الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الثعالبي: قوله عز وجل: {يا أيُّها المزمل}نداءٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال السهيلي: المُزّمِّلُ اسمٌ مشتقٌ من حالتِه التي كان عليها عليه السلام حين الخطابِ، وكذلك المدّثِّرُ، وفي خطابِه بهذا الاسْمِ فائِدتان: إحداهما: الملاطفةُ فإنّ العرب إذا قصدتْ ملاطفة المخاطبِ، وترْك معاتبتهِ سمّوْهُ باسم مشتقٍ من حالتِه، كقوله عليه السلام لعلي حين غاضب فاطمة: «قُمْ أبا تُرابٍ»، إشعارا له أنه غيْرُ عاتبٍ عليه، وملاطفة له.والفائدة الثانية:التنبيهُ لكلِّ مُتزمِّلٍ راقدٍ ليله؛ لينتبه إلى قيامِ الليل وذكرِ اللّه فيه، لأنّ الاسْم المشتق من الفعلِ، يشْترِكُ فيه مع المخاطب كلُّ منْ عمِل بذلك العملِ، واتّصف بتلك الصفةِ، انتهى، والتزمُّلُ الاِلْتِفافُ في الثياب، قال جمهور المفسرين وهو في البخاري وغيره: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا جاءه الملكُ في غار حراء وحاوره بما حاوره به، رجع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى خدِيجة فقال: زمِّلُوني زمِّلُوني؛ فنزلت {يأيها المدثر} وعلى هذا نزلت {يأيها المزمل}».وقوله تعالى: {قُمِ اليل إِلاّ قلِيلا} قال جمهور العلماءِ: هو أمْرُ ندْبٍ، وقيل كان فرْضا وقْت نزول الآيةِ، وقال بعضُهم: كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصّة وبقِي كذلك حتى تُوُفِّي، وقيل غير هذا.وقوله تعالى: {نِّصْفهُ} يحتملُ: أن يكون بدلا من قوله: {قليلا}.* ص *: {إِلاّ قلِيلا} استثناءٌ من {الليلِ}، و{نِّصْفهُ} قيل: بدلٌ من {الليل} وعلى هذا يكون استثناءُ {إِلاّ قلِيلا} منه، أي: قم نصف الليل إلا قليلا منه، والضميرُ في قوله: {أوِ انقص مِنْهُ}، {أوْ زِدْ عليْهِ} عائدٌ على النصْفِ وقيل: {نِّصْفهُ}: بدل من قوله: {إِلاّ قلِيلا} قال أبو البقاءِ، وهو أشْبهُ بظاهرِ الآيةِ، انتهى.قال * ع *: وكيْف ما تقلّب المعنى فإنه أمْر بقيامِ نصفِ الليلِ، أو أكْثر شيئا أو أقلّ شيئا، فالأكْثر عند العلماء لا يُزِيدُ على الثُّلثيْنِ، والأقلُّ لا ينْحطُّ عن الثلثِ، ويُقوِّي هذا حديث ابنِ عبّاسٍ في مبِيتهِ في بيت ميمونة؛ قال: فلما انْتصف الليلُ أو قبْله بقليلٍ أو بعده بقليل، قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.قال * ع *: ويلزمُ على هذا البدلِ الذي ذكرْناه أن يكون نصفُ الليل قدْ وقع عليه الوصفُ بقليلٍ، وقدْ يحتملُ عندي قوله: {إِلاّ قلِيلا} أنْ يكون استثناء من القيام، فنجعلُ الليل اسْم جِنْسٍ ثم قال: {إِلاّ قلِيلا} أي: إلا الليالي التي تُخِلُّ بقيامِها لعذرٍ، وهذا النظرُ يحْسُنُ مع القول بالنّدْبِ جِدّا.قال * ص *: وهذا النّظرُ خلافُ ظاهرِ الآية، انتهى، والضميرُ في {مِنْهُ} و{عليْهِ} عائِدان على النصف.وقوله سبحانه: {ورتِّلِ}: معناه في اللغةِ: تمهّلْ وفرِّقْ بيْن الحروفِ، لتبِين، والمقْصِدُ أنْ يجِد الفِكْرُ فُسْحة للنّظرِ وفهْمِ المعاني، وبذلك يرِقُّ القلْبُ، ويفِيضُ عليه النُّورُ والرحمة، قال ابن كيسان: المُرادُ: تفْهمُه تاليا له، ورُوِي في صحيح الحديث: أن قراءة رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم كانتْ بيِّنة مُترسِّلة، لو شاء أحدُ أنْ يعُدّ الحروف لعدّها، قال الغزاليُّ في (الإحياء): واعْلمْ أنّ الترْتِيل والتّؤُدة أقْربُ إلى التوقير والاحترامِ، وأشدُّ تأثيرا في القلبِ من الهدْرمةِ والاسْتِعْجالِ، والمقْصُودُ مِن القراءة التفكُّرُ، والترتيلُ مُعِينٌ عليْهِ، وللناس عاداتٌ مختلفة في الختْمِ، وأوْلى ما يُرْجعُ إليه في التقديراتِ قول النبي صلى الله عليه وسلم وقدْ قال عليه الصّلاةُ والسلام: «منْ قرأ القرآن في أقلِّ مِن ثلاثٍ، لمْ يفْقهْهُ» وذلك لأنّ الزيادة عليها تمنعُ الترتيل المطلوب، وقدْ كرِه جماعةٌ الختم في يومٍ وليْلةٍ، والتفصيلُ في مقدار القراءة أنّه إنْ كان التالي من العُبّادِ السالكين طريق العملِ، فلا ينْبغِي له أن ينْقُص من ختْمتيْنِ في الأُسْبُوعِ، وإنْ كان من السالكين بأعْمالِ القلْبِ وضرُوب الفِكْر، أو من المشغولين بِنشْرِ العلمِ فلا بأس أنْ يقْتصِر في الأُسْبُوعِ على ختمةٍ، وإنْ كان نافِذ الفِكْرِ في معانِي القرآن فقدْ يكتفِي في الشهر بمرةٍ لحاجتِهِ إلى كثْرةِ التّرْدِيدِ والتأمُّل، انتهى، وروى ابنُ المباركِ في (رقائقه): قال: حدثنا إسماعيل عن أبي المتوكِّل الناجي: «أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قام ذات ليْلةٍ بِآيةٍ مِن القرآن يُكرِّرُها على نفْسِهِ»، انتهى.وقوله تعالى: {إِنّا سنُلْقِى عليْك قولا ثقِيلا} يعني القرآن، واخْتُلِف لم سمّاه ثقيلا، فقال جماعةٌ مِن المفسرين: لِما كان يحُلُّ برسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم مِنْ ثِقْلِ الجِسْمِ؛ حتّى إنّه كان إذا أوحي إليّه وهُو على ناقتِهِ؛ بركتْ بهِ وحتّى كادتْ فخِذُه أنْ ترُضُّ فخِذ زيْدِ بن ثابت رضي اللّه عنه، وقيل: لثِقلِهِ على الكفارِ والمنافقين بإعْجازِه ووعْدِه ووعيدهِ ونحو ذلك، وقال حُذّاقُ العلماء: معناه: ثقِيلُ المعانِي من الأمْرِ بالطاعاتِ، والتكاليفِ الشرعية من الجهاد، ومزاولةِ الأعمال الصالحاتِ دائما، قال الحسن: إنّ الهذّ خفِيفٌ ولكِنّ العمل ثقيل.* ت *: والصوابُ عندي أنْ يُقال: أما ثِقلُه باعتبارِ النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ما كان يجِدُه عليه السلام من الثقل المحْسُوسِ وأما ثِقلُه باعتبارِ سائرِ الأمةِ فهو ما ذُكِر من ثقل المعاني، وقدْ زجر مالكٌ سائِلا سأله عن مسألةٍ وقال: يا أبا عبْدِ اللّه؛ إنها مسألةٌ خفيفةٌ؛ فغضِب مالكٌ وقال: ليْس في العِلم خفِيفٌ أما سمِعْت قول الله تعالى: {إِنّا سنُلْقِى عليْك قولا ثقِيلا} فالْعِلْمُ كُلُّه ثقيلُ، انتهى من (المدارك) لعياضٍ. اهـ..قال الألوسي: {يا أيُّها المزمل} أي المتزمل من تزمل بثيابه إذا تلفف بها فأدغم التاء في الزاي وقد قرأ أبي على الأصل وعكرمة المزمل بتخفيف الزاي وكسر الميم أي المزمل جسمه أو نفسه وبعض السلف المزمل بالتخفيف وفتح الميم اسم مفعول ولا تدافع بين القراءات فإنه عليه الصلاة والسلام هو زمل نفسه الكريمة من غير شبهة لكن إذا نظر إلى أن كل أفعاله من الله تعالى فقد زمله غيره ولا حاجة إلى أن يقال أنه صلى الله عليه وسلم زمل نفسه أولا ثم نام فزمله غيره أو أنه زمله غيره أولا ثم سقط عنه ما زمل به فزمل هو نفسه والجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره رجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فقال «زملوني زملوني» فنزلت {يا أيها المدثر} [المدثر: 1] وعلى أثرها نزلت {يا أيها المزمل} وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلاءل عن جابر رضي الله تعالى عنه قال لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه فقالوا كاهن قالوا ليس بكاهن قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون قالوا ساحر قالوا ليس بساحر قالوا يفرق بين الحبيب وحبيبه فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل عليه السلام فقال: {يا أيها المزمل} {يا أيها المدثر} ونداؤه عليه الصلاة والسلام بذلك تأنيس له وملاطفة على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها كقوله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه حين غاضب فاطمة رضي الله تعالى عنها فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب «قم أبا تراب» قصدا لرفع الحجاب وطي بساط العتاب وتنشيطا له ليتلقى ما يرد عليه بلا كسل:وزعم الزمخشري أنه عليه الصلاة والسلام نودي بذلك تهجينا للحالة التي عليها من التزمل في قطيفة واستعداده للاستثقال في النوم كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن إلى آخر ما قال مما ينادى عليه كما قال الأكثرون بسوء الأدب ووافقه في بعضه من وافقه وقال صاحب الكشف أراد أنه عليه الصلاة والسلام وصف بما هو ملتبس به يذكره تقاعده فهو من لطيف العتاب الممزوج بمحض الرأفة ولينشطه ويجعله مستعدا لما وعده تعالى بقوله سبحانه: {إِنّا سنُلْقِى عليْك قولا ثقِيلا} [المزمل: 5] ولا يربأ برسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا النداء فقد خوطب بما هو أشد في قوله تعالى: {عبس وتولى} [عبس: 1] ومثل هذا من خطاب الإدلال والترؤف لا يتقاعد ما في ضمنه من البر والتقريب عما في ضمن يا أيها النبي يا أيها الرسول من التعظيم والترحيب انتهى ولا يخفى أنه لا يندفع به سوء أدب الزمخشري في تعبيره فإنه تعالى وإن كان له أن يخاطب حبيبه بما شاء لكنا نحن لا نجري على ما عامله سبحانه به بل يلزمنا الأدب والتعظيم لجنابه الكريم ولو خاطب بعض الرعايا الوزير بما خاطبه به السلطان طرده الحجاب وربما كان العقاب هو الجواب وقيل كان صلى الله عليه وسلم متزملا بمرط لعائشة رضي الله تعالى عنها يصلي فنودي بذلك ثناء عليه وتحسينا لحاله التي كان عليها ولا يأباه الأمر بالقيام بعد إما لأنه أمر بالمداومة على ذلك والمواظبة عليه أو تعليم له عليه الصلاة والسلام وبيان لمقدار ما يقوم على ما قيل نعم أورد عليه أن السورة من أوائل ما نزل بمكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بنى على عائشة رضي الله تعالى عنها بالمدينة مع أن الأخبار الصحيحة متضافرة بأن النداء المذكور كان وهو عليه الصلاة والسلام في بيت خديجة رضي الله تعالى عنها ويعلم منه حال ما روي عن عائشة «أنها سئلت ما كان تزميله صلى الله عليه وسلم قالت كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي وكان سداه شعرا ولحمته وبرا».وتكلف صاحب الكشف فقال الجواب أنه عليه الصلاة والسلام عقد في مكة فلعل المرط بعد العقد صار إليه صلى الله عليه وسلم نعم دل على أنه بعد وفاة خديجة إنما إشكال في قول عائشة نصفه علي إلخ وجوابه أنه يمكن أن يكون قد بات صلى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله تعالى عنه ذات ليلة وكان المرط على عائشة وهي طفلة والباقي لطوله على النبي عليه الصلاة والسلام فحكت ذلك أم المؤمنين إذ لا دلالة على أنها حكاية ما بعد البناء فهذا ما يتكلف لصحة هذا القول انتهى.وأنت تعلم أن هذا الحديث لم يقع في الكتب الصحيحة كما قاله ابن حجر بل هو مخالف لها ومثل هذه الاحتمالات لا يكتفي بها بل قال أبو حيان أنه كذب صريح وعن قتادة كان صلى الله عليه وسلم قد تزمل في ثيابه للصلاة واستعد لها فنودي ب {يا أيها المزمل} على معنى يا أيها المستعد للعبادة وقال عكرمة المعنى يا أيها المزمل للنبوة وأعبائها والزمل كالحمل لفظا ومعنى ويقال ازدمله أي احتمله وفيه تشبيه أجراه مراسم النبوة بتحمل الحمل الثقيل لما فيهما من المشقة وجوز أن يكون كناية عن المتثاقل لعدم التمرن وأورد عليه نحو ما أورد على وجه الزمخشري ومع صحة المعنى الحقيقي واعتضاده بالأحاديث الصحيحة لا حاجة إلى غيره كما قيل.{قُمِ الليل} أي قم إلى الصلاة وقيل داوم عليها وأيا ما كان فمعمول قم مقدر والليل منصوب على الظرفية وجوز أن يكون منصوبا على التوسع والإسناد المجازي ونسب هذا إلى الكوفيين وما قيل إلى البصريين وقيل القيام مستعار للصلاة ومعنى قم صل فلا تقدير وقرأ أبو السمال بضم الميم اتباعا لحركة القاف وقرئ بفتحها طلبا للتخفيف والكسر في قراءة الجمهور على أصل التقاء الساكنين {إِلاّ قلِيلا} استثناء من الليل وقوله تعالى: {نّصْفهُ} بدل من قليلا بدل الكل والضمير لليل وفي هذا الإبدال رفع الإبهام وفي الإتيان بقليل ما يدل على أن النصف المغمور بذكر الله تعالى بمنزلة الكل والنصف الفارغ وإن ساواه في الكمية لا يساويه في التحقيق {أوِ انقص مِنْهُ} عطف على الأمر السابق والضمير المجرور لليل أيضا مقيدا بالاستثناء لأنه الذي سيق له الكلام وقيل للنصف لقربه {قلِيلا} أي نقصا قليلا أو مقدارا قليلا بحيث لا ينحط عن نصف النصف.{أوْ زِدْ عليْهِ} عطف كما سبق وكذا الكلام في الضمير ولا يختلف المعنى على القولين فيه وهو تخييره صلى الله عليه وسلم بين أن يقوم نصف الليل أو أقل من النصف أو أكثر بيد أنه رجح الأول بأن فيه جعل معيار النقص والزيادة النصف المقارن للقيام وهو أولى من جعله النصف العاري منه بالكلية وإن تساويا كمية وجعل بعضهم الإبدال من الليل الباقي بعد الثنيا والضميرين له وقال في الإبدال من قليل ليس بسديد لهذا ولأن الحقيقي بالاعتناء الذي ينبئ عنه الإبدال هو الجزء الباقي بعد الثنيا المقارن للقيام لا للجزء المخرج العاري عنه ولا يخفى أنه على طرف التمام وكذا اعترض أبو حيان ذلك الإبدال بقوله إن ضمير نصفه حينئذٍ إما أن يعود على المبدل منه أو على المستثنى منه وهو الليل لا جائز أن يعود على المبدل منه لأنه يكون استثناء مجهول من مجهول إذ التقدير إلا قليلا نصف القليل وهذا لا يصح له معنى البتة ولا جائز أن يعود على المستثنى منه لأنه يلغو فيه الاستثناء إذ لو قيل قم الليل نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه أفاد معناه على وجه أخصر وأوضح وأبعد عن الإلباس وفيه أنا نختار الثاني وما زعمه من اللغوية قد أشرنا إلى دفعه وأوضحه بعض الأجلة بقوله إن فيه تنبيها على تخفيف القيام وتسهيله لأن قلة أحد النصفين تلازم قلة الآخر وتنبيها على تفاوت ما شغل بالطاعة وما خلا منها الإشعار بأن البعض المشغول بمنزلة الكل مع ما في ذلك من البيان بعد الإبهام الداعي للتمكن في الذهن وزيادة التشويق وتعقب السمين الشق الأول أيضا بأن قوله استثناء مجهول من مجهول غير صحيح لأن الليل معلوم وكذا بعضه من النصف وما دونه وما فوقه ولا ضير في استثناء المجهول من المعلوم نحو {فشربوا منه إلا قليلا} [البقرة: 249] بل لا ضير في إبدال مجهول من مجهول كجاءني جماعة بعضهم مشاة ومع هذا المعول عليه ما سلف وجوز أن يكون نصفه بدلا من الليل بدل بعض من كل والاستثناء منه والكلام على نية التقديم والتأخير والأصل قم نصف الليل إلا قليلا وضمير منه وعليه للأقل من النصف المفهوم من مجموع المستثنى منه فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل بأن تقوم ثلث الليل أو انقص من ذلك الأقل قليلا بأن تقوم ربع الليل أو زد على ذلك الأقل بأن تقوم النصف فالتخيير على هذا بين الأقل من النصف والأقل من الأقل والأزيد منه وهو النصف بعينه ومآله إلى التخيير بين النصف والثلث والربع فالفرق بين هذا الوجه وما ذكر قيل مثل الصبح ظاهر وفي (الكشاف) ما يفهم منه على ما قيل أن التخيير فيما وراء النصف أي فيما يقل عن النصف ويزيد على الثلث فلا يبلغ بالزيادة النصف ولا بالنقصان الثلث قال في (الكشف) وإنما جعل الزيادة دون النصف والنقصان فوق الثلث لأنهما لو بلغا إلى الكسر الصحيح لكان الأشبه أن يذكر بصريح اسميهما وأيضا إيثار القلة ثانيا دليل على التقريب من ذلك الأقل وما انتهى إلى كسر صحيح فليس بناقص قليل في ذوق هذا المقام وكذا القول في جانب الزيادة كيف وقد بني الأمر على كونه أقل من النصف انتهى وهو وجه متكلف ونحوه فيما أرى ما سمعت قبيله وظاهر كلام بعضهم أن ذكر الثلث والربع والنصف فيه على سبيل التمثيل لا أن الأقل والأنقص والأزيد محصورات فيما ذكر وجوز أيضا كون الكلام على نية التقديم والتأخير كما مر آنفا لكن مع جعل الضميرين للنصف لا للأقل منه كما في ذلك والمعنى التخيير بين أمرين بين أن يقوم عليه الصلاة والسلام أقل من نصف الليل على البت وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل على البت أو انقص من النصف أو زد عليه تخييرا قيل وللاعتناء بشأن الأقل لأنه الأصل الواجب كرر على نحو أكرم إما زيدا وإما زيدا أو عمرا وتعقب بأن فيه تكلفا لأن تقديم الاستثناء على البدل ظاهر في أن البدل من الحاصل بعد الاستثناء لأن في تقدير تأخير الاستثناء عدولا عن الأصل من غير دليل ولأن الظاهر على هذا رجوع الضميرين إلى النصف بعد الاستثناء لأنه السابق لا النصف المطلق وأيضا الظاهر أن النقصان رخصة لأن الزيادة نفل والاعتناء بشأن العزيمة أولى ثم فيه أنه لا يجوز قيام النصف ويرده القراءة الثابتة في السبعة {أن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه} [المزمل: 20] بالجر فإن استدل من جواز الأقل على جوازه لمفهوم الموافقة لزم أن يلغوا التعرض للزيادة على النصف لذلك أيضا ولا يخفى أن بعض هذا يرد على الوجه المار آنفا واعترض قوله الظاهر أن النقصان رخصة بأنه محل نظر إذ الظاهر أنه من قبيل {فإن أتممت عشرا فمن عندك} [القصص: 27] فالتخيير ليس على حقيقته وفيه بحث وجوز أيضا كون الإبدال من قليلا كما قدمنا أولا لكن مع جعل قليلا الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع وضمير عليه لهذا القليل وجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع كأنه قيل قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا نصفه أو زد على هذا القليل قليلا نصفه ومآله قم نصف الليل أو نصف نصفه أو زد على نصف النصف نصف نصف النصف فيكون التخيير فيما إذا كان الليل ست عشرة ساعة مثلا بين قيام ثماني ساعات وأربع وست ولا يخفى أن الإطلاق في أو زد عليه ظاهر الإشعار بأنه غير مقيد بقليلا إذ لو كان للاستغناء لاكتفى في أو انقص إلخ بالأول أيضا ومن هنا قيل يجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة للثلث فيكون التخيير بين النصف والثلث والربع وفيه أن جعلها تتمة الثلث لا دليل عليه سوى موافقة القراءة بالجر في نصفه وثلثه بعد وجوز الإمام أن يراد بـ: {قليلا} في قوله تعالى: {إلا قليلا} الثلث وقال إن نصفه على حذف حرف العطف فكأنه قيل ثلثي الليل أو قم نصفه أو انقص من النصف أو زد عليه وأطال في بيان ذلك والذب عنه ومع ذلك لا يخفى حاله وذكر أيضا وجها ثانيا لا يخفى أمره على من أحاط بما تقدم خبرا نعم تفسيره القليل بالثلث مروى عن الكلبي ومقاتل وعن وهب بن منبه تفسيره بما دون المعشار والسدس وهو على ما قدمنا نصف واستدل به من قال بجواز استثناء النصف وما فوقه على ما فصل في الأصول وقال التبريزي الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل لأن الثلث الأول وقت العتمة والاستثناء وارد على المأمور به فكأنه قيل قم ثلثي الليل إلا قليلا ثم جعل {نصفه} بدلا من {قليلا} فصار القليل مفسرا بالنصف من الثلثين وهو قليل على ما تقدم أو انقص منه أي من المأمور به وهو قيام الثلثين قليلا أي ما دون نصفه {أو زد عليه} فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين انتهى.وهو كما ترى وقيل الاستثناء من إعداد الليل لا من أجزائه فإن تعريفه للاستعراق إذ لا عهد فيه والضمير راجع إليه باعتبار الأجزاء على أن هناك استخداما أو شبهه والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه وهو بمكان من البعد وبالجملة قد أكثر المفسرون الكلام في هذه الآية حتى ذكروا ما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز عليه وأظهر الوجوه عندي وأبعدها عن التكلف وأليقها بجزالة التنزيل هو ما ذكرناه أولا والله تعالى أعلم بما في كتابه الجليل الجزيل وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بالأمر في قوله سبحانه: {قم الليل} [المزمل: 2] إلخ.{ورتّلِ القرءان} أي في أثناء ما ذكر من القيام أي أقرأه على تؤدة وتمهل وتبيين حروف {ترْتِيلا} بليغا بحيث يتمكن السامع من عدها من قولهم ثغر رتل بسكون التاء ورتل بكسرها إذا كان مفلجا لم تتصل أسنانه بعضها ببعض وأخرج العسكري في المواعظ عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: «بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذا الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.»{إِنّا سنُلْقِى عليْك} أي سنوحي إليك وإيثار الإلقاء عليه لقوله تعالى: {قولا ثقِيلا} وهو القرآن العظيم فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة ثقيل على المكلفين سيما على الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام مأمور بتحملها وتحميلها للأمة وهذه الجملة المؤكدة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي لتسهيل ما كلفه عليه الصلاة والسلام من القيام كأنه قيل أنه سيرد عليك في الوحي المنزل تكاليف شاقة هذا بالنسبة إليها سهل فلا تبال بهذه المشقة وتمرن بها لما بعدها وادخل بعضهم في الاعتراض جملة {ورتل} إلخ وتعقب بأنه لا وجه له وقيل معنى كونه ثقيلا أنه رصين لأحكام مبانيه ومتانة معانيه والمراد أنه راجح على ما عداه لفظا ومعنى لكن تجوز بالثقيل عن الراجح لأن الراجح من شأنه أن يكون كذلك وفي معناه ما قيل المراد كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف وقيل معناه أنه ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفية للسر وتجريد للنظر فالثقيل مجاز عن الشاق وقيل ثقيل في الميزان والثقل إما حقيقة أو مجاز عن كثرة ثواب قارئه وقال أبو العلية والقرطبي ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده وقيل ثقيل تلقيه يعني يثقل عليه صلى الله عليه وسلم والوحي به بواسطة الملك فإنه كان يوحي إليه عليه الصلاة والسلام على أنحاء منها أن لا يتمثل له الملك ويخاطبه بل يعرض له عليه الصلاة والسلام كالغشي لشدة انجذاب روحه الشريفة للملأ إلا الأعلى بحيث يسمع ما يوحى به إليه ويشاهده ويحسه هو عليه الصلاة والسلام دون من معه وفي هذه الحالة كان يحس في بدنه ثقلا حتى كادت فخذه صلى الله عليه وسلم أن ترض فخذ زيد بن ثابت وقد كانت عليها وهو يوحى إليه.وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحاكم وصححه عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه وتلت {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}».وروى الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عنها أنها قالت «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وأن جبينه ليتفصد عرقا» وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون {ثقيلا} صفة لمصدر حذف فأقيم مقامه وانتصب انتصابه أي إلقاء ثقيلا وليس صفة {قولا} وقيل ذلك كناية عن بقائه على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه وقيل ثقلة باعتبار ثقل حروفه حقيقة في اللوح المحفوظ فعن بعضهم أن كل حرف من القرآن في اللوح أعظم من جبل قاف وإن الملائكة لو اجتمعت على الحرف أن يقلوه ما أطاقوه حتى يأتي إسرافيل عليه السلام وهو ملك اللوح فيرفعه ويقله بإذن الله تعالى لا بقوته ولكن الله عز وجل طوقه ذلك وهذا مما يحتاج إلى نقل صحيح عن الصادق عليه الصلاة والسلام ولا أظن وجوده.والجملة قيل على معظم هذه الأوجه مستأنفة للتعليل فإن التهجد يعد النفس لأن تعالج ثقله فتأمل.واستدل بالآية على أنه لا ينبغي أن يقال سورة خفيفة لما أن الله تعالى سمى فيه القرآن كله قولا ثقيلا وهذا من باب الاحتياط كما لا يخفى. اهـ.
|