الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأوضحت من قبل أن كل ما يتعلق بالله تعالى لا يُعْلَم عنه إلا عن طريق الله. لكن ما الذي يحملهم على الافتراء؟نعم، إن كل حركة في الحياة لابد أن يكون الدافع إليها نفعًا، وتختلف النظرة إلى النفع وما يترتب عليه، فالطالب الكسول المتسكع في الشوارع، الرافض للتعلم، نجده راسبًا غير موفق في مستقبله، أما التلميذ الحريص على علومه، فهو من يحصل على المكانة اللائقة به في المجتمع، والتلميذ الأول كان محدود الأفق ولم ير امتداد النفع وضخامته، بل قصر النفع على لذة عاجلة مُضحِّيًا بخيرٍ آجِلٍ.والذي جعل هؤلاء يفترون على الله الكذب هو انهيار الذات، فكل ذات لها وجود ولها مكانة، فإذا انهارت المكانة، أحس الإنسان أنه بلا قيمة في مجتمعه.والمثل الذي ضربته من قبل بحَلاَّق الصحة في القرية، وكان يعالج الجميع، ثم تَخرَّجَ أحد شباب القرية في كلية الطب وافتتح بها عيادة، فإن كان حلاق الصحة عاقلًا، فهو يذهب إلى الطبيب ليعمل في عيادته ممرضًا، أو (تمرجيًا)، أما إن أخذته العزة بالإثم، فهو يعاند ويكابر، ولكنه لن يقدر على دفع علْم الطبيب.وكذلك عصابة الكفر ورؤساء الضلال حينما يُفاجَآون بمَقْدِم رسول من الله، فهم يظنون أنه سوف يأخذ السيادة لنفسه، رغم أن أي رسول من رسل الله تعالى عليه السلام إنما يعطي السيادة لصاحبها، ألا وهو الحق الأعلى سبحانه.وحين يأخذ منهم السيادة التي كانت تضمن لهم المكانة الوجاهة والشأن والعظمة، فهم يصابون بالانهيار العصبي، ويحاولون مقاومة الرسول دفاعًا عن السلطة الزمنية.ومثال ذلك: هو مَقْدِمُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان البعض يعمل على تنصيب عبد الله بن أبيّ ليكون مَلكًا؛ ولذلك قاوم الرجل الإسلام، وحين لم يستطع آمن نفاقًا، وظل على عدائه للإسلام، رغم أنه لو أحسن الإسلام واقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لنال أضعاف ما كان يسأخذه لو صار ملكًا.وهكذا قادة الضلال وأئمة الكفر، هم مشفقون على أنفسهم وخائفون على السلطة الزمنية؛ لأن الرسول حينما يجيء إنما يُسوِّي بين الناس؛ لذلك يقفون ضد الدعوة حفاظًا على السلطة الزمنية.ولذلك يقول الحق سبحانه عن سبب افترائهم الكذب: {مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}ويعزُّ إذن على قادة الكفر وأئمة الضلال أن يسلبهم الرياسة والسيادة داعٍ جديد إلى الله سبحانه وتعالى، ويخافون أن يأخذ الداعي الجديد لله الأمر منهم جميعًا، لا إلى ذاته، ولكن إلى مراد ربه.ولو كان الداعي إلى الله تعالى يأخذ السلطة الزمنية لذاته؛ لقلنا: ذاتٌ أمام ذاتٍ، ولكنه صلى الله عليه وسلم أوضح أنه يعود حتى فيما يخصه إلى الله سبحانه وتعالى.ويكشف لنا الحق سبحانه الكسب القليل الذي يدافعون عنه أنه: {مَتَاعٌ فِي الدنيا} [يونس: 70]؛ لأن كُلًا منهم يحب أن يقنع نفسه، بِحُمْق تقدير المنفعة، وكلمة الدنيا لابد أن منها حقيقة الشيء المنسوبة إليه.والاسماء كما نعلم هي سمات مسميات، فحين تقول: إن فلانًا طويل، فأنت تعطيه سمة الطول.وحين تقول: دنيا فهي من الدُّنُوِّ أو الدناءة.وإن اعتبرت الدنو هو طريق موصل إلى القيمة، فهذا أمر مقبول؛ لأن الدرجة الأولى في الوصول إلى الأعلى هي الدنو، وتلتزم بمنهج الله تعالى فتصعد عُلوًّا وارتفاعًا إلى الآخرة.إذن: فمن يصف الدنيا بالدناءة على إطلاقها نقول له: لا، بل هي دنيا بشرط أن تأخذها طريقًا إلى الأعلى، ولكن من لا يتخذها كذلك فهو من يجعل مكانته هي الدنيئة، أما من يتخذها طريقًا إلى العلو فهو الذي أفلح باتِّباع منهج الله تعالى.إذن: فالدنيا ليست من الدناءة؛ لأن الدين ليس موضوعه الآخرة، بل موضوعه هو الدنيا، ومنهج الدين يلزمك بافعل ولا تفعل في الدنيا، والآخرة هي دار الجزاء، والجزاء على الشيء ليس عين موضوعة، وأنت تستطيع أن تجعل الدنيا مفيدة لك إنْ جعلتها مزرعة للآخرة.وإياك أن تعمل على أساس أن الدنيا عمرها ملايين السنين؛ لأنه لا يعنيك كعائش في الدنيا إن طال عمرها أم قَصُرَ، بل يعنيك في الدنيا مقدار مُكْثِك فيها، وعمرك فيها مظنون، بل وزمن الدنيا كله مظنون، وهناك من يموت وعمره ستة أشهر، وهناك من يموت وعمره مائة سنة، وكلٌّ يتمتع بقدر ما يعيش، ثم يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.وهؤلاء الذين ضَلُّوا وقالوا على الله سبحانه افتراء، هؤلاء لن يفلتوا من الله؛ لأن مرجعهم إليه سبحانه ككل خَلْقه، وهؤلاء المُضِلُّون لم يلتفتوا إلى عاقبة الأمر، ولا إلى من بيده عاقبة الأمر، ولم يرتدعوا.ولكن من نظر إلى عاقبة الأمر وأحسن في الدنيا فمرجعه إلى حسن الثواب والجنة، ومن لم ينظر إلى عاقبة الأمر وافترى على الله سبحانه وتعالى الكذب فالمآب والمآل إلى العذاب مصداقًا لقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس: 70].ودرجة العذاب تختلف باختلاف المعذِّب، فإن كان المعذِّب ضعيفًا، فتعذيبه يكون ضعيفًا، وإن كان المعذِّب متوسط القوة؛ فتعذيبه يكون متوسطًا، أما إن كان المعذِّب هو قوة القوى فلابد أن يكون عذابه شديدًا، وهو سبحانه الحق القائل: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن مبدأ تنزيه الألوهية عن اتخاذ الولد، فهو سبحانه الغنيُّ الذي له ما في السموات والأرض، وبيَّن لنا سبحانه أننا يجب أن نأخذ المنهج من مصدر واحد وهو الرسل المبلِّغون عن الله تعالى، شاء الحق سبحانه أن يكلمنا عن موكب الرسالات؛ لأن الكلام حين يكون كلامًا نظريًا ليس له واقع يسنده، فقد تنسحب النظرية عليه.أما إن كان للكلام واقع في الكون يؤيد الكلام النظري، فهذا دليل على صحة الكلام النظري؛ ولذلك فنحن حين نحب أن نضخِّم مسألة من المسائل في داء اجتماعي، نحاول أن نصنع منه رواية، أي: أمرًا لم يحدث حقيقة، ولكننا نتخيل أنه حقيقة؛ لنبيِّن الأمر النظري في واقع متخيَّل.ويقص علينا الحق سبحانه في القرآن قصصًا من الموكب الرسالي؛ ليبيِّن للكفار: أنكم لن تستطيعوا الوقوف أمام هذه الدعوة، وأمامكم سِجل التاريخ وأحداث الرسل مع أممهم؛ المؤيدين بالمؤمنين؛ والكفار المعاندين والمعارضين، فإن كان قوم من السابقين قد انتصروا على رسولهم، فللكفار الحق في أن يكون لهم أمل في الانتصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم.ولابد أن يكون هذا الكلام موجهًا إلى أناس لهم علم ببعض أحداث الموكب الرسالي. ولكن قد يكون علم هذا قد بهت؛ لأن الزمان قد طال عليه. اهـ.
.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} إلى قوله تعالى: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}التفسير:لما بين فساد طريقة الكفار في عقائدهم وأحكامهم بيّن كونه سبحانه عالمًا بعمل كل أحد وبما في قلبه من الدواعي والصوارف والرياء والإخلاص وغير ذلك فقال: {وما تكون} يا محمد: {في شأن} أي أمر من الأمور. وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. قال ابن عباس: أي في شأن من أعمال البر. وقال الحسن: في شأن الدنيا وحوائجها و«ما» في: {وما تكون}، {وما تتلو} نافية والضمير في: {منه} إما لله عز وجل أي نازل من عنده، وإما للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شؤون رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو معظم شأنه ولهذا أفرد بالذكر كقوله: {وملائكته وجبريل وميكال} [البقرة: 98] وإما للقرآن والإضمار قبل الذكر تفخيم له كأنه قيل: وما تتلو من التنزيل من قرآن لأن كل جزء منه قرآن. ثم عمم الخطاب فقال: {ولا تعملون} أيها المكلفون: {من عمل} أيّ عمل كان: {إلا كنا عليكم شهودًا} شاهدين رقباء والجمع للتعظيم أو لأن المراد الملائكة الموكلون: {إذ تفيضون فيه} الإفاضة الشروع في العمل على جهة الانصباب والاندفاع ومنه قوله: {فإذا أفضتم من عرفات} [البقرة: 198] قيل: شهادة الله علمه فيلزم أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وجودها. والجواب أن الشهادة علم خاص ولا يلزم منه امتناع تقدم العلم المطلق على الشيء كما لو أخبرنا الصادق أن زيدًا يفعل كذا غدًا فنكون عالمين بذلك لا شاهدين. ثم زاد في التعميم فقال: {وما يعزب عن ربك} أي لا يبعد ولا يغيب ومنه كلأ عازب أي بعيد، والرجل العزب لبعده عن الأهل. ومعنى: {مثقال ذرة} قد مر في قوله: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} [النساء: 140] وذلك في سورة النساء. والمقصود أنه لا يغيب عن علمه شيء أصلًا وإن كان في غاية الحقارة. وإنما قال ههنا: {في الأرض ولا في السماء} خلاف ما في سورة سبأ وهو المعهود في القرآن لأن الكلام سيق لشاهدته على شؤون أهل الأرض فناسب أن يقدم ذكر ما في الأرض، هذا بعد تسليم أن الواو تفيد الترتيب. ثم بالغ في تعميم علمه فقال: {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر} من قرأ بالنصب على نفس الجنس أو بالرفع على الابتداء ليكون كلامًا برأسه فلا إشكال، وأما من جعله منصوبًا معطوفًا على لفظ مثقال لأنه في موضع الجر بالفتح لامتناع الصرف، أو جعله مرفوعًا معطوفًا على محل: {من مثقال} لأنه فاعل: {يعزب} فأورد عليه الإشكال وهو أنه يصير تقدير الآية لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجًا عن علم الله وإنه محال. ويمكن أن يجاب عنه بأن الأشياء المخلوقة قسمان: قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسموات والأرض. وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسة العلية والمعلولية عن مرتبة واجب الوجود، فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده شيء في الأرض ولا في السماء إلا هو في كتاب مبين. وهو كتاب أثبت فيه صور تلك المعلومات، والغرض الرد على من يزعم أنه تعالى غير عالم بالجزيئات. أو نقول: إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن هو في كتاب مبين. وذكر أبو علي الجرجاني صاحب النظم إن {إلا} بمعنى الواو على أن الكلام قد تم عند قوله: {ولا أكبر} ثم وقع الابتداء بكلام آخر فقال: {إلا في كتاب} أي وهو أيضًا في كتاب: {مبين} والعرب تضع إلا موضع واو النسق كثيرًا ومنه قوله: {إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم} [النمل: 11] يعني ومن ظلم. وقوله: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا} يعني والذين ظلموا.ثم إنه لما بين إحاطته بجميع الأشياء وكان في ذلك تقوية قلوب المطيعين وكسر قلوب المذنبين أتبعها تفصيل حال كل فريق فقال: {ألا إن أولياء الله} الآية. والتركيب يدل على القرب فكأنهم قربوا منه تعالى لاستغراقهم في نور معرفته وجماله وجلاله. قال أبو بكر الأصم: هم الذين تولى الله هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبوديته والدعوة إليه. وقال المتكلمون: ولي الله من يكون آتيًا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل، ويكون آتيًا بالأعمال الصالحة الواردة في الشريعة وعنوا بذلك قوله تعالى في وصفهم: {الذين آمنوا} وهو إشارة إلى كمال حال القوة النظرية.{وكانوا يتقون} وهو إشارة إلى كمال حال القوة العملية. وهاهنا مقام آخر وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الاعتقاد والعمل ويكون الولي متقيًا في كل الأحوال، أما في موقف العلم فبأن يقدس ذاته عن أن يكون مقصورًا على ما عرفه أو يكون كما وصفه، وأما في مقام العمل فأن يرى عبوديته وعبادته قاصرة عما يليق بكبريائه وجلاله فيكون أبدًا في الخوف والدهشة. وأما نفي الخوف والحزن عنهم فقد مر تفسيره في أوائل سورة البقرة: وعن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من أولياء الله؟ فقال: هم الذين يذكر الله برؤيتهم. يعني أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما فيهم من آثار الخشوع والإخبات والسكينة: وعن عمر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من عباد الله عبادًا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله. قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم. قال: هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ الآية».يحكى أن إبراهيم الخواص كان في البادية ومعه واحد يصحبه، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له فجلس في موضعه وجاءه السباع ووقفوا بالقرب منه والمريد تسلق على رأس شجرة خوفًا منها والشيخ كان فارغًا من تلك السباع، فلما أصبح زالت تلك الحالة. ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على بدنه فأظهر الجزع من تلك البعوضة فقال المريد: كيف تليق هذه الحالة بما قبلها؟ فقال الشيخ: تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي، فلما غاب ذلك الوارد فإنا أضعف خلق الله. ثم أخبر الله سبحانه عنهم بأن: {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} فقيل: بشراهم في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات} [البقرة: 25]: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات} [التوبة: 21] وقيل: إنها عبارة عن محبة الناس لهم وعن ذكرهم إياهم بالثناء الحسن. عن أبي ذر رضي الله عنه قلت: يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس. قال: تلك عاجل بشرى المؤمن. والدليل العقلي عليه أن الكمال محبوب لذاته فكل من اتصف بصفة الكمال كان محبوبًا لكل أحد إذا أنصفه ولم يحسده، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب في معرفة الله معرضًا عما سواه. ونور الله مخدوم بالذات ففي أي قلب حصل كان مخدومًا بالطبع لما سوى الله. وقيل: هي الرؤيا الصالحة. وعنه صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» وسبب تخصيص هذا العدد أن النبي صلى الله عليه وسلم استنبئ بعد أربعين سنة إلى كمال عمره- وهو ثلاث وستون سنة- وكان يأتيه الوحي أوّلًا بطريقة المنام ستة أشهر. ونسبة هذه المدة إلى ثلاث وعشرين سنة التي هي جميع مدة الوحي نسبة الواحد إلى ستة وأربعين. وأما أن الرؤيا الصادقة توجب لبشارة فلأنها دليل صفاء القلب واتصال النفس إلى عالم القدس والاطلاع على بعض ما هنالك. وعن عطاء: البشرى في الدنيا هي البشارة عند الموت: {تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة} [فصلت: 30] وأما البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرأون منها إلى آخر أحوالهم في الجنة: {لا تبديل لكلمات الله} لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده وقد مر مثله في الأنعام: {ذلك} إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين، وكلتا الجملتين اعتراض ولا يجب أن يقع بعد الاعتراض كلام. تقول: فلان ينطق بالحق والحق أبلج، قال القاضي: {لا تبديل لكلمات الله} يدل على أنها قابلة للتبديل، وكل ما يقبل العدم امتنع أن يكون قديمًا ومحل المنع ظاهر فإن نفي شيء عن شيء لا يلزم منه إمكانه له كقول الموحد: لا شريك لله. ثم سلى رسوله عن صنيع الفريق المكذبين فقال: {ولا يحزنك} أو نقول: إنه كما أزال الحزن عنه في الآخرة بقوله: {ألا إن أولياء الله} أزال الحزن عنه في الدنيا بقوله: {ولا يحزنك قولهم} أي تكذيبهم لك وتهديدهم بالخدم والأموال وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وبالجملة كل ما يتكلمون به في شأنك من المطاعن والقوادح. ثم استأنف قوله: {إن العزة لله} كأنه قيل: ما لي لا أحزن؟ فقيل: لأن العزة لله: {جميعًا} إن الغلبة والقهر له ولحزبه: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21]
|