْ يَمِينٍ أَوْ شُبْهَةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ أُمَّتَهُ بِاتِّبَاعِهِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَقَضَايَاهُ وَسَيَرِهِ، وَكَانَ هَذَا لَوْ كَانَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِعِلْمِهِ، وَيُؤْثِرُهُ اللَّهُ بِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْأُمَّةِ سَبِيلٌ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا قَامَتْ حُجَّةٌ بِقَضِيَّةٍ مِنْ قَضَايَاهُ لِأَحَدٍ فِي شَرِيعَتِهِ، لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مَا أُطْلِعَ عَلَيْهِ هُوَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ بِحُكْمِهِ هُوَ إِذًا فِي ذَلِكَ بِالْمَكْنُونِ مِنْ إِعْلَامِ اللَّهِ لَهُ بِمَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ مِنْ سَرَائِرِهِمْ، وَهَذَا مَا لَا تَعْلَمُهُ الْأُمَّةُ، فَأَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى أَحْكَامَهُ عَلَى ظَوَاهِرِهِمُ الَّتِي يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْبَشَرِ، لِيَتِمَّ اقْتِدَاءُ أُمَّتِهِ بِهِ فِي تَعْيِينِ قَضَايَاهُ، وَتَنْزِيلِ أَحْكَامِهِ، وَيَأْتُونَ مَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ، وَيَقِينٍ مِنْ سُنَّتِهِ، إِذِ الْبَيَانُ بِالْفِعْلِ أَوْقَعُ مِنْهُ بِالْقَوْلِ، وَأَدْفَعُ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ، وَتَأْوِيلِ الْمُتَأَوِّلِ، وَكَانَ حُكْمُهُ عَلَى الظَّاهِرِ أَجْلَى فِي الْبَيَانِ وَأَوْضَحَ فِي وُجُوهِ الْأَحْكَامِ، وَأَكْثَرَ فَائِدَةً لِمُوجِبَاتِ التَّشَاجُرِ وَالْخِصَامِ، وَلِيَقْتَدِيَ بِذَلِكَ كُلِّهِ حُكَّامُ أُمَّتِهِ، وَيُسْتَوْثَقَ بِمَا يُؤْثَرُ عَنْهُ، وَيَنْضَبِطُ قَانُونُ شَرِيعَتِهِ، وَطَيُّ ذَلِكَ عَنْهُ مَنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ عَالَمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ، فَيُعْلِمُهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ، وَيَسْتَأْثِرُ بِمَا شَاءَ، وَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي نُبُوَّتِهِ، وَلَا يَفْصِمُ عُرْوَةً مِنْ عِصْمَتِهِ‏.‏

الفصل الْخَامِسُ‏:‏ أَخْبَارُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَأَمَّا أَقْوَالُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ أَخْبَارِهِ عَنْ أَحْوَالِهِ، وَأَحْوَالِ غَيْرِهِ، وَمَا يَفْعَلُهُ أَوْ فَعَلَهُ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْخُلْفَ فِيهَا مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ، مِنْ عَمْدٍ أَوْ سَهْوٍ، أَوْ صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ رِضًى أَوْ غَضَبٍ، وَأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

هَذَا فِيمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ الْمَحْضُ مِمَّا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، فَأَمَّا الْمَعَارِيضُ الْمُوهِمُ ظَاهِرُهَا خِلَافَ بَاطِنِهَا فَجَائِزٌ وُرُودُهَا مِنْهُ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ لَا سِيَّمَا لِقَصْدِ الْمَصْلَحَةِ، كَتَوْرِيَتِهِ عَنْ وَجْهِ مَغَازِيهِ لِئَلَّا يَأْخُذَ الْعَدُوُّ حِذْرَهُ‏.‏

وَكَمَا رُوِيَ مِنْ مُمَازَحَتِهِ، وَدُعَابَتِهِ لِبَسْطِ أُمَّتِهِ، وَتَطْيِيبِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ صَحَابَتِهِ، وَتَأْكِيدًا فِي تَحَبُّبِهِمْ، وَمَسَرَّةِ نُفُوسِهِمْ، كَقَوْلِهِ‏:‏ لَأَحْمِلَنَّكِ عَلَى ابْنِ النَّاقَةِ‏.‏ وَقَوْلِهِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ عَنْ زَوْجِهَا‏:‏ أَهُوَ الَّذِي بِعَيْنِهِ بَيَاضٌ‏.‏

وَهَذَا كُلُّهُ صِدْقٌ، لِأَنَّ كُلَّ جَمَلٍ ابْنُ نَاقَةٍ، وَكُلَّ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ بَيَاضٌ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنِّي لَأَمْزَحُ، وَلَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا»‏.‏

هَذَا كُلُّهُ فِيمَا بَابُهُ الْخَبَرُ، فَأَمَّا مَا بَابُهُ غَيْرُ الْخَبَرِ مِمَّا صُورَتُهُ صُورَةُ الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ أَيْضًا، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا بِشَيْءٍ أَوْ يَنْهَى أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ، وَهُوَ يُبْطِنُ خِلَافَهُ‏.‏

وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ»، فَكَيْفَ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ قَلْبٍ‏؟‏‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 37‏]‏‏.‏

فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، وَلَا تَسْتَرِبْ فِي تَنْزِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ، وَأَنْ يَأْمُرَ زَيْدًا بِإِمْسَاكِهَا، وَهُوَ يُحِبُّ تَطْلِيقَهُ إِيَّاهَا، كَمَا ذُكِرَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ‏.‏

وَأَصَحُّ مَا فِي هَذَا مَا حَكَاهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّ زَيْنَبَ سَتَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَلَمَّا شَكَاهَا إِلَيْهِ زَيْدٌ قَالَ لَهُ‏:‏ ‏{‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وَأَخْفَى فِي نَفْسِهِ مَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا مِمَّا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَمُظْهِرُهُ بِتَمَامِ التَّزْوِيجِ، وَطَلَاقِ زَيْدٍ لَهَا‏.‏

وَرَوَى نَحْوَهُ عَمْرُو بْنُ فَائِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ‏:‏ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلِمُهُ أَنَّ اللَّهَ يُزَوِّجُهُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَذَلِكَ الَّذِي أَخْفَى فِي نَفْسِهِ، وَيُصَحِّحُ هَذَا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 37‏]‏، أَيْ لَا بُدَّ لَكَ أَنْ تَتَزَوَّجَهَا‏.‏

وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبْدِ مِنْ أَمْرِهِ مَعَهَا غَيْرَ زَوَاجِهِ لَهَا، فَدَلَّ أَنَّهُ الَّذِي أَخْفَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ أَعْلَمَهُ بِهِ تَعَالَى‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْقِصَّةِ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 38‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

فَدَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ فِي الْأَمْرِ‏.‏

قَالَ الطَّبَرِيُّ ‏:‏ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُؤَثِّمَ نَبِيَّهُ فِيمَا أَحَلَّ لَهُ مِثَالَ فِعْلِهِ لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 38‏]‏، أَيْ مِنَ النَّبِيِّينَ فِيمَا أَحَلَّ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ قَتَادَةَ مِنْ وُقُوعِهَا مِنْ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا أَعْجَبَتْهُ، وَمَحَبَّتِهِ طَلَاقَ زَيْدٍ لَهَا لَكَانَ فِيهِ أَعْظَمُ الْحَرَجِ، وَمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ مَدِّ عَيْنَيْهِ لِمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَكَانَ هَذَا نَفْسَ الْحَسَدِ الْمَذْمُومِ الَّذِي لَا يَرْضَاهُ، وَلَا يَتَّسِمُ بِهِ الْأَتْقِيَاءُ، فَكَيْفَ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ‏؟‏‏.‏

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ ‏:‏ وَهَذَا إِقْدَامٌ عَظِيمٌ مِنْ قَائِلِهِ، وَقِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِحَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِفَضْلِهِ‏.‏

وَكَيْفَ يُقَالُ‏:‏ رَآهَا فَأَعْجَبَتْهُ، وَهِيَ بِنْتُ عَمِّهِ، وَلَمْ يَزَلْ يَرَاهَا مُنْذُ وُلِدَتْ، وَلَا كَانَ النِّسَاءُ يَحْتَجِبْنَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ زَوَّجَهَا لِزَيْدٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ طَلَاقَ زَيْدٍ لَهَا، وَتَزْوِيجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا، لِإِزَالَةِ حُرْمَةِ التَّبَنِّي، وَإِبْطَالِ سُنَّتِهِ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وَنَحْوُهُ لِابْنِ فُورَكٍ‏.‏

وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ ‏:‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ بِإِمْسَاكِهَا‏؟‏ فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَلَاقِهَا، إِذْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا أُلْفَةٌ، وَأَخْفَى فِي نَفْسِهِ مَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ فَلَمَّا طَلَّقَهَا زَيْدٌ خَشِيَ قَوْلَ النَّاسِ‏:‏ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةَ ابْنِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِزَوَاجِهَا لِيُبَاحَ مِثْلُ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ كَانَ أَمْرُهُ لِزَيْدٍ بِإِمْسَاكِهَا قَمْعًا لِلشَّهْوَةِ، وَرَدًّا لِلنَّفْسِ عَنْ هَوَاهَا‏.‏ وَهَذَا إِذَا جَوَّزْنَا عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهَا فَجْأَةً، وَاسْتَحْسَنَهَا‏.‏ وَمِثْلُ هَذَا لَا نُكْرَةَ فِيهِ، لِمَا طُبِعَ عَلَيْهِ ابْنُ آدَمَ مِنَ اسْتِحْسَانِهِ لِلْحُسْنِ، وَنَظْرَةُ الْفُجْاءَةِ مَعْفُوٌّ عَنْهَا، ثُمَّ قَمَعَ نَفْسَهُ عَنْهَا، وَأَمَرَ زَيْدًا بِإِمْسَاكِهَا، وَإِنَّمَا تُنْكَرُ تِلْكَ الزِّيَادَاتُ فِي الْقِصَّةِ وَالتَّعْوِيلُ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، وَحَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَطَاءٍ ، وَصَحَّحَهُ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْقَاضِي الْقُشَيْرِيُّ ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، قَالَ‏:‏ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنِ اسْتِعْمَالِ النِّفَاقِ فِي ذَلِكَ، وَإِظْهَارِ خِلَافِ مَا فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ نَزَّهَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 37‏]‏، وَمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَخْطَأَ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَيْسَ مَعْنَى الْخَشْيَةِ هُنَا الْخَوْفَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الِاسْتِحْيَاءُ، أَيْ يَسْتَحْيِي مِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا‏:‏ تَزَوَّجَ زَوْجَةَ ابْنِهِ‏.‏

وَأَنَّ خَشْيَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّاسِ كَانَتْ مِنْ إِرْجَافِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْيَهُودِ، وَتَشْغِيبِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِمْ‏:‏ تَزَوَّجَ زَوْجَةَ ابْنِهِ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ، كَمَا كَانَ فَعَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا وَنَزَّهَهُ عَنِ الِالْتِفَافِ إِلَيْهِمْ فِيمَا أَحَلَّهُ لَهُ، كَمَا عَتَبَهُ عَلَى مُرَاعَاةِ رِضَى أَزْوَاجِهِ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ‏}‏ ‏[‏التَّحْرِيمِ‏:‏ 1‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَهُ هَاهُنَا‏:‏ ‏{‏وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَعَائِشَةَ‏:‏ لَوْ كَتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا كَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ عَتَبِهِ، وَإِبْدَاءِ مَا أَخَفَاهُ‏.‏

الفصل السَّادِسُ‏:‏ حَدِيثُ الْوَصِيَّةِ

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ قَدْ تَقَرَّرَتْ عِصْمَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِيهَا خُلْفٌ، وَلَا اضْطِرَابٌ فِي عَمْدٍ وَلَا سَهْوٍ وَلَا صِحَّةٍ وَلَا مَرَضٍ وَلَا جَدٍّ وَلَا هَزْلٍ وَلَا رِضًى وَلَا غَضَبٍ‏.‏ وَلَكِنْ مَا مَعْنَى الْحَدِيثِ فِي وَصِيَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، قَالُوا‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ‏:‏ لَمَّا احْتُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ»‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ‏.‏‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ «آتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا»، فَتَنَازَعُوا فَقَالُوا‏:‏ مَا لَهُ أَهَجَرَ‏!‏ اسْتَفْهِمُوهُ، فَقَالَ‏:‏ «دَعُونِي، فَإِنَّ الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ»‏.‏

وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ‏:‏ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهْجُرُ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ هَجَرَ‏.‏ وَيُرْوَى‏:‏ أَهْجُرٌ‏.‏ وَيُرْوَى‏:‏ أَهُجْرًا‏.‏

وَفِيهِ فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا‏.‏

وَكَثُرَ اللَّغَطُ، فَقَالَ‏:‏ «قُومُوا عَنِّي»‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ‏:‏ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ‏.‏

قَالَ أَئِمَّتُنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ‏:‏ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ عَوَارِضِهَا مِنْ شِدَّةِ وَجَعٍ وَغَشْيٍ، وَنَحْوِهِ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَى جِسْمِهِ، مَعْصُومٌ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مِنَ الْقَوْلِ أَثْنَاءَ ذَلِكَ مَا يَطْعَنُ فِي مُعْجِزَتِهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى فَسَادٍ فِي شَرِيعَتِهِ مِنْ هَذَيَانٍ أَوِ اخْتِلَالِ كَلَامٍ‏.‏

وَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ ظَاهِرُ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى فِي الْحَدِيثِ‏:‏ هَجَرَ إِذْ مَعْنَاهُ هَذَى يُقَالُ‏:‏ هَجَرَ هُجْرًا، إِذَا هَذَى‏.‏ وَأَهْجَرَ هُجْرًا، إِذَا أَفْحَشَ، وَأَهْجَرَ تَعْدِيَةُ هَجَرَ، وَإِنَّمَا الْأَصَحُّ، وَالْأَوْلَى أَهَجَرَ‏؟‏ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ‏:‏ لَا يَكْتُبُ‏.‏

وَهَكَذَا رِوَايَتُنَا فِيهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ جَمِيعِ الرُّوَاةِ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَفِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ عُيَيْنَةَ، وَكَذَا ضَبَطَهُ الْأَصِيلِيُّ بِخَطِّهِ فِي كِتَابِهِ، وَغَيْرُهُ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ، وَكَذَا رَوَيْنَاهُ عَنْ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ وَعَنْ غَيْرِهِ‏.‏

وَقَدْ تُحْمَلُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ هَجَرَ عَلَى حَذْفِ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالتَّقْدِيرُ‏:‏

أَهَجَرَ‏؟‏ أَوْ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الْقَائِلِ هَجَرَ أَوْ أَهَجَرَ دَهْشَةً مِنْ قَائِلِ ذَلِكَ، وَحَيْرَةً لِعَظِيمِ مَا شَاهَدَ مِنْ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشِدَّةِ وَجَعِهِ، وَهُوَ الْمَقَامُ الَّذِي اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَيْهِ، وَالْأَمْرُ الَّذِي هَمَّ بِالْكِتَابِ فِيهِ، حَتَّى لَمْ يَضْبِطْ هَذَا الْقَائِلُ لَفْظَهُ، وَأَجْرَى الْهُجْرَ مَجْرَى شِدَّةِ الْوَجَعِ، لَا أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْهُجْرُ، كَمَا حَمَلَهُمُ الْإِشْفَاقُ عَلَى حِرَاسَتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 67‏]‏، وَنَحْوِ هَذَا‏.‏

وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ‏:‏ أَهُجْرًا‏؟‏ وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُسْتَمْلِيِّ فِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ ابْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، مِنْ رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا رَاجِعًا إِلَى الْمُخْتَلِفِينَ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُخَاطَبَةً لَهُمْ مِنْ بَعْضِهِمْ، أَيْ جِئْتُمْ بِاخْتِلَافِكُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ هُجْرًا، وَمُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ‏.‏

وَالْهُجْرُ بِضَمِّ الْهَاءِ‏:‏ الْفُحْشُ فِي الْمَنْطِقِ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَيْفَ اخْتَلَفُوا بَعْدَ أَمْرِهِ لَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَأْتُوهُ بِالْكِتَابِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ أَوَامِرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْهَمُ إِيجَابُهَا مِنْ نَدْبِهَا مِنْ إِبَاحَتِهَا بِقَرَائِنَ، فَلَعَلَّهُ قَدْ ظَهَرَ مِنْ قَرَائِنِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِهِمْ مَا فَهِمُوا أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ عَزْمَةٌ، بَلْ أَمْرٌ رَدَّهُ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ اسْتَفْهِمُوهُ، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا كَفَّ عَنْهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ عَزْمَةً، وَلِمَا رَأَوْهُ مِنْ صَوَابِ رَأْيِ عُمَرَ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا، وَيَكُونُ امْتِنَاعُ عُمَرَ إِمَّا إِشْفَاقًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَكْلِيفِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ إِمْلَاءَ الْكِتَابِ، وَأَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ‏:‏ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَدَّ بِهِ الْوَجَعُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ خَشِيَ عُمَرُ أَنْ يَكْتُبَ أُمُورًا يَعْجِزُونَ عَنْهَا فَيَحْصَلُونَ فِي الْحَرَجِ بِالْمُخَالَفَةِ، وَرَأَى أَنَّ الْأَوْفَقَ بِالْأُمَّةِ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ سَعَةُ الِاجْتِهَادِ، وَحُكْمُ النَّظَرِ، وَطَلَبُ الصَّوَابِ، فَيَكُونُ الْمُصِيبُ، وَالْمُخْطِئُ مَأْجُورًا‏.‏

وَقَدْ عَلِمَ عُمَرُ تَقَرُّرَ الشَّرْعِ، وَتَأْسِيسَ الْمِلَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُوصِيكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي»‏.‏

وَقَوْلُ عُمَرَ‏:‏ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ، لَا عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ عُمَرَ خَشِيَ تَطَرُّقَ الْمُنَافِقِينَ، وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ لِمَا كُتِبَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ فِي الْخَلْوَةِ، وَأَنْ يَتَقَوَّلُوا فِي ذَلِكَ الْأَقَاوِيلَ، كَادِّعَاءِ الرَّافِضَةِ الْوَصِيَّةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْمَشُورَةِ، وَالِاخْتِيَارِ‏.‏ هَلْ يَتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ أَمْ يَخْتَلِفُونَ‏؟‏ فَلَمَّا اخْتَلَفُوا تَرَكَهُ‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى‏:‏ إِنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُجِيبًا فِي هَذَا الْكِتَابِ لِمَا طُلِبَ مِنْهُ، لَا أَنَّهُ ابْتَدَأَ بِالْأَمْرِ بِهِ، بَلِ اقْتَضَاهُ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَأَجَابَ رَغْبَتَهُمْ، وَكَرِهَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ لِلْعِلَلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا‏.‏

وَاسْتَدَلَّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِقَوْلِ الْعَبَّاسِ لَعَلِيٍّ‏:‏ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِينَا عَلِمْنَاهُ، وَكَرَاهَةِ عَلِيٍّ هَذَا وَقَوْلِهِ‏:‏ وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ‏.‏‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ‏:‏ دَعُونِي، فَإِنَّ الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ، أَيِ الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِنْ إِرْسَالِ الْأَمْرِ، وَتَرْكِكُمْ، وَكِتَابَ اللَّهِ‏.‏ وَأَنْ تَدَعُونِي مِمَّا طَلَبْتُمْ‏.‏

وَذُكِرَ أَنَّ الَّذِي طُلِبَ كِتَابَةُ أَمْرِ الْخِلَافَةِ بَعْدَهُ، وَتَعْيِينُ ذَلِكَ‏.‏

الفصل السَّابِعُ‏:‏ دِرَاسَةُ أَحَادِيثَ أُخْرَى

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَمَا وَجْهُ حَدِيثِهِ أَيْضًا الَّذِي حَدَّثَنَاهُ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخُشَنِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، ‏[‏حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْجُلُودِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ حَجَّاجٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى النَّصْرِيِّينَ‏]‏، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ «اللَّهُمَّ إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ، يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، وَإِنِّي قَدِ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا كَفَّارَةً لَهُ، وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ «فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ دَعْوَةً»‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ‏.‏ وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَصَلَاةً وَرَحْمَةً‏.‏

وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَلْعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ، وَيَسُبُّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ السَّبَّ، وَيَجْلِدُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَلْدَ، أَوْ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَهُوَ مَعْصُومٌ عَنْ هَذَا كُلِّهِ‏؟‏‏.‏

فَاعْلَمْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَكَ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا‏:‏ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَيْ عِنْدَكَ يَا رَبِّ فِي بَاطِنِ أَمْرِهِ، فَإِنَّ حُكْمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الظَّاهِرِ، كَمَا قَالَ‏:‏ وَلِلْحِكْمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَحَكَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَلْدِهِ، أَوْ أَدَّبَهُ بِسَبِّهِ أَوْ لَعْنِهِ بِمَا اقْتَضَاهُ عِنْدَهُ حَالُ ظَاهِرِهِ، ثُمَّ دَعَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ، وَرَأْفَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا، وَحَذَّرَهُ أَنْ يَتَقَبَّلَ اللَّهُ فِيمَنْ دَعَا عَلَيْهِ دَعْوَةً أَنْ يَجْعَلَ دُعَاءَهُ، وَلَعْنَهُ لَهُ رَحْمَةً، فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، لَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُهُ الْغَضَبُ، وَيَسْتَفِزُّهُ الضَّجَرُ لِأَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا بِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ مُسْلِمٍ‏.‏

وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ ‏"‏ ‏,‏ أَنَّ الْغَضَبَ حَمَلَهُ عَلَى مَا لَا يَجِبُ فِعْلُهُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا أَنَّ الْغَضَبَ لِلَّهِ حَمَلَهُ عَلَى مُعَاقَبَتِهِ بِلَعْنِهِ أَوْ سَبِّهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا كَانَ يَحْتَمِلُ، وَيَجُوزُ عَفْوُهُ عَنْهُ، أَوْ كَانَ مِمَّا خُيِّرَ بَيْنَ الْمُعَاقَبَةِ فِيهِ، وَالْعَفْوِ عَنْهُ‏.‏

وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِشْفَاقِ وَتَعْلِيمِ أُمَّتِهِ الْخَوْفَ وَالْحَذَرَ مِنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ‏.‏

وَقَدْ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ دُعَائِهِ هُنَا، وَمِنْ دَعَوَاتِهِ عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ، عَلَى غَيْرِ الْعَقْدِ، وَالْقَصْدِ، بَلْ بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الْإِجَابَةَ، كَقَوْلِهِ‏:‏ تَرِبَتْ يَمِينُكَ‏.‏

وَلَا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَكَ‏.‏ وَعَقْرَى حَلْقَى‏.‏ وَغَيْرِهَا مِنْ دَعَوَاتِهِ‏.‏

وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَتِهِ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فَحَّاشًا، وَقَالَ أَنَسٌ لَمْ يَكُنْ سَبَّابًا، وَلَا فَاحِشًا، وَلَا لَعَّانًا، وَكَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ، مَا لَهُ‏!‏ تَرِبَ جَبِينُهُ‏!‏‏.‏

فَيَكُونُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ أَشْفَقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُوَافَقَةِ أَمْثَالِهَا إِجَابَةً، فَعَاهَدَ رَبَّهُ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ، أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ لِلْمَقُولِ زَكَاةً وَرَحْمَةً وَقُرْبَةً‏.‏

وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ إِشْفَاقًا عَلَى الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ، وَتَأْنِيسًا لَهُ، لِئَلَّا يَلْحَقَهُ مِنَ اسْتِشْعَارِ الْخَوْفِ، وَالْحَذَرِ مِنْ لَعْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَبُّلِ دُعَائِهِ، مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْيَأْسِ، وَالْقُنُوطِ‏.‏

وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سُؤَالًا مِنْهُ لِرَبِّهِ لِمَنْ جَلَدَهُ، أَوْ سَبَّهُ عَلَى حَقٍّ، وَبِوَجْهٍ صَحِيحٍ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ لَهُ كَفَّارَةً لِمَا أَصَابَهُ، وَتَمْحِيَةً لِمَا اجْتَرَمَ، وَأَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ لَهُ فِي الدُّنْيَا سَبَبَ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ‏:‏ «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ»‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَمَا مَعْنَى حَدِيثِ الزُّبَيْرِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَخَاصُمِهِ مَعَ الْأَنْصَارِيِّ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ‏:‏ «اسْقِ يَا زُبَيْرُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ‏.‏ فَقَالَ لَهُ الْأَنْصَارِيُّ‏:‏ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ»‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ أَنْ يَقَعَ بِنَفْسِ مُسْلِمٍ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَمْرٌ يُرِيبُ، وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ الزُّبَيْرَ أَوَّلًا إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ حَقِّهِ عَلَى طَرِيقِ التَّوَسُّطِ، وَالصُّلْحِ، فَلَمَّا لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ الْآخَرُ، وَلَجَّ، وَقَالَ مَا لَا يَجِبُ اسْتَوْفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ‏.‏

وَلِهَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ‏:‏ بَابٌ إِذَا أَشَارَ الْإِمَامُ بِالصُّلْحِ فَأَبَى حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ‏.‏

وَذَكَرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ‏:‏ فَاسْتَوْعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ‏.‏

وَقَدْ جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْحَدِيثَ أَصْلًا فِي قَضِيَّتِهِ‏.‏

وَفِيهِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا فَعَلَهُ فِي حَالِ غَضَبِهِ، وَرِضَاهُ، وَأَنَّهُ وَإِنْ نَهَى أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي، وَهُوَ غَضْبَانُ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِهِ فِي حَالِ الْغَضَبِ، وَالرِّضَى سَوَاءٌ لِكَوْنِهِ فِيهِمَا مَعْصُومًا‏.‏ وَغَضَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا إِنَّمَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِنَفْسِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ فِي إِقَادَتِهِ عُكَاشَةَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِتَعَدٍّ حَمَلَهُ الْغَضَبُ عَلَيْهِ، بَلْ وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ أَنَّ عُكَاشَةَ قَالَ لَهُ‏:‏ وَضَرَبْتَنِي بِالْقَضِيبِ، فَلَا أَدْرِي أَعَمْدًا، أَمْ أَرَدْتَ ضَرْبَ النَّاقَةِ‏؟‏ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا عُكَاشَةُ أَنْ يَتَعَمَّدَكَ رَسُولُ اللَّهِ»‏.‏

وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ مَعَ الْأَعْرَابِيِّ حِينَ طَلَبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الِاقْتِصَاصَ مِنْهُ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ‏.‏ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ لِتَعَلُّقِهِ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَاهُ، وَيَقُولُ لَهُ‏:‏ «تُدْرِكُ حَاجَتَكَ، وَهُوَ يَأْبَى، فَضَرَبَهُ بَعْدَ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ»‏.‏

وَهَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ نَهْيِهِ صَوَابٌ، وَمَوْضِعُ أَدَبٍ، لَكِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ‏:‏ أَشْفَقَ إِذْ كَانَ حَقَّ نَفْسِهِ مِنَ الْأَمْرِ حَتَّى عَفَا عَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا حَدِيثُ سَوَادِ بْنِ عَمْرٍو‏:‏ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا مُتَخَلِّقٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «وَرْسٌ وَرْسٌ حُطَّ حُطَّ» وَغَشِيَنِي بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ فِي بَطْنِي فَأَوْجَعَنِي‏.‏

قُلْتُ‏:‏ الْقَصَاصُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏ فَكَشَفَ لِي عَنْ بَطْنِهِ‏.‏

وَإِنَّمَا ضَرَبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُنْكَرٍ رَآهُ بِهِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ بِضَرْبِهِ بِالْقَضِيبِ إِلَّا تَنْبِيهَهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنْهُ إِيجَاعٌ لَمْ يَقْصِدْهُ طَلَبَ التَّحَلُّلَ مِنْهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا‏.‏