الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
هذه الخانقاه من جملة دار الوزارة الكبرى التي تقدّم ذكرها عند ذكر القصر من هذا الكتاب وهي أجلّ خانقاه بالقاهرة بنيانًا وأوسعها مقدارًا وأتقنها صنعة بناها الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوريّ قبل أن يلي السلطنة وهو أمير. فبدأ في بنائها في سنة ست وسبعمائة وبنى بجانبها رباطًا كبيرًا يتوصل إليه من داخلها وجُعل بجانب الخانقاه قبة بها قبره ولهذه القبة شبابيك تُشرف على الشارع المسلوك فيه من رحبة باب العيد إلى باب النصر من جملتها الشباك الكبير الذي حمله الأمير أبو الحارث البساسيريّ من بغداد لما غلب الخليفة القائم العباسيّ وأرسل بعمامته وشباكه الذي كان بدار الخلافة في بغداد وتجلس الخلفاء فيه وهو هذا الشباك كما ذكر في أخبار دار الوزارة من هذا الكتاب. فلما ورد هذا الشباك من بغداد عمل بدار الوزارة واستمر فيها إلى أن عمر الأمير بيبرس الخانقاه المذكورة فجعل هذا الشباك بقبة الخانقاه وهو بها إلى يومنا هذا وإنه لشباك جليل القدر. حَشِمٌ يكاد يتبين عليه أبهة الخلافة. ولما شرع في بنائها رفق بالناس ولاطفهم ولم يعسف فيها أحدًا في بنائها ولا أكره صانعًا ولا غصب من آلاتها شيئًا وإنما اشترى دار الأمير عز الدين الأفرم التي كانت بمدينة مصر واشترى دار الوزير هبة الله بن صاعد الفائزيّ وأخذ ما كان فيهما من الأنقاض واشترى أيضًا دار الأنماط التي كانت برأس حارة الجودرية من القاهرة ونقضها وما حولها واشترى أملاكًا كانت قد بنيت في أرض دار الوزارة من ملاكها بغير إكراه وهدمها فكان قياس أرض الخانقاه والرباط والقبة نحو فدّان وثلث. وعندما شرع في بنائها حضر إليه الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتاش الفخريّ أمير سلاح وأراد التقرّب لخاطره وعرّفه أن بالقصر الذي فيه سكن أبيه مغارة تحت الأرض كبيرة يُذكر أنّ فيها ذخيرة من ذخائر الخلفاء الفاطميين وأنهم لما فتحوها لم يجدوا بها سوى رخام كثير فسدوها ولم يتعرّضوا لشيء مما فيها فسرّ بذلك وبعث عدّة من الأمراء فتحوا المكان فإذا فيه رخام جليل القدر عظيم الهيئة فيه ما لا يوجد مثله لعظمه فنقله من المغارة ورخم منه الخانقاه والقبة وداره التي بالقرب من البندقانيين وحارة زويلة وفضل منه شيء كثير عهدي أنه مختزن بالخانقاه وأظنه أنه باق هناك. ولما كملت في سنة تسع وسبعمائة قرّر بالخانقاه أربعمائة صوفيّ وبالرباط مائة من الجند وأبناء الناس الذين قعد بهم الوقت وجعل بها مطبخًا يُفرّق على كلّ منهم في كلّ يوم اللحم والطعام وثلاثة أرغفة من خبز البر وجعل لهم الحلوى ورتب بالقبة درسًا للحديث النبويّ له مدرّس وعنده عدّة من المحدثين ورتب القرّاء بالشباك الكبير يتناوبون القراءة فيه ليلًا ونهارًا ووقف عليها عدّة ضياع بدمشق وحماه ومنية المخلص بالجيزة من أرض مصر وبالصعيد والوجه البحريّ والربع والقيسارية بالقاهرة. فلما خُلع من السلطنة وقبض عليه الملك الناصر محمد بن قلاون وقتله أمر بغلقها فغلقت وأخذ سائر ما كان موقوفًاعليها ومحا اسمه من الطراز الذي بظاهرها فوق الشبابيك وأقامت نحو عشرين سنة معطلة ثم إنه أمر بفتحها في أوّل سنة ست وعشرين وسبعمائة ففتحت وأعاد إليها ما كان موقوفًا عليها واستمرت إلى أن شُرِقَتْ أراضي مصر لقصور مد النيل أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة ست وسبعين وسبعمائة فبطل طعامها وتعطل مطبخها واستمر الخبز ومبلغ سبعة دراهم لكلّ واحد في الشهر بدل الطعام ثم صار لكل واحد منهم في الشهر عشرة دراهم فلما قصر مدّ النيل في سنة ست وتسعين وسبعمائة بطل الخبز أيضًا وغُلق المخبز من الخانقاه وصار الصوفية يأخذون في كلّ شهر مبلغًا من الفلوس معاملة القاهرة وهم على ذلك إلى اليوم. وقد أدركتُها ولا يُمكِّنُ بوّابها غير أهلها من العبور إليها والصلاة فيها لما لها في النفوس من المهابة ويمنع الناس من دخولها حتى الفقهاء والأجناد وكان لا ينزل بها أمرد وفيها جماعة من أهل العلم والخير وقد ذهب ما هنالك فنزل بها اليوم عدة من الصغار ومن الأساكفة وغيرهم من العامّة إلاّ أن أوقافهاعامرة وأرزاقها دارّة بحسب نقود مصر ومن حسن بناء هذه الخانقاه أنه لم يحتج فيها إلى مرمّة منذ بنيت إلى وقتنا هذا وهي مبنية بالحجر وكلها عقود محكمة بدل السقوف الخشب وقد سمعت غير واحد يقول إنه لم تبن خانقاه أحسن من بنائها. الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوري: اشتراه الملك المنصور قلاون صغيرًا ورقاه في الخدم السلطانية إلى أن جعله أحد الأمراء وأقامه جاشنكير وعرف بالشجاعة. فلما مات الملك المنصور خدم ابنه الملك الأشرف خليلًا إلى أن قتله الأمير بيدرا بناحية تروجة فكان أوّل من ركب على بيدرا في طلب ثار الملك الأشرف وكان مهابًا بين خشداشيته فركبوا معه وكان من نصرتهم على بيدرا وقتله ما قد ذكر في موضعه فاشتهر ذكره وصار أستادار السلطان في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في سلطنته الثانية رفيقًا للأمير سلار نائب السلطنة وبه قويت الطائفة البرجية من المماليك واشتدّ بأسهم وصار الملك الناصر تحت حجر بيبرس وسلار إلى أن أنف من ذلك وسار إلى الكرك فأقيم بيبرس في السلطنة يوم السبت ثالث عشري شوّال سنة ثمان وسبعمائة فاستضعف جانبه وانحط قدره ونقصت مهابته وتغلب عليه الأمراء والمماليك واضطربت أمور المملكة لمكان الأمير سلار وكثرة حاشيته وميل القلوب إلى الملك الناصر وفي أيامه عمل الجسر من قليوب إلى مدينة دمياط وهو مسيرة يومين طولًا في عرض أربع قصبات من أعلاه وست قصبات من أسفله حتى أنه كان يسير عليه ستة من الفرسان معًا بحذاء بعضهم وأبطل سائر الخمارات من السواحل وغيرها من بلاد الشام وسامح بما كان من المقرّر عليها للسلطان وعوّض الأجناد بدله وكُبست أماكن الريب والفواحش بالقاهرة ومصر وأريقت الخمور وضرب أناس كثير في ذلك بالمقارع وتتبع أماكن الفساد وبالغ في إزالته ولم يراع في ذلك أحدًا من الكتاب ولا من الأمراء فخف المنكر وخفي الفساد إلا أن الله أراد زوال دولته فسوّلت له نفسه أن بعث إلى الملك الناصر بالكرك يطلب منه ما خرج به معه من الخيل والمماليك وحمل الرسول إليه بذلك مشافهة أغلظ عليه فيها فحنق من ذلك وكاتب نوّاب الشام وأمراء مصر في السر يشكو ما حلّ به وترفق بهم وتلطف بهم فرقوا له وامتعضوا لما به ونزل الناصر من الكرك وبرز عنها فاضطرب الأمر بمصر واختلّ الحال من بيبرس وأخذ العسكر يسير من مصر إلى الناصر شيئًا بعد شيء وسار الناصر من ظاهر الكرك يريد دمشق في غرّة شعبان سنة تسع وسبعمائة فمندما نزل الكسوة خرج الأمراء وعامّة أهل دمشق إلى لقائه ومعهم شعار السلطنة ودخلوا به إلى المدينة وقد فرحوا به فرحًا كثيرًا في ثاني عشر شعبان ونزل بالقلعة وكاتب النوّاب فقدموا عليه وصارت ممالك الشام كلها تحت طاعته يخطب له بها ويُجبى إليه مالها ثم خرج من دمشق بالعساكر يريد مصر وأمرُ بيبرس كلّ يوم في نقص إلى أن كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان فترك بيبرس المملكة ونزل من قلعة الجبل ومعه خواصه إلى جهة باب القرافة والعامة تصيح عليه وتسبه وترجمه بالحجارة عصبية للملك الناصر وحبًا له حتّى سار عن القرافة ودعا الحرس بالقلعة في يوم الأربعاء للملك الناصر فكانت مدّة سلطنة بيبرس عشرة أشهر وأربعة وعشرين يومًا وقدم الملك الناصر إلى قلعة الجبل أوّل يوم من شوال وجلس على تخت المملكة واستولى على السلطنة مرّة ثالثة ونزل بيبرس بأطفيح ثم سار منها إلى أخميم فلما صار بها تفرّق عنه من كان معه من الأمراء والمماليك فصاروا إلى الملك الناصر فتوجه في نفر يسير على طريق السويس يريد بلاد الشام فقُبض عليه شرقيّ غزة وحُمل مقيدًا إلى الملك الناصر فوصل قلعة الجبل يوم الأربعاء ثالث عشر ذي القّعدة وأوقف بين يدي السلطان وقبل الأرض فعنفه وعدّد عليه ذنوبًا ووبخه ثم أمر به فسُجن في موضع إلى ليلة الجمعة خامس عشرة وفيها لحق بربه تعالى فحُمل إلى القرافة ودفن في تربة الفارس أقطاي ثم نُقل منها بعد مدّة إلى تربته بسفح المقطم فقبر بها زمانًاطويلًا ثم نقل منها ثالث مرّة إلى خانقاهه ودفن بقبتها وقبره هناك إلى يومنا هذا. وأدرَكت بالخانقاه المذكورة شيخًا من صوفيتها أخبرني أنه حضر نقله من ترتبه بالقرافة إلى قبة الخانقاه وأنه تولى وضعه في مدفنه بنفسه وكان رحمه الله خيّرًا عفيفًا كثير الحياء وافر الحرمة جليل القدرِ عظيمًا في النفوسِ مهاب السطوة في أيام أمرته فلما تلقب بالسلطنة ووسم باسم الملك اتضع قدره واستُضعف جانبه وطُمع فيه وتغلب عليه الأمراء والمماليك ولم تنجح مقاصده ولا سعد في شيء من تدبيره إلى أن انقضت أيامه وأناخ به الخانقاه الجمالية هذه الخانقاه بالقرب من درب راشد يُسلك إليها من رحبة باب العيد بناها الأمير الوزير مغلطاي الجماليّ في سنة ثمانين وسبعمائة وقد تقدم ذكرها عند ذكر المدارس من هذا الكتاب. الخانقاه الظاهرية هذه الخانقاه بخط بين القصرين فيما بين المدرسة الناصرية ودار الحديث الكاملية أنشأها الملك الظاهر برقوق في سنة ست وثمانين وسبعمائة وقد ذكرت عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب. الخانقاه الشرابيشية هذه الخانقاه فيما بين الجامع الأقمر وحارة برجوان في آخر المنحر الذي كان للخلفاء وهو يُعرف اليوم بالدرب الأصفر ويتوصل منها إلى الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس وبابها الأصليّ من زقاق ضيق بوسط سوق حارة برجوان أنشأها الصدر الأجل نور الدين عليّ بن محمد بن محاسن الشرابيشيّ وكان من ذوي الغنى واليسار صاحب ثراء متسع وله عدّة أوقاف على الخانقاه المهمندارية هذه الخانقاه خارج باب زويلة فيما بين رأس حارة اليانسية وجامع الماردينيّ بناها الأمير شهاب الدين أحمد بن أقوش العزيزيّ المهمندار ونقيب الجيوش في سنة خمس وعشرين وسبعمائة وقد ذكرتّ في المدارس من هذا الكتاب. خانقاه بشتاك هذه الخانقاه خارج القاهرة على جانب الخليج من البرّ الشرقيّ تجاه جامع بشتاك أنشأها الأمير سيف الدين بشتاك الناصريّ وكان فتحها أوّل يوم من ذي الحجة سنة ست وثلاثين وسبعمائة واستقرّ في مشيختها شهاب الدين القدسيّ وتقرّر عنده عدّة من الصوفية وأجرى لهم الخبز والطعام في كلّ يوم فاستمرّ ذلك مدّة ثم بطل وصار يُصرف لأربابها عوضًا عن ذلك في كلّ شهر مبلغ وهي عامرة إلى وقتنا هذا وقد نسب إليها جماعة منهم الشيخ الأديب البارع بدر الدين محمد بن إبراهيم المعروف بالبدر البشتكي. خانقاه ابن غراب هذه الخانقاه خارج القاهرة على الخليج الكبير من برّه الشرقيّ بجوار جامع بشتاك من غربيه أنشأها القاضي الأمير سعد الدين إبراهيم بن عبد الرزاق بن غراب الإسكندراني ناظر الخاص وناظر الجيوش وأستادار السلطان وكاتب السرّ وأحد أمراء الألوف الأكابر أسلم جدِ غراب وباشر بالإسكندرية حتى وليَ نظر الثغر ونشأ ابنه عبد الرزاق هناك فولي أيضًا نظر الإسكندرية وولد له ماجد وإبراهيم. فلما تحكم الأمير جمال الدين محمود بن علي في الأموال أيام الملك الظاهر برقوق اختص بإبراهيم وحمله إلى القاهرة وهو صبيّ واعتنى به واستكتبه في خاص أمواله حتى عرفها فتنكر محمود عليه لأمر بدا منه في ماله وهم به فبادر إلى الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ وترامى عليه وهو يومئذٍ قد نافس محمودًا فأوصله بالسلطان وأمكنه من سماع كلامه فملأ أذنه بذكر أموال محمود ووغر صدره عليه حتى نكبه واستصفى أمواله كما ذكر في خبره عند ذكر مدرسة محمود من هذا الكتاب وولي ابن غراب نظر الديوان المفرد في حادي عشر صفر سنة ثمان وتسعين وسبعمائة وعمره عشرون سنة أو نحوها وهي أوّل وظيفة وليها فاختص بابن الطبلاويّ ولازمه وملأ عينه بكثرة المال فتحدّث له في وظيفة نظر الخاص عوضًا عن سعد الدين أبي الفرج بن تاج الدين موسى فوليها في تاسع عشر ذي القعدة وغص بمكان ابن الطبلاويّ فعمل عليه عند السلطان حتى غيره عليه وولاه أمره فقبض عليه في داره وعلى سائر أسبابه في شعبان في سنة ثمانمائة ثم أضيف إليه نظر الجيوش عوضًا عن شرف الدين محمد الدمامينىّ في تاسع ذي القعدة سنة ثمانمائة فعفّ عن تناول الرسوم وأظهر من الفخر والحشمة والمكارم أمرًا كبيرًا وقدّر اللّه موت السلطان في شوّال سنة إحدى وثمانمائة بعدما جعله من جملة أوصيائه فباطن الأمير يشبك الخازندار على إزالة الأمير الكبير أيتمش القائم بدولة الناصر فرج بن برقوق وعمل لذلك أعمالًا حتى كانت الحرب بعد موت السلطان الملك الظاهر بين الأمير أيتمش وبين الأمير يشبك في ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانمائة التي انهزم فيها أيتمش وعدّة من الأمراء إلى الشام وتحكم الأمير يشبك فاستدعى عند ذلك ابن غراب أخاه فخر الدين ماجدًا من الإسكندرية وهو يلي نظرها إلى قلعة الجبل وفوضت إليه وزارة الملك الناصر فرج بن برقوق فقاما بسائر أمور الدولة إلى أن ولي الأمير يلبغا السالميّ الأستادارية فسلك معه عادته من المنافسة وسعى به عند الأمير يشبك حتى قبض عليه وتقلد وظيفة الأستادارية عوضًا عن السالميّ في رابع عشر رجب سنة ثلاث وثمانمائة مضافًا إلى نظر الخاص ونظر الجيوش فلم يغير زيّ الكتاب وصار له ديوان كدواوين الأمراء ودقت الطبول على بابه وخاطبه الناس وكاتبوه باِلأمير وسار في ذلك سيرة ملوكية من كثرة العطاء وزيادة الأسمطة والاتساع في الأمور والازدياد من المماليك والخيول والاستكثار من الخول والحواشي حتى لم يكن أحد يضاهيه في شيء من أحواله إلى أن تنازع الأميران حكم وسودون طاز مع الأمير يشبك فكان هو المتولي كبر تلك الحروب ثم إنه خرج من القاهرة مغاضبًا لأمراء الدولة وصار إلى ناحية تروجة يريد جمع العربان ومحاربة الدولة فلم يتم له ذلك. وعاد فدخل القاهرة على حين غفلة فنزل عند جمال الدين يوسف الأستادار فقام بإصلاح أمره مع الأمراء حتى حصل له الغرض فظهر واستولى على ما كان عليه إلى أن تنكرت رجال الدولة على الملك الناصر فرج فقام مع الأمير يشبك بحرب السلطان إلى أن انهزم الأمير يشبك بأصحابه إلى الشام فخرج معه في سنة تسمع وثمانمائة وأمده ومن معه بالأموال العظيمة حتى صاروا عند الأمير شيخ نائب الشام واستفز العساكر لقتال الملك الناصر وحرضهم على المسير إلى حربه وخرج من دمشق مع العساكر يريد القاهرة وكان من وقعة السعيدية ما كان على ما هو مذكور في خبر الملك الناصر عند ذكر الخانقاه الناصرية من هذا الكتاب فاختفى الأمير يشبك وطائفة من الأمراء بالقاهرة ولحق ابن غراب بالأمير اينال باي بن قجماس وهو يومئذِ أكبر الأمراء الناصرية وملأ عينه بالمال فتوسط له مع الملك الناصر حتى أمنه وأصبح في داره وجميع الناس على بابه ثم تقلد وظيفة نظر الجيوش واختص بالسلطان وما زال به حتى استرضاه على الأمير يشبك ومن معه من الأمراء وظهروا من الاستتار وصاروا بقلعة الجبل فخلع عليهم السلطان وأمرهم وصاروا إلى دورهم فثقل على ابن غراب مكان فتح الدين فتح الله كاتب السر فسعى به حتى قبض عليه ووليَ مكانه كتابة السرّ ليتمكن من أغراضه. فلما استقر في كتابة السر أخذ في نقض دولة الناصر إلى أن تم له مراده وصارت الدولة كلها على الناصر فخلا به وخيل له وحسنَ له الفرار فانقاد له وترامى عليه فأعدّ له رجلين أحدهما من مماليكه ومعهما فرَسَان ووقفا بهما وراء القلعة وخرج الناصر وقت القائلة ومعه مملوك من مماليكه يُقال له بيغوت وركبا الفرسين وسارا إلى ناحية طرا ثم عادا مع قاصدي ابن غراب في مركب من المراكب النيلية ليلًا إلى دار ابن غراب ونزلا عنده وقد خفي ذلك على جميع أهل الدولة وقام ابن غراب بتولية عبد العزيز بن برقوق وأجلسه على تخت الملك عشاءً ولقبه بالملك المنصور ودبر الدولة كما أحب مدّة سبعين يومًا إلى أن أحس من الأمراء بتغير فأخرج الناصر ليلًا وجمع عليه عدّة من الأمراء والمماليك وركب معه بلامة الحرب إلى القلعة فلم يلبث أصحاب المنصور وانهزموا ودخل الناصر إلى القلعة واستولى على المملكة ثانيًا فألقى مقاليد الدولة إلى ابن غراب وفوض إليه ما وراء سريره ونظمه في خاصته وجعله من أكابر الأمراء وناط به جميع الأمور فأصبح مولى نعمة كلّ من السلطان والأمراء يمنّ عليهم بأنه أبقى لهم مهجهم وأعاد إليهم سائر ما كانوا قد سُلبوه من ملكهم وأمدهم بماله وقت حاجتهم وفاقتهم إليه ويفخر ويتكثر بأنه أقام دولة وأزال دولة ثم أزال ما أقام وأقام ما أزال من غير حاجة ولا ضرورة ألجأته إلى شيء من ذلك وأنه لو شاء أخد الملك لنفسه وترك كتابه السر لغلامه وأحد كتابه فخر الدين بن المزوق ترفعًاعنها واحتقارًا بها ولبس هيئة الأمراء وهي الكلوتة والقباء وشدّ السيف في وسطه وتحول من داره التي على بركة الفيل إلى دار بعض الأمراء بحدرة البقر فغاضبه القضاة وكان عند الانتهاء الانحطاط ونزل به مرض الموت فنال في مرضه من السعادة ما لم يسمع بمثله لأحد من أبناء جنسه وصار الأمير يشبك ومن دونه من الأمراء يتردّدون إليه وأكثرهم إذا دخل عليه وقف قائمًا على قدميه حتى ينصرف إلى أن مات يوم الخميس تاسع عشر شهر رمضان سنة ثمان وثمانمائة ولم يبلغ ثلاثين سنة. وكانت جنازته أحد الأمور العجيبة بمصر لكثرة من شهدها من الأمراء والأعيان وسائر أرباب الوظائف بحيث استأجر الناس السقائف والحوانيت لمشاهدتها ونزل السلطان للصلاة عليه وصعد إلى القلعة فدفن خارج باب المحروق وكان من أحسن الناس شكلًا وأحلاهم منظرًا وأكرمهم يدًا مع تدين وتعفف عن القاذورات وبسط يد بالصدقات إلاّ أنه كان غدّارًا لا يتوانى عن طلب عدوّه ولا يرضى من نكبته بدون إتلاف النفس فكم ناطح كبشًا وتل عرشًا وعالج جبالًا شامخة واقتلع دولًا من أصولها الراسخة وهو أحد من قام بتخريب إقليم مصر فإنه ما زال يرفع سعر الذهب حتى بلغ كل دينار إلى مائتي درهم وخمسين درهمًا من الفلوس بعدما كان بنحو خمسة وعشرين درهمًا ففسدت بذلك معاملة الإقليم وقلت أمواله وغلت أسعار المبيعات وساءت أحوال الناس إلى أن زالت البهجة وانطوى بساط الرقة وكاد الإقليم يدمر كما ذكر ذلك عند ذكر الأسباب التي نشأ عنها خراب مصر من هذا الكتاب عفا اللّه عنه وسامحه فلقد قام بمواراة آلاف من الناس الذين هلكوا في زمان المحنة سنة ست وسنة سبع وثمانمائة وتكفينهم فلم ينس الله له ذلك وستره كما ستر المسلمين وما كان ربك نسيًا. الخانقاه البندقدارية هذا الخانقاه بالقرب من الصليبة كان موضعها يُعرف قديمًا بدويرة مسعود وهي الآن تجاه المدرسة الفارقانية وحمّام الفارقاني. أنشأها الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ الصالحيّ النجمي وجعلها مسجدًا لله تعالى وخانقاه ورتب فيها صوفية وقرّاء في سنة ثلاث وثمانين وستمائة وفي سنة ثمان وأربعين وستمائة استنابه الملك المعز أيبك فواظب الجلوس بالمدارس الصالحية مع نوّاب دار العدل وإلى أيدكين هذا ينسب الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ لأنه كان أولًا مملوكه ثم انتقل منه إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب فعُرف بين المماليك البحرية بيبرس البندقداريّ وعاش أيدكين إلى أن صار بيبرس سلطان مصر وولاه نيابة السلطنة بحلب في سنة تسع وخمسين وستمائة وكان الغلاء بها شديدًا فلم تطل أيامه وفارقها بدمشق بعد محاربة سنقر الأشقر والقبض عليه في حادي عشرصفر سنة تسع وخمسين وستمائة فأقام في النيابة نحو شهر وصرفه الأمير علاء الدين طيبرس الوزيريّ. فلما خرج السطان إلى الشام في سنة إحدى وستين وستمائة وأقام بالطور أعطاه أمرة بمصر وطبلخاناه في ربيع الآخر منها ومات في ربيع الآخر سنة أربع وثمانين وستمائة ودفن بقبة هذه الخانقاه. خانقاه شيخو هذه الخانقاه في خط الصليبة خارج القاهرة تجاه جامع شيخو أنشأها الأمير الكبير سيف الدين شيخو العمريّ في سنة ست وخمسين وسبعمائة كان موضعها من جملة قطائع أحمد بن طولون وآخر ما عُرف من خبره أنه كان مساكن للناس فاشتراها الأمير شيخو من أربابها وهدمها في المحرّم من هذه السنة فكانت مساحة أرضها زيادة على فدّان فاختط فيها الخانقاه وحمامين وعدّة حوانيت يعلوها بيوت لسكنى العامّة ورتب بها دروسًا عدّة منها أربعة دروس لطوائف الفقهاء الأربعة وهم الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة ودرسًا للحديث النبويّ ودرسًا لإقراء القرآن بالروايات السبع وجعل لكلّ درس مدرّساَ وعنده جماعة من الطلبة وشرط عليهم حضور الدرس وحضور وظيفة التصوّف وأقام شيخنا أكمل الدين محمد بن محمود في مشيخة الخانقاه ومدرّس الحنفية وجعل إليه النظر في أوقاف الخانقاه وقرّر في تدريس الشافعية الشيخ بهاء الدين أحمد بن عليّ السبكيّ وفي تدريس المالكية الشيخ خليلًا وهو متجند الشكل وله إقطاع في الحلقة. وفي تدريس الحنابلة قاضي القضاة موفق الدين الحنبلي ورتب لكل من الطلبة في اليوم الطعام واللحم والخبز وفي الشهر الحلوى والزيت والصابون ووقف عليها الأوقاف الجليلة فعظم قدرها واشتهر في الأقطار ذكرها وتخرّج بها كثير من أهل العلم وأربت في العمارة على كل وقف بديارمصر إلى أن مات الشيخ أكمل الدين في شهر رمضان سنة ست وثمانين وسبعمائة فوليها من بعده جماعة ولما حدثت المحن كان بها مبلغ كبير من المال الذي فاض عن مصروفها فأخذه الملك الناصر فرج وأخذت أحوالها تتناقص حتى صار المعلوم يتأخر صرفه لأرباب الوظائف بها عدّة أشهر وهي إلى اليوم على ذلك.
علم الدين سنجر الجاوليّ في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة وقد تقدّم ذكرها في المدارس. خانقاه الجيبغا المظفري هذه الخانقاه خارج باب النصر فيما بين قبة النصر وتربة عثمان بن جوشن السعوديّ أنشأها الأمير سيف الدين الجيبغا المظفري وكان بها عدة من الفقراء يقيمون بها ولهم فيهاشيخ ويحضرون في كل يوم وظيفة التصوّف ولهم الطعام والخبز وكان بجانبها حوض ماء لشرب الدواب وسقّاية بها الماء العذب لشرب الناس وكُتّاب يقرأ فيه أطفال المسلمين الأيتام كتاب الله تعالى ويتعلمون الخط ولهم في كلّ يوم الخبز وغيره وما برحت على ذلك إلى أن أخرج الأمير برقوق أوقافها فتعطلت وأقام بها جماعة من الناس مدة ثم تلاشى أمرها وهي الآن باقية من غير أن يكون فيها سكان وقد تعطل حوضها وبطل مكتب السبيل. الجيبغا المظفريّ: الخاصكي تقدّم في أيام الملك المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد بن قلاوون تقدّمًا كثيرًا بحيث لم يشاركه أحد في رتبته. فلما قام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في السلطنة أقرّه على رتبته وصار أحد أمراء المشورة الذين يصدر عنهم الأمر والنهي فلما اختلف أمراء الدولة أخرج إلى دمشق في ربيع الأوّل سنة تسع وأربعين وسبعمائة وأقام بدمشق إلى شعبان وسار إلى نيابة طرابلس عوضًا عن الأمير بدر الدين مسعود بن الخطيريّ فلم يزل على نيابتها إلى شهر ربيع الأوّل سنة خمسين وسبعمائة فكتب إلى الأمير أرغون شاه نائب دمشق يستأذنه في التصيد إلى الناعم فأذن له وسار من طرابلس وأقام على بحيرة حمص أيامًا يتصيد ثم ركب ليلًا بمن معه وساق إلى خان لاجين ظاهر دمشق فوصله أول النهار وأقام به يومه ثم ركب منه بمن معه ليلًا وطرق أرغون شاه وهو بالقصر الأبلق وقبض عليه وقيده في ليلة الخميس ثالث عشري شهر ربيع الأول وأصبح وهو بسوق الخيل فاستدعى الأمراء وأخرج لهم كتاب السلطان بإمساك أرغون شاه فأذعنوا له واستولى على أموال أرغون شاه. فلما كان يوم الجمعة رابع عشريه أصبح أرغون شاه مذبوحًا فأشاع الجيبغا أن أرغون شاه ذبح نفسه وفي يوم الثلاثاء أنكر الأمراء أمره وثاروا لحربه فركب وقاتلهم وانتصر عليهم وقتل جماعة منهم وأخذ الأموال وخرج من دمشق وسار إلى طرابلس فأقام بها وورد الخبر من مصر إلى دمشق بإنكار كل ما وقع والاجتهاد في مسك الجيبغا فخرجت عساكر الشام إليه ففرّ من طرابلس فأدركه عسكر طرابلس عند بيروت وحاربوه حتى قبضوا عليه وحُمل إلى عسكر دمشق فقيد وسُجن بقلعة دمشق في ليلة السبت سادس عشر ربيع الآخر هو وفخر الدين إياس ثم وسط بمرسوم السلطان تحت قلعة دمشق بحضور عساكر دمشق ووسط معه الأمير فخر الدين إياس وعلقا على الخشب في ثامن عشر ربيع الآخر سنة خمسين وسبعمائة وعمره دون العشرين سنة فما طرّ شاربه وكأنه البدر حسنًا والغصن اعتدالًا. خانقاه سرياقوس هذه الخانقاه خارج القاهرة من شماليها على نحو بريد منها بأوّل تيه بني إسرائيل بسماسم سرياقوس أنشأها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون وذلك أنه لما بنى الميدان والأحواش في بركة الجبّ كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر بركة الجب اتفق أنه ركب على عادته للصيد هناك فأخذه ألم عظيم في جوفه كاد يأتي عليه وهو يتجلد ويكتم ما به حتى عجز فنزل عن الفرس والألم يتزايد به فنذر لله إن عافاه الله ليبنين في هذا الموضع موضعًا يعبد الله تعالى فيه فخف عنه ما يجده وركب فقضى نهمته من الصيد وعاد إلى قلعة الجبل فلزم الفراش مدّة أيام ثم عوفي فركب بنفسه ومعه عدّة من المهندسين واختط على قدر ميل من ناحية سرياقوس هذه الخانقاه وجعل فيها مائة خلوة لمائة صوفيّ وبنى بجانبها مسجدًا تقام به الجمعة وبنى بها حمّامًا ومطبخًا وكان ذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة. فلما كانت سنة خمس وعشرين وسبعمائة كَمَل ما أراد من بنائها وخرج إليها بنفسه ومعه الأمراء والقضاة ومشايخ الخوانك ومدّت هناك أسمطة عظيمة بداخل الخانقاه في يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة وتصدّر قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعيّ لإسماع الحديث النبوي وقرأ عليه ابنه عز الدين عبد العزيز عشرين حديثًا تساعيًا وسمع السلطان ذلك وكان جمعًا موفورًا وأجاز قاضي القضاة الملك الناصر ومن حضر برواية ذلك. وجميع ما يجوز له روايته وعندما انقضى مجلس السماع قرّر السلطان في مشيخة هذه الخانكاه الشيخ مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصراي ولقّبه بشيخ الشيوخ فصار يقال له ذلك ولكل من ولي بعده وكان قبل ذلك لا يُلقب بشيخ الشيوخ إلاّ شيخ خانقاه سعيد السعداء وأحضرت التشاريف السلطانية فخُلع على قاضي القضاة بدر الدين وعلى ولده عز الدين وعلى قاضي القضاة المالكية وعلى الشيخ مجد الدين أبي حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصراي شيخ الشيوخ وعلى الشيخ علاء الدين القونويّ شيخ خاقناه سعيد السعداء وعلى الشيخ قوام الدين أبي محمد عبد المجيد بن أسعد بن محمد الشيرازيّ شيخ الصوفية بالجامع الجديد الناصريّ خارج مدينة مصر وعلى جماعة كثيرة. وخلع على سائر الأمراء وأرباب الوظائف وفرّق بها ستين ألف درهم فضة وعاد إلى قلعة الجبل فرغب الناس في السكنى حول هذه الخانقاه وبنو الدور والحوانيت والخانات حتى صارت بلدة كبيرة تعرف بخانقاه سرياقوس وتزايد الناس بها حتى أنشيء فيها سوى حمّام الخانقاه عدّة حمّامات وهي إلى اليوم بلدة عامرة ولا يؤخذ بها مكس البتة مما يباع من سائر الأصناف احترامًا لمكان الخانقاه ويُعمل هناك في يوم الجمعة سوق عظيم ترد الناس إليه من الأماكن البعيدة يباع فيه الخيل والجمال والحمير والبقر والغنم والدجاج والأوز وأصناف الغلات وأنواع الثياب وغير ذلك وكانت معاليم هذه الخانكاه من أسنى معلوم بديار مصر يُصرف لكل صوفيّ في اليوم من لحم الضأن السليج رطل قد طبخ في طعم شهيّ ومن الخبز النقيّ أربعة أرطال ويصرف له في كل شهر مبلغ أربعين درهمًا فضة عنها ديناران ورطل حلوى ورطلان زيتًامن زيت الزيتون ومثل ذلك من الصابون ويُصرف له ثمن كسوة في كلّ سنة وتوسعة في كل شهر رمضان وفي العيدين وفي مواسم رجب وشعبان وعاشوراء وكلما قدمت فاكهة يُصرف له مبلغ لشرائها وبالخانقاه خزانة بها السكّر والأشربة والأدوية وبها الطبائعيّ والجرائحيّ والكحال ومصلح الشعر وفي كلّ رمضان يُفرق على الصوفية كيزان لشرب الماء وتُبيَّضُ لهم قدورهم النحاس ويعطون حتى الأسنان لغسل الأيدي من وضر اللحم يُصرف ذلك من الوقف لكل منهم وبالحمّام الحلاق لتدليك أبدانهم وحلق رؤوسهم فكان المنقطع بها لا يحتاج إلى شيء غيرها ويتفرّغ للعبادة ثم استجدّ بعد سنة تسعين وسبعمائة بها حمّام أخرى برسم النساء وما برحت على ما ذكرنا إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة فبطل الطعام وصار يصرف لهم في ثمنه مبلغ من نقد مصر وهي الآن على ذلك وأدرَكتُ من صوفيتها شخصًا شيخًا يُعرف بأبي طاهر ينام أربعين يومًا بلياليها لا يستيقظ فيها البتة ثم يستيقظ أربعين يومًا لا ينام في ليلها ولا نهارها أقام على ذلك عدّة أعوام وخبره مشهور عند أهل الخانقاه وأخبرني أنه لم يكن في النوم إلاكغيره من الناس ثم كثر نومه حتى بلغ ما تقدم ذكره ومات بهذه الخانقاه في نحو سنة ثمانمائة ومما قيل في الخانقاه وما أنشأه السلطان بها: سِر نحوَ سرياقوسَ وانزِلْ بفنا أرجاءها يا ذا النهي والرشدِ. تلقَ محلًا للسرورِ والهنا فيه مقام للتقي والزهدِ. نسيمُهُ يقولُ في مسيرِه تنبهي يا عذباتُ الرندِ. وروضهُ الريانَ من خليجِهِ يقولُ دع ذكر أراضي نجدِ. خانقاه أرسلان هذه الخانقاه فيما بين القاهرة ومصر من جملة أراضي منشأة المهرانيّ أنشأها الأميربهاء الدين أرسلان الدوادار. أرسلان: الأمير بهاء الدين الدوادار الناصريّ كان أولًا عند الأمير سلار أيام نيابته مصر خصيصًا به حظيًا عنده. فلما قدم الملك الناصر محمد بن قلاون من الكرك بعساكر الشام ونزل بالريدانية ظاهرالقاهرة في شهر رمضان سنة تسع وسبعمائة أطلع أرسلان على أن جماعة قد اتفقوا على أن يهجموا على السلطان ويفتكوا به يوم العيد أوّل شوّال فجاء إليه وعرّفه الحال وقال له: اخرج الساعة واطلع القلعة واملكها. فقام السلطان وفتح باب سر الدهليز وخرج من غير الباب وصعد قلعة الجبل وجلس على سرير الملك فرعىالسلطان له هذه المناصحة ولما أخرج الأمير عز الدين أيدمر الدوادار من وظيفته رتب أرسلان في الدوادارية وكان يكتب خطًا مليحًا ودربه القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر وخرّجه وهذبه فصار يكتب بخطه إلى كتاب السرّ عن السلطان في المهمات بعبارة مسدّدة وافية بالمقصود واستولى على السلطان بحيث لم يكن لغيره في أيامه ذكر ولم يشتهر فخر الدين وكريم الدين بعظمة إلا بعده واجتهدا في إبعاده فما قدرا على ذلك وفي أيام توليته الدوادارية السلطانية أنشأ هذه الخانكاه على شاطيء النيل وكان ينزل في كل ليلة ثلاثاء إليها من القلعة ويبيت بها ويحتفل الناس للحضور إليها ويرسل عن السلطان إلى مهنا أمير العرب ونفع الناس نفعًا كبيرًا وقلدهم مننًا جسيمة ومات في ثالث عشري شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبعمائة فوجد في تركته ألف ثوب أطلس ونفائس كثيرة وعدّة تواقيع ومناشير معلمة فأنكر السلطان معرفتها ونسب إليه اختلاسها وأوّل من ولي مشيختها تقيّ الدين أبو البقاء محمدبن جعفربن محمدبن عبد الرحيم الشريف الحسينيّ القناءي الشافعيّ جدّ الشيخ عبد الرحيم القناءيّ الصالح المشهور وأبوه ضياء الدين جعفر كان فقيهًا شافعيًا وكان أبو البقاء هذا عالمًا عارفًا زاهدًا قليل التكلف متقللًا من الدنيا سمع الحديث وأسمعه وولد في سنة خمس وأربعين وستمائة ومات ليلة الإثنين رابع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ودفن بالقرافة فتداول مشيختها القضاة الأخنائية إلى أن كانت آخرًا بيد شيخنا قاضي القضاة صدر الدين عبد الوهاب بن أحمد الأخنائيّ. فلما مات في سنة تسع وثمانين وسبعمائة تلقاها عنه عز الدين بن الصاحب ثم وليها من بعده ابنه شمس الدين محمد بن الصاحب رحمه الله. هذه الخانقاه بطرف القرافة في سفح الجبل مما يلي بركة الحبش أنشأها الأمير بكتمر الساقي وابتدأ الحضور بها في يوم الثلاثاء ثامن شهر رجب سنة ست وعشرين وسبعمائة وأول من استقر في مشيختها الشمسيّ شمس الدين الروميّ ورتب له عن معلوم المشيخة في كل شهر مائة درهم وعن معلوم الإمامة مبلغ خمسين درهمًا ورتب معه عشرين صوفيًا لكل منهم في الشهر مبلغ ثلاثين درهمًا فجاءت من أجلّ ما بني بمصر ورتب بها صوفية وقرّاء وقرّر لهم الطعام والخبز في كل يوم والدراهم والحلوى والزيت والصابون في كل شهر وبنى بجانبها حمّامًا وأنشأ هناك بستانًا فعمرت تلك الخطة وصار بها سوق كبير وعدّة سكان وتنافس الناس في مشيختها إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة فبطل الطعام والخبز منها وانتقل السكان منها إلى القاهرة وغيرها وخربت الحمام والبستان وصار يُصرف لأرباب وظائفها مبلغ من نقد مصر وأقام فيها رجل يحرسها وتمزق ما كان فيها من الفرش والآلات النحاس والكتب والربعات والقناديل النحاس المكفت والقناديل الزجاج المذهب وغير ذلك من الأمتعة والنفائس الملوكية وخرب ما حولها لخلوّه من السكان. بكتمر الساقي: الأمير سيف الدين كان أحد مماليك الملك المظفر بيبرس الجاشنكير فلما استقرّ الملك الناصر محمد بن قلاون في المملكة بعد بيبرس أخذه في جملة من أخذ من مماليك بيبرس ورقاه حتى صار أحد الأمراء الأكابر وكتب إلى الأمير تنكز نائب السلطنة بدمشق بعد أن قبض على الأمير سيف الدين طغاي الكبير يقول له: هذا بكتمر الساقي يكون لك بدلًا من طغاي اكتب إليه بما تريد من حوائجك فعظم بكتمر وعلا محله وطار ذكره وكان السلطان لا يفارقه ليلًا ولا نهارًا إلاّ إذا كان في الدور السلطانية ثم زوّجه بجاريته وحظيته فولدت لبكتمر ابنه أحمد وصار السلطان لا يأكل إلاّ في بيت بكتمر مما تطبخه له أمّ أحمد في قدر من فضة وينام عندهم ويقوم واعتقد الناس أن أحمد ولد السلطان لكثرة ما يطيل حمله وتقبيله ولما شاع ذكر بكتمر وتسامع الناس به قدموا إليه غرائب كل شيء وأهدوا إليه كل نفيس وكان السلطان إذا حمل إليه أحد من النوّاب تقدمة لا بدّ أن يقدم لبكتمر مثلها أو قريبًا منها والذي يصل إلى السلطان يهب له غالبه فكثرت أمواله وصارت إشارته لا تردّ وهو عبارة عن الدولة وإذا ركب كان بين يديه مائتا عصا نقيب وعمر له السلطان القصر على بركة الفيل. ولما مات بطريق الحجاز في سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة خلف من الأموال والقماش والأمتعة والأصناف والزردخاناه ما يزيد على العادة والحدّ ويستحي العاقل من ذكره فأخذ السلطان من خيله أربعين فرسًا وقال: هذه لي ما وهبته إياها وبيع الباقي من الخيل على ما أخذه الخاصكية بثمن بخس بمبلغ ألف ألف درهم فضة ومائتي ألف درهم وثمانين ألف درهم فضة خارجًا عما في الجشارات وأنعم السلطان بالزردخاناه والسلاحخاناه التي له على الأمير قوصون بعدما أخذ منها سرجًا واحدًا وسيفًا القيمة عن ذلك ستمائة ألف دينار وأخذ له السلطان ثلاثة صناديق جوهرًامثمنًا لا تعلم قيمة ذلك وبيع له من الصيني والكتب والختم والربعات ونسخ البخاريّ والدوايات الفولاذ والمطعمة والبصم بسقط الذهب وغير ذلك ومن الوبر والأطلس وأنواع القماش السكندريّ والبغداديّ وغير ذلك شيء كثير إلى الغاية المفرطة ودام البيع لذلك مدّة شهور. وامتنع القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص من حضور البيع واستعفى من ذلك فقيل له لأيِّ شيء فعلت ذلك قال: ما أقدر أصبر على غبن ذلك لأن المائة درهم تباع بدرهم. ولما خرج مع السلطان إلى الحجاز خرج بتجمل زائد وحشمة عظيمة وهو ساقة الناس كلهم وكان ثقله وجماله نظير ما للسلطان ولكن يزيد عليه بالزركش وآلات الذهب ووجد في خزانته بطريق الحجاز بعد موته خمسمائة تشريف منها ما هو أطلس بطرز زركش وما دون ذلك من خلع أرباب السيوف وأرباب أقلام ووجد معه قيود وجنازير وتنكر السلطان له في طريق الحجاز واستوحش كلّ منهما من صاحبه فاتفق أنهم في العود مرض ولده أحمد ومرض من بعده فمات ابنه قبله بثلاثة أيام فحمل في تابوت مغشي بجلد جمل ولما مات بكتمر دفن مع ولده بنخل وحث السلطان في المسير وكان لا ينام في تلك السفرة إلا في برج خشب وبكتمر عنده وقوصون على الباب والأمراء المشايخ كلهم حول البرج بسيوفهم فلما مات بكتمر ترك السلطان ذلك فعلم الناس أن احترازه كان خوفًا من بكتمر. ويقال أن السلطان دخل عليه وهو مريض في درب الحجاز فقال له: بيني وبينك الله. فقال له: كل من فعل شيئًا يلتقيه. ولما مات صرخت زوجته أم ابنه أحمد وبكت وأعولت إلى أن سمعها الناس تتكلم بالقبيح في حق السلطان من جملته: أنت تقتل مملوكك أنا ابني ايش كان فقال لها: بس تفشرين هاتي مفاتيح صناديقه فأنا أعرف كل شيء أعطيته من الجواهر. فرمت بالمفاتيح إليه فأخذها ولما وصل السلطان إلى قلعة الجبل أظهر الحزن والندامة عليه وأعطى أخاه قماري أمرة مائة وتقدمة ألف وكان يقول ما بقي يجيئنا مثل بكتمر وأمر فحُملت جثته وجثة ابنه إلى خانقاهه هذه ودفنتا بقبتها وبدت من السلطان أمور منكرة بعد موت بكتمر فإنه كان يحجر على السلطان ويمنعه من مظالم كثيرة وكان يتلطف بالناس ويقضي حوائجهم ويسوسهم أحسن سياسة ولا يخالفه السلطان في شيء ومع ذلك فلم يكن له حماية ولا رعاية ولا لغلمانه ذكر ومن المغرب يغلق باب إصطبله وكان ممّا له على السلطان من المرتب في كل يوم مخفيتان يأخذ عنهما من بيت المال كل يوم سبعمائة درهم عن كل مخفية ثلاثمائة وخمسين درهمًا وكان السلطان إذا أنعم على أحد بشيء أو ولاّه وظيفة قال له: روح إلى الأمير بكتمر وبوس يده وكان جيد خانقاه قوصون هذه الخانقاه في شماليّ القرافة مما يلي قلعة الجبل تجاه جامع قوصون أنشأها الأمير سيف الدين قوصون وكملت عمارتها في سنة ست وثلاثين وسبعمائة وقرّر في مشيختها الشيخ شمس الدين أبا الثناء محمود بن أبي القاسم أحمد الأصفهانيّ ورتب له معلومًا سنيًا من الدراهم والخبز واللحم والصابون والزيت وسائر ما يحتاج إليه حتى جامكية غلام بغلته واستقرّ ذلك في الوقف من بعده لكل من ولي المشيخة بها وقرّر بها جماعة كثيرة من الصوفية ورتب لهم الطعام واللحم والخبز في كل يوم وفي الشهر المعلوم من الدراهم ومن الحلوى والزيت والصابون وما زالت على ذلك إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة فبطل الطعام والخبز منها وصار يُصرف لمستحقيها مال من نقد مصر وتلاشى أمرها من بعد ما كانت من أعظم جهات البرّ وكثرها نفعًا وخيرًا وقد تقدّم ذكر قوصون عند ذكر جامعه من هذا الكتاب. خانقاه طغاي النجميّ هذه الخانقاه بالصحراء خارج باب البرقية فيما بين قلعة الجبل وقبة النصر أنشأها الأمير طغاي تمر النجمي فجاءت من المباني الجليلة ورتب بها عدّة من الصوفية وجعل شيخهم الشيخ برهان الدين الرشيدي وبنى بجانبها حمّامًا وكرس في قبليها بستانًا وعمل بجانب الحمّام حوض ماء للسبيل ترده الدواب ووقف على ذلك عدّة أوقاف ثم إن الحمّام والحوض تعطلا مدّة. فلما ماتت أرزباي زوجة القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السرّ في سنة ثمان وثمانمائة دفنها خارج باب النصر وأحبّ أن يبنى على قبرها ويوقف عليها أوقافًا ثم بدا له فنقلها إلى هذه الخانقاه ودفنها بالقبة التي فيها وأدار الساقية وملأ الحوض ورتب لقرّاء هذه الخانقاه معلومًا وعزم على تجديد ما تشعث من بنائها وإدارة حمامها ثم بدا له فأنشأ بجانب هذه الخانقاه تربة ونقل زوجته مرة ثالثة إليها وجعل أملاكه وقفًا على تربته. طغاي تمر النجميّ: كان دوادار الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاون فلما مات الصالح استقرّ على حاله في أيام أخويه الملك الكامل شعبان والملك المظفر حاجي وكان من أحسن الأشكال وأبدع الوجوه تقدّم في الدول وصارت له وجاهة عظيمة وخدمه الناس ولم يزل على حاله إلى أن لعب به أغرلوا فيمن لعب وأخرجه إلى الشام وألحقه بمن أخذه من غزة وذلك في أوائل جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة وطغاي هذا أوّل دوادار أخذ أمرة مائة وتقدمة ألف وذلك في أوّل دولة المظفر حاجي ولما كانت واقعة الأمير ملكتمر الحجازيّ والأمير آق سنقر وعدّة من الأمراء في تاسع عشر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبعمائة رمى طغاي تمر سيفه وبقي بغير سيف بعض يوم ثم إن المظفر أعطاه سيفه واستمر في الدوادارية نحو شهر وأخرج هو والأمير نجم الدين محمود الوزير والأمير سيف الدين بيدمر البدريّ على الهجن إلى الشام فأدركهم الأمير سيف الدين منجك وقتلهم في الطريق. خانقاه أمّ أنوك هذه الخانقاه خارج باب البرقية بالصحراء التي أنشأتها الخاتون طغاي تجاه تربة الأمير طاشتمر الساقي فجاءت من أجلّ المباني وجعلت بها صوفية وقرّاء ووقفت عليها الأوقاف الكثيرة وقرّرت لكل جارية من جواريها مرتبًا يقوم بها. طغاي الخوندة الكبرى: زوجة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون وأمّ ابنه الأمير أنوك كانت من جملة إمائه فأعتقها وتزوّجها ويقال أنها أخت الأمير أقبغا عبد الواحد وكانت بديعة الحسن باهرة الجمال رأت من السعادة ما لم يره غيرها من نساء الملوك الترك بمصر وتنعمت في ملاذ ما وصل سواها لمثلها ولم يدم السلطان على محبة امرأة سواها وصارت خونده بعد ابنه توكاي وأكبر نسائه حتى من ابنة الأمير تنكز. وحج بها القاضي كريم الدين واحتفل بأمرها وحمل لها البقول في محاير طين على ظهور الجمال وأخذ لها الأبقار الحلابة فسارت معها طول الطريق لأجل اللبن الطريّ وعمل الجبن وكان يقلي لها الجبن في الغداء والعشاء وناهيك بمن وصل إلى مداومة البقل والجبن في كل يوم وهما أخس ما يؤكل فما عساه يكون بعد ذلك. وكان القاضي كريم الدين والأمير مجلس وعدة من الأمراء يترجلون عند النزول ويمشون بين يدي محفتها ويقبلون الأرض لها كما يفعلون بالسلطان ثم حج بها الأمير بشتاك في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وكان الأمير تنكز إذا جهز من دمشق تقدمة إلى السلطان لا بدّ أن يكون لخوند طغاي منها جزء وافر فلما مات السلطان الملك الناصر استمرّت عظمتها من بعده إلى أن ماتت في شهر شوّال سنة تسع وأربعين وسبعمائة أيام الوباء عن ألف جارية وثمانين خادمًا خصيًا وأموال كثيرة جدًّا وكانت عفيفة طاهرة كثيرة الخير والصدقات والمعروف جهزت سائر جواريها وجعلت على قبر ابنها بقبة المدرسة الناصرية بين القصرين قرّاء ووقفت على ذلك وقفًا وجعلت من جملته خبزاَ يُفرّق على الفقراء ودفنت بهذه الخانقاه وهي من أعمر الأماكن إلى يومنا هذا. خانقاه يونس هذه الخانقاه من جملة ميدان القبق بالقرب من قبة النصر خارج باب النصر أدركْتُ موضعها وبه عواميد تُعرف بعواميد السباق وهي أوّل مكان بني هناك أنشأها الأمير يونس النوروزيّ الدوادار كان من مماليك الأمير سيف الدين جرجي الإدريسيّ أحد الأمراء الناصرية وأحد عتقائه فترقى في الخدم من آخر أيام الملك الناصر محمد بن قلاون إلى أن صار من جملة الطائفة اليلبغاوية فلما قُتل الأمير يلبغا الخاصكيّ خدم بعده الأمير استدمر الناصريّ الأتابك وصار من جملة دواداريته وما زال يتنقل في الخدم إلى أن قام الأمير برقوق بعد قتل الملك الأشرف شعبان فكان ممن أعانه وقاتل معه فرعى له ذلك ورقّاه إلى أن جعله أمير مائة مقدّم ألف وجعله دواداره لما تسلطن فسلك في رياسته طريقة جليلة ولزم حالة جميلة من كثر الصيام والصلاة وإقامة الناموس الملوكيّ وشدّة المهابة والإعراض عن اللعب ومداومة العبوس وطول الجلوس وقوّة البطش لسرعة غضبه ومحبة الفقراء وحضور السماع والشغف به وإكرام الفقهاء وأهل العلم. وأنشأ بالقاهرة ربعاَ وقيسارية بخط البندقانيين وتربة خارج باب الوزير تحت القلعة وأنشأ بظاهر دمشق مدرسة بالشرف الأعلى وأنشأ خانًا عظيمًا خارج مدينة غزة وجعل بجانب هذه الخانقاه مكتبًا يقرأ فيه أيتام المسلمين كتاب الله تعالى وبنى بها صهريجًا ينقل إليه ماء النيل وما زال على وفور حرمته ونفوذ كلمته إلى أن خرج الأمير يلبغا الناصريّ نائب حلب على الملك الظاهر برقوق في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وجهز السلطان الأمير أيتمش والأمير يونس هذا والأمير جهاركس الخليليّ وعدة من الأمراء والمماليك لقتاله فلقوه بدمشق وقاتلوه فهزمهم وقتل الخليليّ وفرّ إيتمش إلى دمشق ونجا يونس بنفسه يريد مصر فأخذه الأمير عيفا بن شطي أمير الأمراء وقتله يوم الثلاثاء ثاني عشري شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ولم يُعرف له قبر بعدما أعدّ لنفسه عدّة مدافن في غير ما مدينة من مصر والشام. خانقاه طيبرس هذه الخانقاه من جملة أراضي بستان الخشاب فيما بين القاهرة ومصر على شاطئ النيل أنشأها الأمير علاء الدين طيبرس الخازندار نقيب الجيوش في سنة سبع وسبعمائة بجوار جامعه المقدّم ذكره عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب. وقرّر بها عدّة من الصوفية وجعل لهم شيخًا وأجرى لهم المعاليم ولم تزل عامرة إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة فابتاع شخص الوكالة والربعين المعروفين بربع بكتمر والحمامين ونقض ذلك فخرب الخط وصار مخوفًا. فلما كان في سنة أربع عشرة وثمانمائة نقل الحضور من هذه الخانقاه إلى المدرسة الطيبرسية خانقاه أقبغا هذه الخانقاه هي موضع من المدرسة الأقبغاوية بجوار الجامع الأزهر أفرده الأمير أقبغا عبد الواحد وجعل فيه طائفة يحضرون وظيفة التصوّف وأقام لهم شيخًا وأفرد لهم وقفًا يختص بهم وهي باقية إلى يومنا هذا وله أيضاَ خانقاه بالقرافة.
هذه الخانقاه بساحل الجيزة تجاه المقياس كانت منظرة من أعظم الدور وأحسنها أنشأها زكيّ الدين أبو بكر بن عليّ الخرّوبيّ كبير التجار ثم توارثها من بعده أولاد الخرّوبيّ التجار بمصر فلم تزل بأيديهم إلى أن نزلها السلطان المؤيد شيخ في يوم الاثنين ثاني عشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة وأقام بها فاقتضى رأيه أن يجعلها خانقاه فاستدعى بابن الخرّوبيّ ليشتريها منه فتبرّع بما يخصه منها وصار إليه باقيها فتقدّم إلى الأمير سيف الدين أبي بكر بن المسروق الاستادار بعملها خانقاه وسار منها في يوم الأربعاء سادس عشرة فأخذ الأمير أبو بكر في عملها حتى كملت في آخر السنة واستقرّ في مشيختها شمس الدين محمد بن الحمتي الدمشقيّ الحنبليّ وخلع عليه يوم السبت سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة ورتب له في كل يوم عشرة مؤيدية عنها مبلغ سبعين درهمًا فلوسًا سوى الخبز والسكن وقرر عنده عشرة من الفقراء لكل منهم مع الخبز مؤيديّ في كل يوم فجاءت من أحسن شيء. الربط الربط جمع رباط وهو دار يسكنها أهل طريق اللّه. قال ابن سيده: الرباط من الخيل الخمس فما فوقها. والرباط والمرابطة ملازمة ثغر العدوّ وأصله أن يربط كل واحد من الفريقين خيله ثم صار لزوم الثغر رباطًا. وربما سُميت الخيل نفسها رباطًا والرِباط والرَباط المواظبة على الأمر. قال الفارسيّ هو ثان من لزوم الثغر ولزوم الثغر ثان من رباط الخيل وقوله تعالى: " وقال أبو حفص السهرورديّ في كتاب عوارف المعارف: وأصل الرباط ما تُربط فيه الخيول ثم قيل لكل ثغر يدفع أهله عمن وراءهم رباط فالمجاهد المرابط يدفع عمن وراءه والمقيم في الرباط على طاعة اللّه يدفع بدعائه البلاء عن العباد والبلاد. وروى داود بن صالح قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي هل تدري في أيّ شيء نزلت هذه الآية: " قال: يا ابن أخي لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم! غزو تربط فيه الخيل ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة فالرباط جهاد النفس والمقيم في الرباط مرابط مجاهد نفسه واجتماع أهل الربط إذ صح على الوجه الموضوع له الربط وتحقق أهل الربط بحسن المعاملة ورعاية الأوقات وتوقي ما يفسد الأعمال ويصحح الأحوال عادت البركة على البلاد والعباد وشرائط سكان الرباط قطع المعاملة مع الخلق وفتح المعاملة مع الحق وترك الإكتساب إكتفاء بكفالة مسبب الأسباب وحبس النفس عن المخالطات واجتناب التبغات ومواصلة الليل والنهار بالعبادة متعوّضًا بها عن كل عادة والاشتغال بحفظ الأوقات وملازمة الأوراد وانتظار الصلوات واجتناب الغفلات ليكون بذلك مرابطًا مجاهدًا. والرباط هو بيت الصوفية ومنزلهم ولكل قوم دار والرباط دارهم وقد شابهوا أهل الصفة في ذلك فالقوم في الرباط مرابطون متفقون على قصد واحد وعزم واحد وأحوال متناسبة ووضع الرباط لهذا المعنى. قال مؤلفه رحمه الله: ولاتخاذ الربط والزوايا أصل من البشة وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ لفقراء الصحابة الذين لا يأوون إلى أهل ولا مال مكانًا من مسجده كانوا يقيمون به عَرفوا بأهل الصفة. رباط الصاحب هذا الرباط مطل على بركة الحبش أنشأه الصاحب فخر الدين أبو عبد الله محمد بن الوزير الصاحب بهاء الدين أبي الحسن عليّ بن محمد بن سليم بن حنا ووقف عليه أبوه الصاحب بهاء الدين بعد موته عقارًا بمدينة مصر وشرط أن يسكنه عشرة من الفقراء المجرّدين غير المتأهلين وذلك في ذي الحجة سنة ثمان وستين وستمائة وهو باق إِلى يومنا هذا وليس فيه أحد ويستأدي ريع وقفه من لا يقوم بمصالحه. رباط الفخري هذا الرباط خارج باب الفتوح فيما بينه وبين النصر بناه الأمير عز الدين أيبك الفخريّ أحد أمراء الملك الظاهر بيبرس. رباط البغدادية هذا الرباط بداخل الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس حيث كان المتجر الذي ذكر عند ذكر القصر من هذا الكتاب ومن الناس من يقول رواق البغدادية وهذا الرباط بنته الست الجليلة تذكارياي خاتون ابنة الملك الظاهر بيبرس في سنة أربع وثمانين وستمائة للشيخة الصالحة زينت ابنة أبي البركات المعروفة ببنت البغدادية فأنزلتها به ومعها النساء الخيرات وما برح إلى وقتنا هذا يُعرف سكانه من النساء بالخير وله دائمًا شيخه تعظ النساء وتذكرهن وتفقههن وآخر من أدركنا فيه الشيخة الصالحة سيدة نساء زمانها أمّ زينب فاطمة بنت عباس البغدادية توفيت في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة وقد أنافت على الثمانين وكانت فقيهة وافرة العلم زاهدة قانعة باليسير عابدة واعظة حريصة على النفع والتذكير ذات إخلاص وخشية وأمر بالمعروف انتفع بها كثير من نساء دمشق ومصر وكان لها قبول زائد ووقع في النفوس وصار بعدها كلّ من قام بمشيخة هذا الرباط من النساء يقال لها البغدادية وأدركنا الشيخة الصالحة البغدادية أقامت به عدّة سنين على أحسن طريقة إلى أن ماتت يوم السبت لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وسبعمائة وأدركنا هذا الرباط وتودع فيه النساء اللاتي طُلقن أو هُجرن حتى يتزوّجن أو يرجعن إلى أزواجهنّ صيانة لهنّ لما كان فيه من شدّة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات حتى أن خادمة الفقيرات به كانت لا تمكن أحدًا من استعمال إبريق ببزبوز وتؤدب من خرج عن الطريق بما تراه ثم لما فسدت الأحوال من عهد حدوث المحن بعد سنة ست وثمانمائة تلاشت أمور هذا الرباط ومنع مجاوروه من سجن النساء المعتدّات به وفيه إلى الآن بقايا من خير ويلي النظر عليه قاضي القضاة الحنفيّ. رباط الست كليلة هذا الرباط خارج درب بطوط من جملة حكر سنجر اليمنيّ ملاصقة للسور الحجر بخط سوق الغنم وجامع أصلم وقفه الأمير علاء الدين البراباه على الست كليلة المدعوة دولاي ابنة عبد الله التتارية زوج الأمير سيف الدين البرليّ السلاحدار الظاهريّ وجعله مسجدًا ورباطًا ورتب فيه إمامًا ومؤذنًا وذلك في ثالث عشري شوّال سنة أربع وتسعين وستمائة. رباط الخازن هذا الرباط بقرب قبة الإمام الشافعيّ رحمة اللّه عليه. من قرافة مصر بناه الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الخازن. والي القاهرة وفيه دفن وهذا الخازن هو الذي ينسب إليه حكر الخازن خارج القاهرة. الرباط المعروف برواق ابن سليمان هذا الرواق بحارة الهلالية خارج باب زويلة عُرف بأحمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن إبراهيم بن أبي المعالي بن العباس الرحبي البطائحيّ الرفاعيّ شيخ الفقراء الأحمدية الرفاعية بديار مصر كان عبدًا صالحًا له قبول عظيم من أمراء الدولة وغيرهم وينتمي إليه كثير من الفقراء الأحمدية وروي الحديث عن سبط السلفيّ وحدّث وكانت وفاته ليلة الاثنين سادس ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وستمائة بهذا الرواق. هذا الرباط بخط بركة الفيل بني في سنة ثلاث وستين وستمائة. رباط ابن أبي المنصور هذا الرباط بقرافة مصر عُرف بالشيخ صفيّ الدين الحسين بن عليّ بن أبي المنصور الصوفيّ المالكيّ كان من بيت وزارة فتجرّد وسلك طريق أهل اللّه على يد الشيخ أبي العباس أحمد بن أبي بكر الجزار التحبيبيّ المغربيّ وتزوّج ابنته وعرف بالبركة وحكيت عنه كرامات وصنف كتاب الرسالة ذكر فيها عدّة من المشايخ وروى الحديث وحدّث وشارك في الفقه وغيره وكانت ولادته في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وخمسمائة ووفاته برباطه هذا يوم الجمعة ثاني عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وستمائة. رباط المشتهى هذا الرباط بروضة مصر يطل على النيل وكان به الشيخ المسلك. وللّه درّ شيخنا العارف الأديب شهاب الدين أحمد بن أبي العباس الشاطر الدمنهوريّ حيث يقول: بروضَةِ المقياسِ صوفيةٌ همْ منيةُ الخاطرِ والمشتهى لهم على البحرِ أيادٍ عَلَت وشيخُهم ذاكَ لَه المنتهي يا ليلة مرّتْ بنا حلوة إن رُمتَ تشبيهًا لها عُبتها لا يبلغُ الواصفُ في وصفها حدًّا ولا يلقي له مُنتهى بتُ مع المعشوقِ في روضة ونلتُ من خرطومِهِ المشتهى رباط الآثار هذا الرباط خارج مصر بالقرب من بركة الحبش مطلّ على النيل ومجاور للبستان المعروف بالمعشوق. قال ابن المتوج: هذا الرباط عمره الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد ولد الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا بجوار بستان المعشوق ومات رحمه الله قبل تكملته ووصّى أن يكمل من ريع بستان المعشوق فإذا كملت عمارته يوقف عليه ووصَّى الفقيه عز الدين بن مسكين فعمر فيه شيئًا يسيرًا وأدركه الموت إلى رحمة الله تعالى وشرع الصاحب ناصر الدين محمد ولد الصاحب تاج الدين في تكملته فعمر فيه شيئًا جيدًا انتهى. وإنما قيل له رباط الآثار لأنّ فيه قطعة خشب وحديد يُقال أن ذلك من أثار رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراها الصاحب تاج الدين المذكور بمبلغ ستين ألف درهم فضة من بني إبراهيم أهل ينبع وذكروا أنها لم تزل عندهم موروثة من واحد إلى آخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملها إلى هذا الرباط وهي به إلى اليوم يتبرّك الناس بها ويعتقدون النفع بها وأدركنا لهذا الرباط بهجة وللناس فيه اجتماعات ولساكنه عدة منافع ممن يتردّد إليه أيام كان ماء النيل تحته دائمًا. فلما انحسر الماء من تجاهه وحدثت المحن من سنة ست وثمانمائة قلّ تردّد الناس إليه وفيه إلى اليوم بقية ولما كانت أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون قرّر فيه درسًا للفقهاء الشافعية وجعل له مدرّسًا وعنده عدّة من الطلبة ولهم جار في كل شهر من وقف وقفه عليهم وهو باق أيضًا وفي أيام الملك الظاهر برقوق وقف قطعة أرض لعمل الجسر المتصل بالرباط ولهذا الرباط حزانة كتب وهو عامر بأهله. الوزير الصاحب: تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الوزير الصاحب بهاء الدين عليّ بن سليم بن حنا ولد في سابع شعبان سنة أربعين وستمائة وسمع من سبط السلفيّ وحدث وانتهت إليه رياسة عصره وكان صاحب صيانة وسؤدد ومكارم وشاكلة حسنة وبزة فاخرة إلى الغاية وكان يتناهى في المطاعم والملابس والمناكح والمساكن ويجود بالصدقات الكثيرة مع التواضع ومحبة الفقراء وأهل المصلاح والمبالغة في اعتقادهم ونال في الدنيا من العز والجاه ما لم يره جدّه الصاحب الكبير بهاء الدين بحيث أنه لما وقلد الوزير الصاحب فخر الدين بن الخليليّ الوزارة وسار من قلعة الجبل وعليه تشريف الوزارة إلى بيت الصاحب تاج الدين وقبل يده وجلس بين يديه ثم انصرف إلى داره وما زال على هذا القدر من وفور العز إلى أن تقلد الوزارة في يوم الخميس رابع عشري صفر سنة ثلاث وتسعين وستمائة بعد قتل الوزير الأمير سنجر الشجاعيّ فلم ينجب وتوقفت الأحوال في أيامه حتى احتاج إلى إحضار تقاوي النواحي المرصدة بها للتخضير واستهلكها ثم صُرف في يوم الثلاثاء خامس عشري جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وستمائة بفخر الدين عثمان بن الخليليّ وأعيد الوزارة مرّة ثانية فلم ينجح وعزل وسُلِّم مرّة للشجاعيّ فجرّده من ثيابه وضربه شيبًا واحدًا بالمقارع فوق قميصه ثم أفرج عنه على مال ومات في رابع جمادى الآخرة سنة سبع وسبعمائة ودفن في تربتهم بالقرافة وكان له شِعر جيد ولله در شيخنا الأديب جلال الدين محمد بن خطيب داريا الدمشقيّ البيساني حيث يقول في الآثار: يا عينُ إن بَعُدِ الحبيبُ ودارُهُ ونأت مرابعُهُ وشط مزارْهُ فلقد ظفرتِ من الزمانِ بطائل إن لم تريهِ فهذة آثارُهُ وقد سبقه لذلك الصلاح خليل بن أيبك الصفدي فقال: أكرمْ بآثارِ النبيّ محمدٍ مَنْ زارَهْ استوفى السرورُ مزارُهُ يا عينُ دونَكَ فانظري وتمتعي إن لمْ تريهِ فهذِهِ آثارُهُ يا عينُ كم ذا تسفحينَ مدامعًا شوقًا لقربِ المصطفى وديارِهِ إن كانَ صَرفُ الدهرِ عاقَكَ عنهما فْتمتعي يا عينُ في آثارِهِ رباط الأفرم هذا الرباط بسفح الجرف الذي عليه الرصد وهو يشرف على بركة الحبش وكان من أحسن منتزهات أهل مصر. أنشأه الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير خازندار الصالحيّ النجميّ ورتب فيه صوفية وشيخًا وإمامًا وجعل فيه منبرًا يَخطب عليه للجمعة. والعيدين وقرر لهم معاليم من أوقاف أرصدها لهم وذلك في سنة ثلاث وستين وستمائة وهو باق إلاّ أنّه لم يبق به ساكن لخراب ما حوله وله إلى اليوم متحصل من وقفه والأفرم هذا هو الذي يُنسب إليه جسر الأفرم خارج مصر وقد ذكر عند ذكر الجسور من هذا الكتاب. الرباط العلائي هذا الرباط خارج مصر بخط بين الزقاقين شرقي الخليج الكبير يُعرف اليوم بخانقاه المواصلة وهو آيل إلى الدثور لخراب ما حوله أنشأه الملك علاء الدين أبو الحسن عليّ ابن الملك المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة ابن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل بجوار داره وحمّامه وطاحونه وجعل له فيه مدفنًا ووقف عليه بستان الجرف وبستانًا بناحية شبرًا وعدّة حصص من قرى فلسطين والساحل وأحكارًا ودورًا بجانب الرباط. ومات يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة ومولده يوم الجمعة ثامن عشري المحرّم سنة سبع وخمسين وستمائة بجزيرة ابن عمرو وكان من الحلقة وسمع الحديث من النجيب الحرّانيّ وابن عرنين وابن علاف. ودفن فيه وبه إلى الآن بقية ويحضره الفقهاء يومًا في الأسبوع وهم عشرة شيخهم منهم ومنهم قارئ ميعاد وقرّاء وكان أوّلًا معمورًا بسكنى أهله دائماَ فيه وفي هذا الوقت لا يمكن سكناه لكثرة الخوف من السرّاق. الزوايا زاوية الدمياطيّ هذه الزاوية فيما بين خط السبع سقايات وقطنرة السدّ خارج مصر إلى جانب حوض السبيل المعدّ لشرب الدواب أنشأها الأمير عز الدين أيبك الدمياطيّ الصالحيّ النجميّ أحد الأمراء المقدّمين الأكابر في أيام الملك الظاهر بيبرس وبها دًفن لمّا مات بالقاهرة ليلة الأربعاء تاسع شعبان سنة ست وتسعين وستمائة وإلى الآن يُعرف الحوض المجاور لها بحوض الدمياطي. زاوية الشيخ خضر هذه الزاوية خارج باب الفتوح من القاهرة بخط زقاق الكحل. تشرف على الخليج الكبير عُرفت بالشيخ خضر بن أبي بكر بن موسى المهرانيّ العدويّ شيخ السلطان الملك الظاهر بيبرس كان أوّلًا قد انقطع بجبل المزة خارج دمشق فعرفه الأمير سيف الدين قشتمر العجميّ وتردد إليه فقال له: لا بدّ أن يتسلطن الأمير بيبرس البندقاريّ فأخبر بيبرس بذلك فلما صارت المملكة إليه بعد قتل الملك المظفر قطز اشتمل على اعتقاده وقرّبه وبني له زاوية بجبل المزة وزاوية بظاهر بعلبك وزاوية بحماه وزاوية بحمص وهذه الزاوية خارج القاهرة. ووقف عليها أحكارًا تغل في السنة نحو الثلاثين ألف درهم وأنزله بها وصار ينزل إليه في الأسبوع مرة أو مرّتين ويطلعه على غوامض أسراره ويستشيره فيم أموره ولا يخرج عما يشير به ويأخذه معه في أسفاره وأطلق يده وصرّفه في مملكته فهدم كنيسة اليهود بدمشق وهدم كنيسة للنصارى بالقدس كانت تُعرف بالمصلبة وعملها زاوية وقتل قسيسها بيده وهدم كنيسة للروم بالإسكندرية كانت من كراسي النصارى ويزعمون أن بها رأس يحيى بن زكريا وعملها مسجدًا سماه الخضر فاتقي جانبه الخاص والعام حتى الأمير بحر الدين بيلبك الخازندار نائب السلطنة والصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا وملوك الأطراف وكان يكتب إلى صاحب حماه وجميع الأمراء إفا طلب حاجة ما مثاله: الشيخ خضر نياك الحمارة وكان ربع القامة كث اللحية يتعمم عسراويُّ وفي لسانه عجمة مع سعة صدر وكرم شمائل وكثرة عطاء من تفرقة الذهب والفضة وعمل الأسمطة الفاخرة وكانت أحواله عجيبة لا تتكيف وأقوال الناس فيه مختلفة منهم من يثبت صلاحه ويعتقلى ومنهم من يرميه بالعظائم. وكان يخبر السلطان بأمور تقع منها أنه لما حاصر أرسوف وهي أوّل فتوحاته قال له: متى نأخذ هنه المدينة فعين له يومًا يأخذها فيه فأخذها في ذلك اليوم بعينه واتفق له مثل ذلك في فتح قيسارية فلذلك كثر اعتقاع! فيه وما أحسن قول الشريف محمد بن رضوان الناسخ في ملازمة السلطان له ما الظاهرُ السلطانُ الأ مالكُ اه عنيا بذاكَ لنا الملاحِمُ تُخْبِرُ ولنا دليلٌ واضثى كالشمسِ في وسطِ السماء لِكلِّ عينٍ تنظُرُ لما رأينا الخضرَيقدِمُ جيشَهُ أبداَ علمنا ألِّهُ الإسكندَرُ وما برح على رتبته إلى ثامن عشر شوّال سنة إحدى وسبعين ستمائة فقُبض عليه واعتُقل بقلعة الجبل ومُنح الناس من الاجتماع به. ويقال أن ذلك بسبب أن السلطان كان أعطاه تُحفأ قدِمتْ من اليمن منها كر يمني مليح إلى الغاية فأعطاه خضر لبعض المردان فبلغ ذلك الأمير بمر الدين الخازندار النائب وكان قد ثقل عليه بكثرة تسلطه حتى لقد قال له مرّة بحضرة السلطان: كأنك تشفق على السلطان وعلى أولالحه مثل ما فعل قطز بأولاد المعز فأسرّها في نفسه وبلغ خبر الكرّ اليمنيّ إلى السلطان فاستدعاه وحضر جماعة حاققوه على أمور كثيرة منكرة كاللواط والزنا ونحوه فاعتقله ورتب له ما يكفيه من مأكول وفاكهة وحلوى ولما سافر السلطان إلى بلاد الروم قال خضر لبعض أصحابه إنّ السلطان يظهر على الروم ويرجع إلى دمشق فيموت بها بعد أن أموت أنا بعشرين يومًا. فكان كذلك ومات خضر في محبسه بقلعة الجبل في سالحس المحرّم أو سابعه من سنة ست وسبعين وستفائة وقد أناف على الخمسين فسُلِّمَ إلى أهله وحملوه إلى زاويته هنه ودفنوه فيها وكالط السلطان تد كتب بالانفراج عنه فقدم البريد بعد موته ومات السلطان بدمشق في سابع عشري المحرّم المذكور بعد خضر بعشرين يومًا وهنه الزاوية باقية إلى اليوم. زاوية ابن منظور هنه الزاوية خارج القاهرة بخط الدكة بجوار المقس عُرفت بالشيخ جمال الدين محمد بن أحمد بن منظور بن يس بن خليفة بن عبد الرحمن أبو عبد الله الكتانيّ العسقلانيّ الشافعيّ الصوفيّ الإمام الزاهد كانت له معارف واتباع ومريدون ومعرفة بالحديث حدّث عن أبي الفتوح الجلالئ وروي عنه الدمياطيّ وا! دواداريّ وعحّة من الناس ونظر في الفقه واشتهر بالفضيلة وكانت له ثروة وصدقات. ومولده في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وخمسمائة ووفاته بزاويته في ليلة الثاني والعشرين من شهر رجب الفرد سنة ست وتسعين وستمائة وكانت هذه الزاوية أوّلاَ تُعرف بزاوية شمس الدين بن كرا البغداديّ. زاوية الظاهري هذه الزاوية خارج باب البحر ظاهر القاهرة عند جمّام طرغاي على الخليج الناصريّ كانت أوّلًا تُشرف طاقاتها على بحر النيل الأعظم فلما انحسر الماء عن ساحل المقس وحفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصري صارت تشرف على الخليج المذكور من برّه الشرقيّ واتصلت المناظر هناك إلى أن كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة فخربت حمام طرغاي وبيعت أنقاضها وأنقاض كثير مما كان هناك من المناظر وأنشئ هناك بستان عُرف أولًا بعبد الرحمن صيرفيّ الأمير جمال الدين الأستادار لأنه أوّلًا أنشأه ثم انتقل عنه. والظاهريّ هذا هو أحمد بن محمد بن عبد الله أبو العباس جمال الدين الظاهريّ كان أبوه محمد بن عبد الله عتيق الملك الظاهر شهاب الدين غازي وبرع حتى صار إمامًا حافظًا وتوفي ليلة الثلاثاء لأربع بقين من ربيع الأوّل سنة ست وتسعين وستمائة بالقاهرة ودفن بتربته خارج باب النصر. وابنه عثمان بن أحمد بن محمد بن عبد الله فخر الدين بن جمال الدين الظاهريّ الحلبي الإمام العلامة المحدّث الصالح ولد في سنة سبعين وستمائة واسمعه أبو بديار مصر والشام وكان مكثرًا ومات بزاويته هذه في سنة ثلاثين وسبعمائة. زاوية الجميزة هذه الزاوية موضعها من جملة أراضي الزهريّ وهي الآن خارج باب زويلة بالقرب من معدّية فريج أنشأها الأمير سيف الدين جيرك السلاحدار المنصوريّ أحد أمراء الملك المنصور زاوية الحلاوي هذه الزاوية بخط الأبارين من القاهرة بالقرب من الجامع الأزهر أنشأها الشيخ مبارك الهنديّ السعوديّ الحلاويّ أحد الفقراء من أصحاب الشيخ أبي السعود بن أبي العشائر البارينيّ الواسطيّ في سنة ثمان وثمانين وستمائة وأقام بها إلى أن مات ودفن فيها فقام من بعده ابنه الشيخ عمر بن عليّ بن مبارك وكانت له سماعات ومرويات ثم قام من بعده ابنه شيخنا جمال الدين عبد اللّه بن الشيخ عمر بن عليّ بن الشيخ مبارك الهنديّ وحدّث فسمعنا عليه بها إلى أن مات في صفر سنة ثمان وثمانمائة وبها الآن ولده وهي من الزوايا المشهورة بالقاهرة. زاوية نصر هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة أنشأها الشيخ نصر بن سليمان أبو الفتح المنبجي الناسك القدوة وحدّث بها عن إبراهيم بن خليل وغيره وكان فقيهًا معتزلًا عن الناس متخليًا للعبادة يتردّد إليه أكابر الناس وأعيان الدولة وكان للأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير فيه اعتقاد كبير فلما ولي سلطنة مصر أجلّ قدره وأكرم محله فهرع الناس إليه وتوسلوا به في حوائجهم وكان يتغالى في محبة العارف محيى الدين محمد بن عربي الصوفيّ ولذلك كانت بينه وبين شيخ الإسلام أحمد بن تيمية مناكرة كبيرة ومات رحمه الله عن بضع وثمانين سنة في ليلة السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبعمائة ودفن بها. زاوية الخدّام هذه الزاوية خارج باب النصر فيما بين شقة باب الفتوح من الحسينية وبين شقة الحسينية خارج باب النصر أنشأها الطواشي بلال الفرّاجيّ وجعلها وقفًا على الخدّام الحبش الأجناد في سنة سبع وأربعين وستمائة. زاوية تقي الدين هذه الزاوية تحت قلعة الجبل أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون بعد سنة عشرين وسبعمائة لسكنى الشيخ تقيّ الدين رجب بن أشيرك العجميّ وكان وجيهاَ محترماَ عند أمراء الدولة ولم يزل بها إلى أن مات يوم السبت ثامن شهر رجب سنة أربع عشرة وسبعمائة وما زالت منزلًا لفقراء العجم إلى وقتنا هذا. زاوية الشريف مهدي هذه الزاوية بجوار زاوية الشيخ تقيّ الدين المذكور بناها الأمير صر غتمش في سنة ثلاث زاوية الطراطرية هذه الزاوية بالقرب من موردة البلاط بناها الملك الناصر محمد بن قلاون بوساطة القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص برسم الشيخين الأخوين محمد وأحمد المعروفين بالطراطرية في سنة أربعين وسبعمائة وكانا من أهل الخير والصلاح ونزلا أوّلًا في مقصورة بالجامع الأزهر فعُرفت بهما ثم عُرفت بعدهما بمقصورة الحسام الصفدي والد الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام وهذه المقصورة بآخر الرواق الأوّل مما يلي الركن الغربي ولم تزل هذه الزاوية عامرة إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة وخرب خط زريبة قوصون وما في قبليه إلى منشأة المهراني وما في بحريه إلى قرب بولاق.
|