الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (20- 23): {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}يقول الحق جلّ جلاله: {وفي الأرض آياتٌ} دالة على كامل قدرته على البعث وغيره، من حيث أنها مدحوة كالبساط الممهد، وفيها مسالك وفجاج للمتقلبين في أقطارها، والسالكين في مناكبها، وفيها سهل وجبل، وبحر وبر، وقِطع متجاورات، وعيونٌ متفجرات، ومعادن مقنية، ودواب منبثة، مختلفة الصور والأشكال، متباينة الهيئات والأفعال، وهي مع كبر شكلها مبسوطة على الماء، المرفوع فوق الهواء، فالقدرة فيها ظاهرة، والحكمة فيها باهرة، ففي ذلك عبرة {للمُوقنين} الموحِّدين، الذين ينظرون بعين الأعتبار، ويُشاهدون صانعها ببصير الاستبصار.{وفي أنفسكم} آيات وعجائب القدرة؛ إذ ليس شيء في العالم إلا وفي الأنفس له نظير، مع ما فيه من الهيئات النابعة والمصادر البهية، والترتيبات العجيبة، خَلَقَه نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم فصلها إلى العظم والعصب والعروق، فالعظام عمود الجسد، ضمّ بعضها إلى بعض بمفاصل وأقفال رُبطت بها، ولم تكن عظماً واحداً؛ لأنه إذا ذاك يكون كالخشبة، ولا يقوم ولا يجلس، ولا يركع ولا يسجد لخالقه، ثم خلق تعالى المخ في العظام في غاية الرطوبة ليرطب يُبس العظام، ويتقوّى به، ثم خلق سبحانه اللحمَ وعباه على العظام، وسدّ به خلل الجسد، واعتدلت هيئته، ثم خلق سبحانه العروق في جميع الجسد جداول، يجري الغذاء منها إلى أركان الجسد، لكل موضع من الجسد عدد معلوم، ثم أجرى الدم في العروق سيالاً خاثراً، ولو كان يابساً، أو اكتفى مما هو فيه، لم يجرِ في العروق، ثم كسى سبحانه اللحمَ بالجلد كالوعاء له، ولولا ذلك لكان قشراً أحمر، وفي ذلك هلاكه، ثم كساه الشعر؛ وقايةً وزينةً، وليّن أصوله، ولم تكن يابسة مثل رؤوس الإبر، وإلا لم يهنه عيش، وجعل الحواجب والأشفار وقاية للعين ولولا ذلك لأهلكهما الغبار والسقط، وجعلها سبحانه طوع يده، يتمكن من رَفْعِها عند قصد النظر، ومِن إرخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النظر عما يضر دِيناً ودُنيا، وجعل شعرها صفّاً واحد لينظر من خللها، ثم خلق سبحانه سفتين ينطبقان على الفم؛ يصونان الحلقَ والفمَ من الرياح والغبار، ولما فيهما من كمال الزينة، ثم خلق الله سبحانه الأسنان؛ ليتمكن من اقطع مأكوله وطحنه، ولم تكن له في أول خلِقته لئلا يذي أمه، وجعلها ثلاثة أصناف: قسم يصلح للكسر، كالأنياب، وقسم يصلح للقطع، كالرباعية، وقسم يصلح للطحن، كالأضراس... إلى غير ذلك مما في الإنسان من عجائب الصنع وبدائع التركيب.{أفلا تُبصرون} أي: تنظرون نظر مَن يعتبر، وما قيل: إن التقدير: أفلا تبصرون في أنفسكم، فضعيف؛ لأنه يُفضي إلى تقديم ما في حيّز الاستفهام عليه.{وفي السماء رزقكم} وهو المطر. وعن الحسن؛ أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه رزقكم إلا أنكم تُحرمونه بخطاياكم، أو: في سماء الغيب تقدير رزقكم.فهو مضمون عند الله في سماء غيبه، ستر ذلك بسر الحكمة، وهو الأسباب، {وما تُوعدون} أي: وفي السماء ما تُوعدون من الثواب؛ لأن الجنة في السماء السابعة، سقفها العرش، أو: أراد: إنما تُوعدونه من الرزق في الدنيا وما تُوعدونه في العقبى كله مقدّر ومكتوب في السماء، وقيل: إنه مبتدأ وخبره: {فَوَرَبُّ السماءِ والأرض إِنه لَحقٌّ} أي: ما توعدون من البعث وما بعده، أو: ما توعدونه من الرزق المقسوم، فَوَرَبِّ العالم العلوي والسفلي {إِنه لحقٌّ مثل ما أنكم تنطقون} أي: مثل نطقكم، شبّه ما وعد به من الرزق وغيره بتحقُّق نطق الآدمي؛ لأنه ضروري، يعرفه من نفسه كلُّ أحد.قال الطيبي: وإنما خصّ النطق دون سائر الأعمال الضرورية، لكونه أبقى وأظهر، ومن الاحتمال أبعد، فإنّ النطق يُفصح عن كل شيء، ويجلي كل شبهة. اهـ. فَضمان الرزق وإنجاز وعده ضروري، كنطق الناطق. رُوي عن الأصمعي أنه قال: أقبلتُ من جامع البصرة، فطلع أعرابي على قَعود، فقال: مَنْ الرجل؟ فقلت: من بني أصمع، فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من موضع يتلى فيه كلام الله، قال: اتل عليَّ، فتلوت: {والذاريات...} فلما بلغت قوله: {وفي السماء رزقكم} قال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها، ووزعها على مَن أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسّرهما، وولّى، فلما حججت مع الرشيد، وطُفت، فإذا أنا بصوت رقيق يهتف بي، فالتفتّ، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفرّ، فسلّم عليَّ، واستقرأ السورة، فلما بلغتُ الآية، صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقّاً، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأتُ: {فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنه لَحقٌّ} فقال: سبحان الله! مَن الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ لم يُصدقوه بقوله حتى حلف، قالها ثلاثاً، وخرجت معها نَفْسُه. اهـ. من النسفي.قلت: وقد سمعت حكاية أخرى، فيها عبرة، وذلك أن رجلاً سمع قارئاً يقرأ هذه الآية، فدخل بيته، ولزم زاوية منه يذكر فيها، ويتبتل، فجاءت امرأته تنقم عليه، وتأمره بالخدمة، فقال لها: قال تعالى: {وفي السماء رزقكم}، فلما أيست منه ذهبت تحفر شيئاً، فوجدت آنية مملوءة دنانير، فجاءت إليه، وقالت: قد أتانا رزقنا، قم تحرفه معي، هو في موضع كذا، فقال: إنما قال تعالى: {في السماء} ولم يقل في الأرض، فامتنع فذهبت إلى أخٍ لها تستعين به، فلما فتحتها وجدتها مملوءة عقارب، فقالت: والله لأطرحنها عليه لنستريح منه، ففتحت كوة من السقف، وطرحتها عليه، فسقطت دنانير، فقال: الآن نعم، قد آتاني من حيث قال ربي: {وفي السماء رزقكم}. اهـ. وذكر في التنوير: أن الملائكة لمّا نزلت هذه الآية ضجّت في السماء، وقالت: ما أضعف بني آدم حتى أحوجوا ربهم إلى الحلف.الإشارة: وفي أرض نفوس العارفين آيات، منها: أن الأرض تحمل كل شيء، ولا تستثقل شيئاً، فكذلك نفس العارف، تحمل كُلَّ كَلٍّ وثقيل، ومَن استثقل حملاً، أو تبرّم من أحد، أو من شيء، ساقته القدرة إليه، فلغيبته عن الحق، ومطالعته الخلق بعين التفرقة، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة.ومنها: أنها يلقى عليها كل قذارة وقمامة فتُنبت كل زهر ونَور وورد، فكذلك العارف يُلقى عليه كل جفاء، ولا يظهر منه إلا الصفاء. ومنها أن الأرض الطيبة تُنبت الطيب، وينصع نباتها، والأرض السبخة لا تُنبت شيئاً، كذلك القلوب الطيبة تُنبت كل ما يلقى فيها من الخير، والقلوب الخبيثة لا تعي شيئاً، ولا ينبت فيها إلا الخبيث.وقوله تعالى: {وفي أنفسكم..} قال القشيري: يُشير إلى أن النفس مرآة جميع صفات الحق، لهذا قال عليه الصلاة والسلام: «مَن عرف نفسه فقد عرف ربه» فلا يعرف أحد نفسه إلا بعد كمالها، وكمالُها: أن تصير مرآةً كاملةً تامة مصقولة، قابلة لتجلِّي صفات الحق لها، فيعرف نسفه بالمرآتية، ويعرف ربه بالتجلِّي فيها، كما قال تعالى: {سَنُرِيِهِمْ ءَايَاتِنَا في الأَفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ...} [فصلت: 53] الآية. اهـ.قلت: حديث: «مَن عرف نفسه» أنكره النووي، وقال إنه من كلام يحيى بن معاذ وقد اشتهر عند الصوفية حديثاً، ومعناه حق؛ فإنَّ مَن عرف حقيقة نفسه، وأنها مظهر من مظاهر الحق، وغاب عن حس وجوده الوهم، فقد عرف ربه وشَهِدَه، فاطلب المعرفة في نفسك، ولا تطلبها في غيرك، فليس الأمر عنك خارجاً، ولله در الششتري في بعض أزجاله، حيث قال:وقال أيضاً: وقوله تعالى: {وفي السماء رزقكم} قال الورتجبي: وفي سماء صفاتي رزق أرواحكم، من مشاهدة النور، وغذاء العلم الرباني، وما توعدون من مشاهدة الذات وكشف عيانه. اهـ.قلت: هذا قوت الأرواح، أمّا قوت الأشباح فتجب الغيبة عنه، ثقةً بالله، وتوكلاً عليه. قال في قطب العارفين: اعلم أنه عزّ وجل قسَّم الأرزاق في الأزل، وجزّأه على عمر العبد، ووقَّت أوقاته، وحدَّ للعبد ما يأتيه منه في السنة، والشهر، واليوم، والساعة، فكل ما حدّ لك أن تناله من رزقك عند صلاة العصر، مثلاً، لا تناله عند صلاة الصبح، ولو طلبته بكل حِيلة في السموات والأرض، فإن الطلب لا يجمع، والتوكل لا يمنع. اهـ. وقال فيه أيضاً: العارف يجد في نفسه الاعتماد على الله، وإن كانت السماء لا تُمطر، والأرض لا تُنبت... إلخ كلامه، ومثله قول ذي النون: لو كانت السماء من زجاج، والأرض من نحاس لا تُنبت شيئاً، ومصر كلها عيالي، ما اهتممتُ لهم برزقٍ؛ لأنَّ مَن خلقهم هو الذي تكفّل برزقهم. اهـ. وقال في القطب أيضاً: ومن علامة جهل قلب العالم: خوف شدائد السنيين الآتيات، والاستعداد لها قبل مجيئها، بمصاحبة الاضطراب، وفقد الطمأنينة القسمة السابقة، فمَن اتصف بهذه الصفة فقد نازع الربوبية، وانسلخ من العبودية. اهـ. .تفسير الآيات (24- 37): {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)}يقول الحق جلّ جلاله: {هل أتاك حديثُ ضَيف إِبراهيمَ} استفتح بالاستفهام التشويقي، تفخيماً لشأن الحديث، وتنبيهاً على أنه ليس مما عَلِمَه رسولُ الله صلى الله علي وسلم بغير طريق الوحي. والضيف في الأصل: مصدر: كالزوْر، والصوع، يصدق الواحد والجماعة، قيل: كانوا اثني عشر مَلَكاً، وقيل: تسعة عاشرهم جبريل. وجعلهم ضيفاً لأنهم في صورة الضيف، حيث أضافهم إبراهيم، أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك. قوله: {المُكْرَمين} أي: عند الله، لأنهم عباد مكرمون، أو عند إبراهيم، حيث خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، لهم القِرَى.{إِذا دخلوا عليه} ظرف للحديث، أو لِمَا في الضيف من معنى الفعل، أو بالمكَرمين، إن فسر بإكرام إبراهيم لهم، {فقالوا سلاماً} أي: نُسلِّم عليك سلاماً، {قال} إبراهيم: {سلامٌ} أي: عليكم سلام. عدل به إلى الرفع بالابتداء للقصد إلى الثبوت والدوام حتى تكون تحيته عليه السلام أحسن من تحيتهم، وهذا أيضاً من إكرامه، {قومٌ مُنكَرُون} أي: أنتم قوم مُنكَرون، لا نعرفكم، فعرّفوني مَن أنتم. قيل: إنما أنكرهم لأنهم ليسوا ممن عهدهم مِن الناس، أو: لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس، وقيل: إنما قال ذلك سِرّاً ولم يخاطبهم به، وإلا لعرّفوه بأنفسهم.{فَرَاغَ إِلى أهله} أي: ذهب إليهم في خِفيةٍ من ضيوفه، فالروغان: الذهاب بسرعة، وقيل: في خفية. ومن آداب المضيف أن يبادر الضيف: بالقِرَى، وأن يخفى أمره من غير أن يشعر به الضيف، حذراً من أن يكفّه، وكان عامة مال إبراهيم البقر. {فجاء بعِجْلٍ سمينٍ} الفاء فصيحة تُفصح عن جُملٍ حّذفت لدلالة الحال عليها، وإيذاناً بكمال سرعة المجيء، أي: فذبح عجلاً فَحَنَذَه، فجاء به، {فقرَّبه إِليهم} بأن وضعه بين أيديهم حسبما هو المعتاد، فلم يأكلوا، ف {قال ألا تأكلونَ} أنكر عليهم ترك الأكل، أو: حثَّهم عليه، {فَأَوْجسَ} أضمر {منهم خيفةَ} خوفاً، لتوهُّم أنها جاؤوا للشر؛ لأن مَن لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمِامك. عن ابن عباس رضي الله عنه: وقع في نفسه أنهم ملائكة أُرسلوا للعذاب. {قالوا لا تَخَفْ} إنَّا رُسل الله. قيل: مسح جبريل العِجْل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه، فعرفهم وأمِن منهم، {وبشَّروه بغلام عليم} أي: يبلغ ويكون علماً، وهو إسحاق عليه السلام.{فأقبلت امرأتُه} سارة لمَّا سمعت بشارتهم إلى بيتها، وكانت في زاوية منه تنظر إليهم، {في صَرَّةٍ} صيحة، من الصرير، وهو الصوت، ومنه: صرير الباب وصرير الأقلام. قال الزجَّاج: الصرّة: شدّة الصياح. وفي القاموس الصرّة:- بالكسر: أشد الصياح، وبالفتح: الشدة من الكرب والحرن والحر والعطفة والجماعة وتغضيب الوجه. اهـ. ومحله النصب على الحال، أي فجاءت صارة، وقيل: صرتها: قولها: {يَا وَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ...} [هود: 72] أو: فجاءت مغضّبة الوجه، كما هو شأن مَن يُخبر بشيء غريب، استبعاداً له، {فصَكَّتْ وجهها} لطمته ببسط يدها، وقيل: ضربت بأطراف أصابعها جبهتها، فعل المتعجِّب، {وقالت عجوزٌ عقيم} أي: إنها عجوز عاقر، فكيف ألد؟!.{قالوا كذلك} أي: مثل ما قلنا وأخبرناك به {قال ربك} أي: إنما نُخبرك الله تعالى، والله قادر على ما يُستعبد، {إِنه هو الحكيمُ} في فعله، {العليمُ} فلا يخفى عليه شيء، فيكون قوله حقاً، وفعله متقناً لا محالة. رُوي أن جبريل عليه السلام قال لها حين استبعدت: انظري إلى بيتك، فنظرت، فإذا جُذوعُهُ مورقة مثمرة، ولم تكن هذه المفاوضة مع سارة فقط، بل هي وإبراهيمُ عليه السلام حاضر، حسبنا شُرح في سورة الحجر، وإنما لم يذكرها اكتفاء بما ذكر هناك، كما أنه لم يذكر هناك سارة، اكتفاء بما ذكر هنا وفي سورة هود.ولمّا تحقق أنهم ملائكة، ولم ينزلوا إلا لأمر، {قال فما خطبكم} أي: فما شأنكم وما طِلبتكم وفيمَ أُرسلتم؟ {أيها المرسَلون} هل أُرسلتم بالبشارة خاصة، أو لأمر آخر، أو لهما؟ {قالوا إِنا أُرسلنا إِلى قوم مجرمين} أي: قوم لوط، {لِنُرسل عليهم حجارةٌ من طين} أي: طين متحجر، هو السجّيل، وهو طينٌ طُبخ، كما يُطبخ الآجر، حتى صار في صلابة الحجارة، {مسوَّمة} مُعلَّمةً، على كلِّ واحد اسم مَن يهلك بها، من السّومة وهي العلامة، أو: مرسلة، من أسمت الماشية: أرسلتها، ومر تفصيله في هود {عند ربك} أي: في مُلكه وسلطانه {للمسرفين} المجاوزين الحدّ في الفجوز.{فأخْرجنا مَن كان فيها} الفاء فصيحة، مُفصحة، عن جُمل قد حُذفت، ثقةً بذكرها في مواضع أُخر، كأنه قيل: فباشروا ما أُمروا به، فذهبوا إلى لوط، وكان مِن قصتهم ما ذكر في موضع آخر، {فأخرجنا مَنْ كان فيها} أي: مِن قرى قوم لوط {من المؤمنين} يعني لوطاً ومَن آمن معه. قيل: كان لوط وأهل بيته الذين نجو ثلاثةَ عشر. {فما وجدنا فيها غيرَ بيتٍ} أي: غير أهل بيت {من المسلمين} وفيه دليل على أن الإسلام والإيمان واحد، أي: باعتبار الشرع، وأما في اللغة فمختلف، والإسلام محله الظاهر، والإيمان محله الباطن. {وتركنا فيها} أي: في قُراهم {آيةَ للذين يخافون العذابَ الأليم} أي: مِن شأنهم أن يخافوا؛ لسلامة فطرتهم، ورقة قلوبهم، وأما مَن عداهم من ذوي القلوب القاسية، فإنهم لا يعتبرون بها، ولا يعدونها آية.الإشارة: الإشارة بإبراهيم إلى القلب، وأضيافه: تجليات الحق، فنقول حينئذ: هل بلغك حديث إبراهيم القلب، حين يدخل عليه أنوار التجليات، مُسلِّمة عليه، فيُنكرها أول مرة، حيث لم يألف إلا رؤية حس الكائنات، فرغ إلى أهله: عوالمه، فجاء بعِجْل سمينٍ: النفس أو السِّوى، فقربّه إليهم، بذلاً لها في مرضاة الله، فقال: ألا تأكلون منها، لتذهب عني شوكتها؛ إذ لا تثبت أنوار الشهود إلا بعد محق النفس وموتها، فأوجس منهم خيفة؛ لان صدمات التجلي تدهش الألباب، إلا مَن ثبته الله، قالوا: لا تخف، أي: لا تكن خوَّافاً، إذ لا ينال هذا السر إلا الشجعان، كما قال الجيلاني:{وبشَّروه بغلامٍ عليم} وهو نتيجة المعرفة، من اليقين الكبير، والطمأنينة العظمى، فأقبلت النفس تصيح، وتقول: أألد هذا الغلام، من هذا القلب، وقد كبر على ضعف اليقين، وأنا عجوز، شِخْتُ في العوائد، عقيم من علوم الأسرار؟! فتقول القدرة: {كذلك قال ربك} هو عليَّ هيِّن، أتعجيبن من قدرة الله، مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وكان الله على كل شيء مقتدراً إنه هو الحكيم في ترتيب الفتح على كسب المجاهدة، العليم بوقت الفتح، وبمَن يستحقه. قال إبراهيم القلب أو الروح: فما خطبكم أيها الجليات، أو الواردات الإلهية، {قالوا إنا أُرسلنا إلى قوم مجرمين} وهم جند النفس، {لنُرسل عليهم حجارة من طين} مسومةً عند ربك للمسرفين، وهم الأذكار والأوراد والمجاهدات والرياضات والمعاملات المهلِكة للنفس وأوصافها، {فأخرجنا مَن كان فيها من المؤمنين}، سالمين من الهلاك، وهو ما كان لها من الأوصاف الحميدة، والعلوم الرسمية، إذا لا تُخرِج المجاهدة إلا مَن كان مذموماً، فما وجدنا فيها من ذلك إلا النذر القليل؛ إذ معاملة النفس جُلها مدخولة، وتركنا فيها آيةً من تزكية النفس، وتهذيب أخلاقها، {للذين يخافون العذاب الأليم}، فيشتغلون بتزكيتها؛ لئلا يلحقهم ذلك العذاب.
|