الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عطية في الآيات السابقة: {سأل سائِلٌ بِعذابٍ واقِعٍ (1)}قرأ جمهور السبعة: {سأل} بهمزة مخففة، قالوا والمعنى: دعا داع، والإشارة إلى من قال من قريش {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} [الأنفال: 32]. وروي أن قائل ذلك النضر بن الحارث، وإلى من قال: {ربنا عجل لنا قطنا} [ص: 16]، ونحو هذا، وقال بعضهم المعنى: بحث باحث، واستفهم مستفهم، قالوا والإشارة إلى قول قريش: متى هذا الوعد؟ وما جرى مجراه قاله الحسن وقتادة، فأما من قال استفهم مستفهم فالباء توصل توصيل عن، كأنه قال عن عذاب، وهذا كقول علقمة بن عبدة: الطويل:وقرأ نافع بن عامر: {سال سائل} ساكنة الألف، واختلفت القراءة بها، فقال بعضهم: هي {سأل} المهموزة، إلا أن الهمزة سهلت كما قال لا هناك المرتع ونحو ذلك. وقال بعض هي لغة من يقول سلت أسأل، ويتساولون، وهي بلغة مشهورة حكاها سيبويه، فتجيء الألف منقلبة من الواو التي هي عين كقال وحاق، وأما قول الشاعر حسان بن ثابت: البسيط: فإن سيبويه قال: هو على لغة تسهيل الهمزة. وقال غيره: هو على لغة من قال: سلت، وقال بعضهم في الآية: هو من سال يسيل: إذا جرى وليست من معنى السؤال، قال زيد بن ثابت: في جهنم واد يسمى سايلا، والاخبار هاهنا عنه.قال القاضي أبو محمد: ويحتمل إن لم يصح أمر الوادي أن يكون الإخبار عن نفوذ القدر بذلك العذاب قد استعير له لفظ السيل لما عهد من نفوذ السيل وتصميمه، وقرأ ابن عباس: {سال سيْل} بسكون الياء، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود: {سال سال} مثل قال قال، ألقيت الياء من الخط تخفيفا، والمراد {سائل}. وسؤال الكفار عن العذاب حسب قراءة الجماعة إنما كان على أنه كذب. فوصفه الله تعالى بأنه {واقع} وعيدا لهم. وقوله تعالى: {للكافرين}. قال بعض النحويين: اللام توصل المعنى توصيل {على}. وروي أنه في مصحف أبي بن كعب: {على الكافرين}، وقال قتادة والحسن المعنى: كأن قائلا قال لمن هذا العذاب الواقع؟ فقيل {للكافرين}. و{المعارج} في اللغة الدرج في الأجرام، وهي هنا مستعارة في الرتب والفواضل والصفات الحميدة، قاله قتادة وابن عباس. وقال ابن عباس: {المعارج} السماوات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء. وقال الحسن: هي المراقي إلى السماء، وقوله: {تعرج الملائكة} معناه: تصعد على أصل اللفظة في اللغة. {والروح} عند جمهور العلماء: هو جبريل عليه السلام خصصه بالذكر تشريفا.وقال مجاهد: {الروح} ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم الملائكة كما لا نرى نحن الملائكة. وقال بعض المفسرين: هو اسم الجنس في أرواح الحيوان. واختلف المتأولون في قوله تعالى: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}. فقال منذر بن سعيد وجماعة من الحذاق: المعنى {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم} من أيامكم هذه مقدار المسافة أن لو عرجها آدمي خمسون ألف سنة، وقاله ابن إسحاق فمن جعل {الروح} جبريل أو نوعا من الملائكة قال: المسافة هي من قعر الأرض السابعة إلى العرش، قاله مجاهد. ومن جعل {الروح} جنس الحيوان قال المسافة من وجه هذه الأرض إلى منتهى العرش علوا، قاله وهب بن منبه. وقال قوم المعنى: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره} في نفسه {خمسين ألف سنة} من أيامكم، ثم اختلفوا في تعيين ذلك اليوم، فقال عكرمة والحكم: أراد مدة الدنيا فإنها خمسون ألف سنة، لا يدري أحد ما مضى منها ولا ما بقي، فالمعنى {تعرج الملائكة والروح إليه} في مدة الدنيا، وبقاء هذه البنية ويتمكن على هذا في {الروح} أن يكون جنس أرواح الحيوان، وقال ابن عباس وغيره: بل اليوم المشار إليه يوم القيامة ثم اختلفوا، فقال بعضهم قدره في الطول قدر خمسين ألف سنة، وهذا هو ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له صفائح من نار يوم القيامة، تكوى بها جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره ألف سنة». وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري: بل قدره في هوله وشدته ورزاياه للكفار قدر {خمسين ألف سنة}. وهذا كما تقول في اليوم العصيب، إنه كسنة ونحو هذا قال أبو سعيد، قيل يا رسول الله ما أطول يوما مقداره خمسون ألف سنة، فقال: «والذي نفسي بيده ليخف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة»، وقال عكرمة: المعنى كان مقدار ما ينقضي فيه من القضايا والحساب قدر ما ينقضي بالعدل في {خمسين ألف سنة} من أيام الدنيا. وقد ورد في يوم القيامة أنه كألف سنة وهذا يشبه أن يكون في طوائف دون طوائف. والعامل في قوله: {في يوم} على قول من قال إنه يوم القيامة قوله: {دافع} وعلى سائر الأقوال {تعرج}، وقرأ جمهور القراء: {تعرج} بالتاء من فوق، وقرأ الكسائي وحده: {يعرج} بالياء لأن التأنيث بالياء غير حقيقي، وبالياء من تحت قرأ ابن مسعود لأنه كان يذكر الملائكة وهي قراءة الأعمش، ثم أمر تعالى نبيه بالصبر الجميل، وهو الذي لا يلحقه عيب من فشل ولا تشكك ولا قلة رضى ولا غير ذلك.والأمر بالصبر الجميل محكم في كل حالة، وقد نزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال. وقوله تعالى: {إنهم يرونه بعيدا} يعني يوم القيامة لأنهم يكذبون به، فهو في غاية البعد عندهم، والله تعالى يراه {قريبا} من حيث هو واقع وآت وكل آت قريب. وقال بعض المفسرين: الضمير في {يرونه} عائد على العذاب. وقوله تعالى: {يوم تكون} نصب بإضمار فعل أو على البدل من الضمير المنصوب. و(المهل): عكر الزيت قاله ابن عباس وغيره، فهي لسوادها وانكدار أنوارها تشبه ذلك. والمهل أيضا: ماء أذيب من فضة ونحوها قاله ابن مسعود وغيره: فيجيء له ألوان وتميع مختلط، والسماء أيضا- للأهوال التي تدركها- تصير مثل ذلك، و(العهن): الصوف دون تقييد. وقد قال بعض اللغويين: هو الصوف المصبوغ ألوانا، وقيل المصبوغ أي لون كان، وقال الحسن: هو الأحمر، واستدل من قال إنه المصبوغ ألوانا بقول زهير: الطويل: وحب الفنا هو عنب الثعلب، وكذلك هو عند طيبه، وقبل تحطمه ألوان بعضه أخضر، وبعضه أصفر، وبعضه أحمر، لاختلافه في النضج، وتشبه {الجبال} به على هذا القول لأنها جدد بيض وحمر وسود فيجيء التشبيه من وجهين في الألوان وفي الانتفاش. ومن قال إن العهن: الصوف دون تقييد، وجعل التشبيه في الانتفاش وتخلخل الأجزاء فقط. قال الحسن: والجبال يوم القيامة تسير بالرياح ثم يشتد الأمر فتنهد ثم يشتد الأمر بها فتصير هباء منبثا. وقرأ السبعة والحسن والمدنيون وطلحة والناس: {ولا يسأل} على بناء الفعل للفاعل، والحميم في هذا الموضع: القريب والوالي، والمعنى لا يسأله نصرة ولا منفعة لعلمه أنه لا يجدها عنده، قال قتادة: المعنى لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة قد بصر كل أحد حالة الجميع، وشغل بنفسه. وقرأ ابن كثير من طريق البزي وأبو جعفر وشيبة بخلاف عنهما وأبو حيوة {لا يُسأل} على بناء الفعل للمفعول. فالمعنى: ولا يسأل إحضاره لأن كل مجرم له سيما يعرف بها، وكذلك كل مؤمن له سيما خير. وقيل المعنى: لا يسأل عن ذنبه وأعماله ليؤخذ بها وليزر وزره. و{يبصرونهم} على هذه القراءة قيل معناه في النار. وقال ابن عباس في المحشر يبصر بالحميم حميمه ثم يفر عنه لشغله بنفسه. وتقول: بصر فلان بالشيء، وبصرته به أريته إياه ومنه قول الشاعر: الوافر: وقرأ قتادة بسكون الباء وكسر الصاد خفيفة، فقال مجاهد: {يبصرونهم} معناه يبصر المؤمنون الكفار في النار، وقال ابن زيد: يبصر الكفار من أضلهم في النار عبرة وانتقاما عليهم وخزيا لهم.{يُبصّرُونهُمْ يودُّ الْمُجْرِمُ لوْ يفْتدِي مِنْ عذابِ يوْمِئِذٍ بِبنِيهِ (11)}{المجرم} في هذه الآية الكافر بدليل شدة الوعد وذكر {لظى} وقد يدخل مجرم المعاصي فيما ذكر من الافتداء، وقرأ جمهور الناس: {يومئذ} بكسر الميم، وقرأ الأعرج بفتحها، ومن حيث أضيف إلى غير متمكن جاز فيه الوجهان. وقرأ أبو حيوة {من عذابٍ} منونا {يومئذ} مفتوح الميم، والصاحبة: هنا الزوجة، والفصيلة في هذه الآية قرابة الرجل الأدنون، مثال ذلك بنو هاشم مع النبي صلى الله عليه وسلم، والفصيلة في كلام العرب: أيضا الزوجة، ولكن ذكر الصاحبة في هذه الآية لم يبق في معنى الفصيلة إلا الوجه الذي ذكرناه. وقوله: {ثم ينجيه} الفاعل هو الفداء الذي تضمنه قوله: {لو يفتدي} فهو المتقدم الذكر. وقرأ الزهري {تؤويهُ} و{تنجيهُ} برفع الهاءين، وقوله تعالى: {كلا إنها لظى} رد لقولهم وما ودوه أي ليس الأمر كذلك، ثم ابتدأ الإخبار عن {لظى} وهي طبقة من طبقات جهنم، وفي هذا اللفظ تعظيم لأمرها وهولها. وقرأ السبعة والحسن وأبو جعفر والناس: {نزاعةٌ} بالرفع، وقرأ حفص عن عاصم: {نزاعة} بالنصب، فالرفع على أن تكون {لظى} بدلا من الضمير المنصوب، {ونزاعةُ} خبر (إن) أو على إضمار مبتدأ، أي هي نزاعة او على أن يكون الضمير في {إنها} للقصة، و{لظى} ابتداء و{نزاعةٌ} خبره، أو على أن تكون {لظى} خبر و{نزاعةٌ} بدل من {لظى}، أو على أن تكون {لظى} خبرا و{نزاعةٌ} خبرا بعد خبر. وقال الزجاج: {نزاعةٌ}، رفع بمعنى المدح.قال القاضي أبو محمد: وهذا هو القول بأنها خبر ابتداء تقديره هي نزاعة، لأنه إذا تضمن الكلام معنى المدح أو الذم جاز لك القطع رفعا بإضمار مبتدأ أو نصبا بإضمار فعل. ومن قرأ بالنصب فذلك إما على مدح {لظى} كما قلنا، وإما على الحال من {لظى} لما فيها من معنى التلظي، كأنه قال: كلا إنها النار التي تتلظى نزاعة، قال الزجاج: فهي حال مؤكدة و: (الشوى) جلد الإنسان، وقيل جلد الرأس الهامة، قاله الحسن. ومنه قول الأعشى: مجزوء الكامل: ورواه أبو عمرو بن العلاء سراته فلا شاهد في البيت على هذه الرواية. قال أبو عبيدة: سمعت أعرابيا يقول اقشعرت شواتي، و(الشوى) أيضا: قوائم الحيوان، ومنه عبل الشوى، و(الشوى) أيضا: كل عضو ليس بمقتل، ومنه رمى فأشوى إذا لم يصب المقتل، وقال ابن جرير: (الشوى) العصب والعقب، فنار لظى تذهب هذا من ابن آدم وتنزعه.وقوله تعالى: {تدعو من أدبر وتولى} يريد الكفار، واختلف الناس في دعائها، فقال ابن عباس وغيره: هو حقيقة تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، وقال الخليل بن أحمد هي عبارة عن حرصها عليهم واستدنائها لهم، وما توقعه من عذابها، وقال ثعلب: {تدعو}، معناه: تهلك، تقول العرب: دعاك الله أي أهلكك، وحكاه الخليل عن العرب، و{أوعى} معناه: جعلها في الأوعية تقول: وعيت العلم وأوعيت المال والمتاع، ومنه قول الشاعر عبيد بن الأبرص: البسيط: وهذه إشارة إلى كفار أغنياء جعلوا جمع المال أوكد أمرهم، ومعنى حياتهم فجمعوه من غير حل ومنعوه من حقوق الله، وكان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه، ويقول: سمعت الله تعالى يقول: {وجمع فأوعى}. اهـ. .قال أبو السعود في الآيات السابقة: {سأل سائِلٌ} أي دعا داعٍ {بِعذابٍ واقِعٍ} أي استدعاهُ وطلبهُ وهُو النّضرُ بنُ الحارثِ حيثُ قال إنكارا واستهزاء: إنْ كان هذا هُو الحقّ من عندِك فأمطرْ علينا حجارة من السماءِ أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ، وقيل أبُو جهلٍ حيثُ قال أسقطْ علينا كسفا من السماءِ، وقيل هو الحارثُ بنِ النعمانِ الفهريُّ وذلك أنّه لما بلغهُ قول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنهُ «من كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ» قال اللهمّ إنْ كان ما يقول محمدٌ حقا فأمطرْ علينا حجارة من السماءِ، فما لبث حتّى رماهُ الله تعالى بحجرٍ فوقع على دماغِهِ فخرج من أسفلِهِ فهلك من ساعتِهِ، وقيل هُو الرسولُ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ استعجل عذابهُمْ. وقرئ {سأل}، وهو إمّا من السؤالِ على لُغةِ قُريشٍ فالمعْنى ما مرّ أو من السّيلانِ، ويؤيدُهُ أنّهُ قرئ {سال سيلٌ} أي اندفع وادٍ بعذابٍ واقعٍ. وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحققِ وقوعِهِ إمّا في الدُّنيا وهو عذابُ بومِ بدرٍ فإنّ النضر قُتِل يومئذٍ صبْرا، وقد مرّ حالُ الفهريِّ، وإمّا في الآخرةِ فهو عذابُ النارِ والله أعلمُ. {للكافرين} صفةٌ أُخرى لعذابٍ أي كائنٍ للكافرين، أو صلةٌ لـ: {واقعٍ}، أو متعلقٌ بـ: {سأل} أي دعا للكافرين بعذابٍ واقعٍ. وقوله تعالى: {ليْس لهُ دافِعٌ} صفةٌ أُخرى لعذابٍ، أو حالٌ منهُ لتخصصِهِ بالصفةِ أو بالعملِ أو من الضميرِ في للكافرين على تقديرِ كونِهِ صفة لعذابٍ أو استئنافٌ {مِن الله} متعلقٌ بـ: {واقعٍ} أو بـ: {دافعٌ} أي ليس له دافعٌ من جهتِهِ تعالى: {ذِي المعارج} ذِي المصاعدِ التي يصعدُ فيها الملائكةُ بالأوامرِ والنّواهِي أو هي عبارةٌ عن السمواتِ المترتبةِ بعضِها فوق بعضٍ {تعْرُجُ الملائكة والروح} أي جبريلُ عليه السلام، أفرد بالذكرِ لتميزِهِ وفضلِهِ وقيل الروحُ خلقٌ هم حفظة على الملائكةِ كما أنّ الملائكة حفظةٌ على الناسِ. {إِليْهِ} إلى عرشِهِ تعالى وإلى حيثُ تهبطُ منهُ أوامرُهُ تعالى وقيل هو من قبيلِ قول إبراهيم عليه السلام: {إِنّى ذاهِبٌ إلى ربّى} أي إلى حيثُ أمرنِي بهِ.{فِى يوْمٍ كان مِقْدارُهُ خمْسِين ألْف سنةٍ} مما يعدُّه الناسُ وهو بيانٌ لغايةِ ارتفاعِ تلك المعارجِ وبُعدِ مداها على منهاجِ التمثيلِ والتخييلِ، والمعْنى أنّها من الارتفاعِ بحيثُ لو قُدِّر قطعُها في زمانٍ لكان ذلك الزمانُ مقدار خمسين ألف سنةٍ من سِنِي الدُّنيا، وقيل معناهُ تعرُجُ الملائكةُ والروحُ إلى عرشِهِ تعالى في يومٍ كان مقدارُهُ كمقدارِ خمسين ألف سنةٍ أي يقطعون في يومٍ ما يقطعُهُ الإنسانُ في خمسين ألف سنةٍ لو فُرض ذلك، وقيل في {يومٍ} متعلقٌ بـ: {واقعٍ}، وقيل بسال على تقديرِ كونِهِ من السّيلانِ، فالمرادُ به يومُ القيامةِ، واستطالتُهُ إمّا لأنّه كذلك في الحقيقةِ أو لشدتِهِ على الكفارِ أوْ لكثرةِ ما فيهِ من الحالاتِ والمحاسباتِ، وأيّا ما كان فذلك في حقِّ الكافرِ وأمّا في حقِّ المؤمنِ فلا، لِما روى أبو سعيدٍ الخدريُّ رضي الله عنهُ أنّه قيل لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما أطول هذا اليوم، فقال عليهِ الصّلاةُ والسلام: «والذي نفسِي بيدِهِ أنّهُ ليخِفُّ على المؤمنِ حتى إنّهُ يكونُ أخفّ من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيها في الدُّنيا». وقوله تعالى: {فاصبر صبْرا جمِيلا} متعلقٌ بسأل لأنّ السؤال كان عن استهزاءٍ وتعنتٍ وتكذيبٍ بالوحيِ، وذلك ممّا يُضجره عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ أو كان عن تضجرٍ واستبطاءٍ للنصرِ، أو بسأل سائلٌ أو سال سيلٌ فمعناهُ جاء العذابُ لقُربِ وقوعِهِ فقد شارفت الانتقام. {إِنّهُمْ يروْنهُ} أيِ العذاب الواقع أو يوم القيامةِ على تقديرِ تعلقِ {في يومٍ} بواقعٍ {بعِيدا} أي يستبعدونهُ بطريقِ الإحالةِ فلذلك يسألون بهِ {ونراهُ قرِيبا} هينا في قُدرتِنا غير بعيدٍ علينا ولا متعذرٍ على أنّ البُعد والقُرب معتبرانِ بالنسبةِ إلى الإمكانِ. والجملة تعليلٌ للأمرِ بالصبرِ.وقوله تعالى: {يوْم تكُونُ السماء كالمهل} متعلقٌ بـ: {قريبا} أيْ يمكنُ ولا يتعذرُ في ذلك اليومِ أو بمضمرٍ دلّ عليهِ {واقعٍ} أو بمضمرٍ مؤخرٍ، أي يوم تكونُ السماءُ كالمهلِ إلخ يكونُ من الأحوالِ والأهوالِ ما لا يُوصفُ، أو بدلٌ منْ {في يومٍ} على تقديرِ تعلقِهِ بـ: {واقعٍ}. هذا ما قالوا ولعلّ الأقرب أنّ قوله تعالى: {سأل سائلٌ} حكايةٌ لسؤالِهِم المعهودِ على طريقةِ قوله تعالى: {يسْئلُونك عنِ الساعة} وقوله تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد} ونحوهِما إذْ هُو المعهودُ بالوقوعِ على الكافرين لا ما دعا بهِ النضرُ أو أبُو جهلٍ أو الفهريُّ فالسؤالُ بمعناهُ والباءُ بمعْنى عنْ كما في قوله تعالى: {فاسْألْ بِهِ خبِيرا} وقوله تعالى: {ليْس لهُ دافِعٌ} إلخ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ وقوعِ المسؤولِ عنهُ لا محالة وقوله تعالى: {فاصبر صبْرا جمِيلا} مترتبٌ عليهِ وقوله تعالى: {إِنّهُمْ يروْنهُ بعِيدا ونراهُ قرِيبا} تعليلٌ للأمرِ بالصبرِ كما ذُكِر. وقوله تعالى: {يوْم تكُونُ} إلخ متعلقٌ بـ: {ليس له دافعٌ} أو بما يدلُّ هو عليهِ أي يقعُ يوم تكونُ السماءُ كالمهلِ، وهو ما أُذيب على مهلٍ من الفلزاتِ وقيل دُرْدِيُّ الزيتِ.{وتكُونُ الجبال كالعهن} كالصوفِ المصبوغِ ألوانا لاختلافِ ألوانِ الجبالِ منها {جُددٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُّخْتلِفٌ ألوانها وغرابِيبُ سُودٌ} فإذا بُسّتْ وطيّرتْ في الجوِّ أشبهتِ العهن المنفوش إذا طيرته الريحُ {ولا يسْئلُ حمِيمٌ حمِيما} أي لا يسألُ قريبٌ قريبا عن أحوالِهِ ولا يُكلمه لابتلاءِ كل منهُم بما يشغلُهُ عن ذلك. وقرئ على البناءِ للمفعولِ، أيْ لا يُطلبُ منْ حميمٍ حميمٌ أو لا يسألُ منْهُ حالةٌ. {يُبصّرُونهُمْ} أي يُبصِرُ الأحماءُ الأحماء فلا يخفون عليهم وما يمنعُهُم من التساؤلِ إلا تشاغلُهُم بحالِ أنفسِهِم، وقيل ما يُغني عنهُ من مشاهدةِ الحالِ كبياضِ الوجهِ وسوادِهِ، والأولُ أدخلُ في التهويلِ. وجمع الضميرينِ لعمومِ الحميمِ. وقرئ {يُبْصِرُونهُمْ}، والجملة استئنافٌ {يودُّ المجرم} أي يتمنّى الكافرُ وقيل كلُّ مذنبٍ. وقوله تعالى: {لوْ يفْتدِي مِنْ عذابِ يوْمِئِذٍ} أي العذاب الذي ابتلُوا بهِ يومئذٍ {بِبنِيهِ وصاحبته وأخِيهِ} حكايةٌ لودادتِهِم. و{لوُ} في معْنى التمنِّي، وقيل هي بمنزلةِ أنِ الناصبةِ فلا يكونُ لها جوابٌ وينسبكُ منها وممّا بعدها مصدرٌ يقعُ مفعولا لـ: {يودُّ} والتقديرُ يودُّ افتداءهُ ببنيهِ إلخ. والجملة استئنافٌ لبيانِ أنّ اشتغال كلِّ مجرمٍ بنفسِهِ بلغ إلى حيثُ يتمنّى أن يفتدي بأقربِ الناسِ إليهِ وأعلقِهِم بقلبِهِ فضلا أن يهتمّ بحالِهِ ويسأل عنْها. وقرئ {يومئذٍ} بالفتحِ على البناءِ للإضافةِ إلى غيرِ متمكنٍ، وبتنوينِ {عذابٍ} ونصبِ {يومئذٍ} وانتصابُهُ بـ: {عذابٍ} لأنّه في معْنى تعذيبٍ.{وفصِيلتِهِ} أي عشيرتِهِ التي فُصِل عنهُم {وفصِيلتِهِ التى} أي تضمنُهُ في النسبِ أو عند الشدائدِ {ومن في الأرض جمِيعا} من الثقلينِ والخلائقِ ومنْ للتغليبِ {ثُمّ يُنجِيهِ} عطف على {يفتدِي} أو يودُّ لو يفتدِي ثم لو ينجِيهِ الافتداءُ، و{ثمّ} لاستبعادِ الإنجاءِ، يعني يتمنّى لو كان هؤلاءِ جميعا تحت يدِه وبذلهُم في فداءِ نفسِهِ ثمّ ينجيهِ ذلك وهيهات {كلاّ} ردعٌ للمجرمِ عن الودادةِ وتصريحٌ بامتناعِ إنجاءِ الافتداءِ، وضميرُ {أنّها} إما للنارِ المدلولِ عليها بذكرِ العذابِ أو هو مبهمٌ تُرجم عند الخبرِ الذي هُو قوله تعالى: {لظى} وهي علمٌ للنارِ منقول من اللّظى بمعْنى اللهبِ.{نزّاعة للشوى} نُصب على الاختصاصِ، أو حالٌ مؤكدةٌ والشّوى الأطرافُ أو جمعُ شواةٍ وهي جلدةُ الرأسِ. وقرئ {نزاعةٌ} بالرفعِ على أنّهُ خبرٌ ثانٍ لأنّ أو هُو الخبرُ و{لظى} بدلٌ من الضميرِ، أو الضميرُ للقصةِ و{لظى} مبتدأٌ و{نزّاعةٌ} خبرُهُ {تدْعُواْ} أي تجذُب وتُحضر وقيل {تدعُو} وتقول لهم إلى إلى يا كافرُ يا منافقُ وقيل تدعُو المنافقين والكافرين بلسانٍ فصيحٍ ثم تلتقطُهُم التقاط الحبِّ، وقيل تدعُو تُهلكُ، وقيل تدعُو زبانيتها {منْ أدْبر} أي عنِ الحقِّ {وتولى} أعرض عن الطاعةِ {وجمع فأوْعى} أي جمع المال فجعلهُ في وعاءٍ وكنزهُ ولم يؤدِ زكاتهُ وحقوقهُ وتشاغل بهِ عن الدينِ وزهى باقتنائِهِ حرصا وتأميلا. اهـ.
|