الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
القلندرية طائفة تنتمي إلى الصوفية وتارة تُسمي أنفسها ملامتية وحقيقة القلندرية أنهم قوم طرحوا التقيد بآداب المجالسات والمخاطبات وقلت أعمالهم من الصوم والصلاة إلاّ الفرائض ولم يبالوا بتناول شيء من اللذات المباحة واقتصروا على رعاية الرخصة ولم يطلبوا حقائق العزيمة والتزموا أن لا يدّخروا شيئًا وتركوا الجمع والاستكثار من الدنيا ولم يتقشفوا ولا زهدوا ولا تعبدوا وزعموا أنهم قد قنعوا بطيب قلوبهم مع الله تعالى واقتصروا على ذلك وليس عندهم تطلع إلى طلب مزيد سوى ما هم عليه من طيب القلوب. والفرق بين الملامتيّ والقلندريّ أن الملامتيّ يعمل في كتم العبادات والقلندريّ يعمل في تخريب العادات والملامتيّ يتمسك بكل أبواب البرّ والخير ويرى الفضل فيه إلاّ أنه يخفي أحواله وأعماله ويوقف نفسه موقف العوام في هيئته وملبوسه تسترًا للحال حتى لا يُفطن له وهو مع ذلك متطلع إلى المزيد من العبادات. والقلندريّ لا يتقيد بهينة ولا يبالي بما يعرف من حاله وما لا يعرف ولا ينعطف إلاّ على طيب القلوب وهو رأس مال. هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة من الجهة التي فيها الترب والمقابر التي تلي المساكن أنشأها الشيخ حسن الجوالقيّ القلندريّ أحد فقراء العجم القلندرية على رأي الجوالقة ولما قدم إلى ديار مصر تقدّم عند أمراء الدولة التركية وأقبلوا عليه واعتقدوه فأثرى ثراء زائدًا في سلطنة الملك العادل كتبغا وسافر معه من مصر إلى الشام فاتفق أن السلطان اصطاد غزالًا ودفعه إليه ليحمله إلى صاحب حماه فلما أحضره إليه ألبسه تشريفًا من حرير طرز وخش وكلوتة زركش فقدم بذلك على السلطان فأخذ الأمراء في مداعبته وقالوا له على سبيل الإنكار: كيف تلبس الحرير والذهب وهما حرام على الرجال فأين التزهد وسلوك طريق الفقراء ونحو ذلك فعندما حضر صاحب حماه إلى مجلس السلطان على العادة قال له: يا خوند أيش عملت معي الأمراء أنكروا عليّ والفقراء تطالبني. فأنعم عليه بألف دينار فجمع الفقراء والناس وعمل وقتًا عظيمًا بزاوية الشيخ عليّ الحريريّ خارج دمشق وكان سمح النفس جميل العشرة لطيف الروح يحلق لحيته ولا يعتم ثم إنه ترك الحلق وصارت له لحية وتعمم عمامة صوفية وكانت له عصبة وفيه مروءة وعصبية ومات بدمشق في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة. وما زالت هذه الزاوية منزلًا لطائفة القلندرية ولهم بها شيخ وفيها منهم عدد موفور وفي شهر ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبعمائة حضر السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون بخانقاه أبيه الملك الناصر في ناحية سرياقوس خارج القاهرة ومدّ له شيخ الشيوخ سماطًا كان من جملة من وقف عليه بين يدي السلطان الشريف عليّ شيخ زاوية القلندرية هذه فاستدعاه السلطان وأنكر عليه حلق لحيته واستتابه وكتب له توقيعًا سلطانيًا منع فيه هذه الطائفة من تحليق لحاهم وأن من تظاهر بهذه البدعة قوبل على فعله المحرّم وأن يكون شيخًا على طائفته كما كان ما دام وداموا متمسكين بالسنة النبوية وهذه البدعة لها منذ ظهرت ما يزيد على أربعمائة سنة وأوّل ما ظهرت بدمشق في سنة بضع عشرة وستمائة وكتب إلى بلاد الشام بإلزام القلندرية بترك زيّ الأعاجم والمجوس ولا يمكن أحد من الدخول إلى بلاد الشام حتى يترك هذا الزي المبتدع واللباس المستبشع ومن لا يلتزم بذلك يعزر شرعًا ويقلع من قراره قلعاَ فنودي بذلك في دمشق وأرجائها يوم الأربعاء سادس عشر ذي الحجة. قبة النصر هذه القبة زاوية يسكنها فقراء العجم وهي خارج القاهرة بالصحراء تحت الجبل الأحمر بآخر ميدان القبق من بحريه جدّدها الملك الناصر محمد بن قلاون على يد الأمير جمال الدين أقوش نانب الكرك. زاوية الركراكي هذه الزاوية خارج القاهرة في أرض المقس عُرفت بالشيخ المعتقد أبي عبد اللّه محمد الركراكيّ المغربيّ المالكي لإقامته بها وكان فقيهًا مالكيًا متصدّيًا لأشغال المغاربة يتبرّك الناس به إلى أن مات بها يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وسبعمائة ودفن بها. والركراكي نسبة إلى ركراكة بلدة بالمغرب هي أحد مراسي سواحل المغرب بقرب البحر المحيط تنزل فيه السفن فلا تخرج إلاّ بالرياح العاصفة في زمن الشتاء عند تكدّر الهواء. هذه الزاوية بوسط الجسر الأعظم تطلّ على بركة الفيل عمرها لأمير سيف الدين طغاي بعد سنة عشرين وسبعمائة وأنزل فيها فقيرًا عجمياَ من فقراء الشيخ تقيّ الدين رجب يُعرف بالشيخ عز الدين العجميّ وكان يُعرف صناعة الموسيقى وله نغمة لذيذة وصوت مطرب وغناء جيد فأقام بها إلى أن مات في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة فغلب عليها الشيخ إبراهيم الصائغ إلى أن مات يوم الاثنين رابع عشر شهر رجب سنة أربع وخمسين وسبعمائة فعرفت به. زاوية الجعبري هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة تنسب إلى الشيخ برهان الدين بن معضاد بن شدّاد بن ماجد الجعبري المعتقد الواعظ كان يجلس للوعظ فتجتمع إليه الناس ويذكرهم ويروي الحديث ويشارك في علم الطب وغيره من العلوم وله شعر حسن وروى عن السخاويّ وحدّث عن البزاركيّ وكان له أصحاب يبالغون في اعتقاده ويغلون في أمره وكان لا يراه أحد إلاّ أعظم قدره وأجله وأثنى عليه وحفظت عنه كلمات طُعن عليه بسببها وعمر حتى جاوز الثمانين سنة فلما مرض أمر أن يخرج به إلى مكان قبره فلما وقف عليه قال: قُبير وحال دبير. ومات بعد ذلك بيوم في يوم السبت رابع عشري المحرّم سنة سبع وثمانين وستمائة والجعابرة عدّة منهم. زاوية أبي السعود هذه الزاوية خارج باب القنطرة من القاهرة على حافة الخليج عُرفت بالشيخ المبارك أيوب السعوديّ كان يذكر أنه رأى الشيخ أبا السعود بن أبي العشائر وسلك على يديه وانقطع بهذه الزاوية وتبرّك الناس به واعتقدوا إجابة دعائه وعُمِّر وصار يُحمل لعجزه عن الحركة حتى مات عن مائة سنة أوّل صفر سنة أربع وعشرين وسبعمائة. زاوية الحمصي هذه الزاوية خارج القاهرة بخط حكر خزائن السلاح والأوسية على شاطئ خليج الذكر من أرض المقس بجوار الدكة أنشأها الأمير ناصر الدين محمد ويدعى طيقوش ابن الأمير فخر الدين الطنبغا الحمصي أحد الأمراء في الأيام الناصرية كان أبوه من أمراء الظاهر بيبرس ورتب بهذه الزاوية عشرة من الفقراء شيخهم منهم ووقف عليها عدّة أماكن في جوارها وحصة من قرية بورين من قرى ساحل الشام. وغير ذلك في سنة تسع وسبعمائة فلما خرب ما حولها وارتدم خليج الذكر تعطلت وهي الآن قد عزم مستحقو ريعها على هدمها لكثرة ما أحاط بها من الخراب من سائر جهاتها وصار السلوك إليها مخوفًا بعدما كانت تلك الخطة في كاية العمارة وفي جمادى سنة عشرين وسبعمائة هدمت. زاوية المغربل هذه الزاوية خارج القاهرة بدرب الزراق من الحكر عُرفت بالشيخ المعتقد على المغربل ومات في يوم الجمعة خامس جمادى الأولى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ولما كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة خربت الحكورة وهُدم درب الزراق وغيره. زاوية القصري هذه الزاوية بخط المقس خارج القاهرة عُرفت بالشيخ أبي عبد الله محمد بن موسى عبد الله بن حسن القصري الرجل الصالح الفقيه المالكي المغربي قدم من قصر كتامة بالمغرب إلى القاهرة وانقطع بهذه الزاوية على طريقة جميلة من العبادة وطلب العلم إلى أن مات بها في التاسع من شهر رجب سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. زاوية الجاكي هذه الزاوية في سويقة الريش من الحكورة خارج القاهرة بجانب الخليج الغربي عُرفت بالشيخ المعتقد حسين بن إبراهيم بن علي الجاكي ومات بها في يوم الخميس العشرين من شوّال سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ودفن خارج باب النصر وكانت جنازته عظيمة جدًّا وأقام الناس يتبرّكون بزيارة قبره إلى أن كانت سنة سبع عشرة وثمانمائة فأقبل الناس إلى زيارة قبره وكان لهم هناك مجتمع عظيم في كلّ يوم ويحملون النذور إلى قبره ويزعمون أن الدعاء عنده لا يردّ فتنة أضلّ الشيطان بها كثيرًا من الناس وهم على ذلك إلى يومنا هذا. زاوية الأبناسي هذه الزاوية بخط المقس عُرفت بالشيخ الفقيه برهان الدين إبراهيم بن حسين بن موسى بن أيوب الأبناسيّ الشافعيّ قدم من الريف وبرع في الفقه واشتهر بسلامة الباطن وعرف بالخير والصلاح وكتب على الفتوى ودرس بالجامع الأزهر وغيره وتصدّى لأشغال الطلبة عدّة سنين وولي مشيخة الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء وطلبه الأمير سيف الدين برقوق وهو يومئذ أتابك العساكر حتى يقلده قضاء القضاة بديار مصر فغيب فرارًا من ذلك وتنزهًا عنه إلى أن ولي غيره وكانت ولادته قبيل سنة خمس وعشرين وسبعمائة ووفاته بمنزلة المويلح من زاوية اليونسية هذه الزاوية خارج القاهرة بالقرب من باب اللوث تنزلها الطائفة اليونسية وأحدهم يُونسيّ - بضم الياء المعجمة باثنتين من تحتها وبعد الياء واو ثم نون بعدها سين مهملة في آخرها ياء آخر الحروت - نسبة إلى يونس ويونس المنسوب إليه الطائفة اليونسية غير واحد فمنهم يُونس بن عبد الرحمن القميّ مولى آل يقطين وهو الذي يزعم أن معبوده على عرشه تحمله ملائكته وإن كان هو أقوى منها كالكركيّ تحمله رجلاه وهو أقوى منهما وقد كفر من زعم ذلك فإن الله تعالى هو الذي يحمل العرش وَحَمَلتَهُ وهذه الطائفة اليونسية من غلاة الشيعة واليونسية أيضًا فرقة من المرجئة ينتمون إلى يونس السمويّ وكان يزعم أن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له وهو ترك الاستكبار عليه والمحبة له فمن اجتمعت فيه هذه الخلال فهو مؤمن وزعم أن إبليس كان عارفًا بالله غير أنه كفر باستكباره عليه ولهم يونس بن يونس بن مساعد الشيباني ثم المخارقيّ شيخ الفقراء اليونسية شيخ صالح له كرامات مشهورة ولم يكن له شيخ بل كان مجذوبًا جذب إلى طريق الخير توفي بأعمال دارا في سنة تسع عشرة وسبعمائة وقد ناهز تسعين سنة وقبره مشهور يزار ويتبرّك به وإليه تنسب هذه الطائفة زاوية الخلاطي هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة بالقرب من زاوية الشيخ نصر المنجي عُرفت. . وكانت لهم وجاهة منهم ناصر الدين محمد بن علاء الدين عليّ بن محمد بن حسين الخلاطيّ مات في نصف جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ودفن بها. الزاوية العدوية هذه الزاوية بالقرافة تُنسب إلى الشيخ عديّ بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان الهكاريّ القرشيّ الأمويّ. وكان قد صحب عدّة من المشايخ كعقيل المنبجيّ وحماد الدباس وعبد القادر السهرورديّ وعبد القادر الجيليّ. ثم انقطع في جبل الهكارية من أعمال الموصل وبنى له زاوية فمال إليه أهل تلك النواحي كلها ميلًا لم يُسمع لأرباب الزوايا مثله حتى مات سنة سبع وقيل سنة خمس وخمسين وخمسمائة ودفن في زاويته وقدم ابن أخيه إلى هذه البلاد وهو زين الدين فأكرم وأنعم عليه بأمرة ثم تركها وانقطع في قرية بالشام تُعرف ببيت فار على هيئة الملوك من اقتناء الخيول المسوّمة والمماليك والجواري والملابس وعمل الأسمطة الملوكية فافتتنت به بعض نساء الطائفة القيمرية. وبالغت في تعظيمه وبذلت له أموالًا عظيمة وحاشيتها تلومها فيه فلا تصغي إلى قولهم فاحتالوا حتى أوقفوها عليه وهو عاكف على المنكرات فما زادها ذلك إلاّ ضلالًا وقالت: أنتم تنكرون هذا عليه. إنما الشيخ يتدلل على ربه وأتاه الأمير الكبير علم الدين سنجر الدوادار ومعه الشهاب محمود لتحليفه في أوّل دولة الأشرف خليل بن قلاون إلى قريته فإذا هو كالملك في قلعته للتجمل الظاهر والحشمة الزائدة والفرش الأطلس وآنية الذهب والفضة والنضار الصينيّ وأشياء تفوت العدّ إلى غير ذلك من الأشربة المختلفة الألوان والأطعمة المنوّعة. فلما دخلا عليه لم يحتفل بهما وقبّل الأمير سنجريده وهو جالس لم يقم وبقي قائمًا قدامه يحدثه وزين الدين يسأله ساعة ثم أمره أن يجلس فجلس على ركبتيه متأدّيًا بين يديه فلما حلفاه أنعم عليهما بما يقارب خمسة عشر ألف درهم وتخلف من طائفته الشيخ عز الدين أميران وأنعم عليه بإمرة دمشق ثم نقل إلى إمرة بصفد ثم أعيد إلى دمشق وترك الإمرة وانقطع بالمرّة وتردّد إليه الأكراد من كل قطر وحملوا إليه الأموال ثم أنه أراد أن يخرج على السلطان بمن معه من الأكراد في كلّ بلد فباعوا أموالهم واشتروا الخيل والملاح ووعد رجاله بنيابات البلاد ونزل بأرض اللجون. فبلغ ذلك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون فكتب إلى الأمير تنكز نائب الشام بكشف أخبارهم وأمسك السلطان من كان بهذه الزاوية العدوية ودرك على أمير طبر واختلفت الأخبار فقيل أنهم يريدون سلطنة مصر وقيل يريدون ملك اليمن فقلق السلطان لأمرهم وأهمه إلى أن أمسك الأمير تنكز عز الدين المذكور وسجنه في سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة حتى مات وفرّق الأكراد ولو لم يتدارك لأوشك أن يكون لهم نوبة. زاوية السدّار هذه الزاوية برأس حارة الديلم بناها الفقير المعتقد عليّ بن السدّار في سنة سبعين وسبعمائة وتوفي سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة. المشاهد التي يتبرّك الناس بزيارتها مشهد زين العابدين هذا المشهد فيما بين الجامع الطولونيّ ومدينة مصر تسميه العامّة مشهد زين العابدين وهو خطأ وإنما هو مشهد رأس زيد بن علي المعروف بزين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ويُعرف في القديم بمسجد محرس الخصيّ. قال القضاعي: مسجد محرس الخصيّ بني على رأس زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب حين أنفذه هشام بن عبد الملك إلى مصر ونصب على المنبر بالجامع فسرقه أهل مصر ودفنوه في هذا الموضع. وقال الكنديّ في كتاب الأمراء: وقدم إلى مصر في سنة اثنتين وعشرين ومائة أبو الحكم بن أبي الأبيض القيسيّ خطيبًا برأس زيد بن عليّ رضوان اللّه عليه يوم الأحد لعشر خلون من جمادى الآخرة واجتمع الناس إليه في المسجد. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ في كتاب الجوهر المكنونْ في ذكر القبائل والبطون: وبنو الشهيد بالكوفة ولم يبق له عليه السلام غير رأسه التي بالمشهد الذي بين الكومين بمصر بطريق جامع ابن طولون وبركة الفيل وهو من الخطط يُعرف بمسجد محرس الخصيّ ولما صُلب كشفوا عورته فنسج العنكبوت فسترها. ثم إنه بعد ذلك أحرق وذرى في الريح ولم يبق منه إلاّ رأسه التي بمصر وهو مشهد صحيح لأنه طيف بها بمصر ثم نصبت على المنبر بالجامع بمصر في سنة اثنتين وعشرين ومائة فسرقت ودفنت في هذا الموضع إلى أن ظهرت وبنى عليها مشهد. وذكر ابن عبد الظاهر أن الأفضل بن أمير الجيوش لما بلغته حكاية رأس زيد أمر بكشف المسجد وكان وسط أكوام ولم يبق من معالمه إلاّ محراب فوجد هذا العضو الشريف. قال محمد بن منجب بن الصيرفيّ: حدّثني الشريف فخر الدين أبو الفتوح ناصر الزيديّ خطيب مصر وكان من جملة حضر الكشف قال: لما خرج هذا العضو رأيته وهو هامة وافرة وفي الجبهة أثر في سعة الدرهم فضمخَ وعطرَ وحُمل إلى دار حتى عمر هذا المشهد وكان وجد أنه يوم الأحد تاسع عشري ربيع الأوّل سنة خمس وعشرين وخمسمائة وكان الوصول به في يوم الأحد ووجدانه في يوم الأحد. زيد بن علي: بن الحسين بن علي بن أبي طالب وكنيته أبو الحسن الإمام الذي تنسب إليه الزيدية إحدى طوائف الشيعة سكن المدينة وروى عن أبيه عليّ بن الحسين الملقب زين العابدين وعن أبان بن عثمان وعبيد الله بن أبي رافع وعروة بن الزبير وروى عنه محمد بن شهاب الزهريّ وزكريا بن أبي زائدة وخلق ذكره ابن حبان في الثقات. وقال: رأى جماعة من الصحابة وقيل لجعفر بن محمد الصادق عن الرافضة أنهم يتبرّؤن من عمك زيد. فقال: برئ الله ممن تبرّأ من عمي كان والله أقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله وأوصلنا للرحم والله ما تُرك فينا لدينا ولا لآخرة مثله. وقال أبو إسحاق السبيعيّ: رأيت زيد بن عليّ فلم أر في أهله مثله ولا أعلم منه ولا أفضل وكان أفصحهم لساناَ وأكثرهم زهدًا وبيانًا. وقال الشعبيٌ: والله ما ولد النساء أفضل من زيد بن علي ولا أفقه ولا أشجع ولا أزهد. وقال أبو حنيفة: شاهدت زيد بن عليّ كما شاهدت أهله فما رأيت في زمانه أفقه منه ولا أعلم ولا أسرع جوابًا ولا أبين قولًا لقد كان منقطع القرين. وقال الأعمش: ما كان في أهل زيد بن عليّ مثل زيد ولا رأيت فيهم أفضل منه ولا أفصح ولا أعلم ولا أشجع ولقد وفي له من تابعه لإقامتهم على المنهج الواضح. وسُئل جعفر بن محمد الصادق عن خروجه فقال: خرج على ما خرج عليه آباؤه وكان يُقال لزيد حليف القرآن وقال خلوت بالقران ثلاث عشرة سنهْ أقرأه وأتدبره فما وجدت مْي طلب الرزق رخصة وما وجدت ابتغوا من فضل الله إلاّ العبادة والفقه. وقال عاصم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: لقد أصيب عندكم رجل ما كان في زمانكم مثله ولا أراه يكون بعده مثله زيد بن عليّ لقد رأيته وهو غلام حدث وإنه ليسمع الشيء من ذكر الله فيُغشى عليه حتى يقول القائل ما هو بعائد إلى الدنيا. وكان نقش خاتم زيد اصبر تؤجر اصدق تنج وقرأ مرّة قوله تعالى: " ثم قال: اللهمّ لا تجعلنا ممن تولى عنك فاستبدلت به بدلًا. وكان إذا كلمه إنسان وخاف أن يهجم على أمر يخاف منه مأثمًا قال له: يا عبد الله أمسك أمسك كف كف إليك إليك عليك بالنظر لنفسك. ثم يكف عنه ولا يكلمه. وقد اختلف في سبب قيام زيد وطلبه الأمر لنفسه فقيل أن زيد بن عليّ وداود بن عليّ بن عبد اللّه بن عباس ومحمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب قدموا على خالد بن عبد الله القسريّ بالعراق فأجازهم ورجعوا إلى المدينة فلما ولي يوسف بن عمر العراق بعد عزل خالد كتب إلى هشام بن عبد الملك وذكر له أن خالد ابتاع أرضًا بالمدينة من زيد بعشرة آلاف دينار ثم ردّ الأرض عليه. فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسيرهم إليه ففعل. فسألهم هشام عن ذلك فأقرّوا بالجائزة وأنكروا ما سوى ذلك وحلفوا فصدّقهم وأمرهم بالمسير إلى العراق ليقابلوا خالدًا فساروا على كره وقابلوا خالدًا فصدّقهم وعادوا نحو المدينة. فلما نزلوا القادسية راسل أهل الكوفة زيدًا فعاد إليهم وقيل بل ادّعى خالد القسريّ أنه أودع زيدًا وداود بن عليّ ونفرًا من قريش مالًا فكتب يوسف بن عمر بذلك إلى الخليفة هشام بن عبد الملك فأحضرهم هشام من المدنية وسيرهم إلى يوسف ليجمعهم وخالدًا فقدموا عليه فقال يوسف لزيد: إن خالدًا زعم أنه أودع عندك مالًا. فقال زيد: كيف يودعني وهو يشتم آبائي على منبره فأرسل إلى خالد فأحضره في عباءة وقال له: هذا زيد قد أنكر أنّك أودعته شيئًا. فنظر خالد إليه وإلى داود وقال ليوسف: أتريد أن تجمع إثمك مع إثمنا في هذا كيف أودعه وأنا أشتم آباءه وأشتمه على المنبر فقال زيد لخالد: ما دعاك إلى ما صنعت فقال: شُدِّدَ عليئ العذاب فادّعيت ذلك وأملت أن يأتي اللّه بفرج قبل قدومك. فرجعوا وأقام زيد وداود بالكوفة وقيل أن يزيد بن خالد القسريّ هو الذي ادّعى أن المال وديعة عند زيد فلما أمرهم هشام بالمسير إلى العراق إلى يوسف استقالوه خوفًا من شرّ يوسف وظلمه. فقال: أنا أكتب إليه بالكف عنكم وألزمهم بذلك. فساروا على كره فجمع يوسف بينهم وبين يزيد فقال يزيد: ليس لي عندهم قليل ولا كثير. فقال له يوسف: أتهزأ بأمير المؤمنين فعذبه يومئذ عذابًا كاد يُهلكه ثم أمر بالقرشيين فضُربوا وتُرك زيدًا. ثم اتسحلفهم وأطلقهم فلحقوا بالمدينة وأقام زيد بالكوفة وكان زيد قال لهشام لما أمره بالمسير إلى يوسف: والله ما آمن من إن بعثتني إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حبيبين أبدًا. قال: لا بدّ من المسير إليه. فسار إليه. وقيل كان السبب في ذلك أن زيداَ كان يخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسين بن عليّ في وقوف عليّ رضي الله عنه فزيد يخاصم عن بني حسين وجعفر يخاصم عن بني حسن فكانا يبلغان كل غاية ويقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفًا فلما مات جعفر نازعه عبد الله بن الحسن بن الحسن فتنازعا يومًا بين يدي خالد بن عبد الملك بن الحارث بالمدينة فأغلظ عبد الله لزيد وقال: يا ابن السندية. فضحك زيد وقال: قد كان إسماعيل عليه السلام ابن أمة ومع ذلك فقد صبرت أمي بعد وفاة سيدها. ولم يصبر غيرها يعني فاطمة بنت الحسين أم عبد الله فإنها تزوّجت بعد أبيه الحسن بن الحسن. ثم إن زيدًا ندم واستحيى من فاطمة فإنها عمته ولم يدخل إليها زمانًا. فأرسلت إليه: يا ابن أخي إني لأعلم أن أمّك عندك كأمّ عبد الله عنده وقالت لعبد الله: بئسما قلت لأمّ زيد أما والله لنعم دخيلة القوم كانت وذكر أن خالدًا قال لهما: اغدوا علينا غدًا فلست ابن عبد الملك إن لم أفصل بينكما فباتت المدينة تغلي كالمرجل. يقول قائل: قال زيد كذا ويقول قائل: قال عبد الله كذا فلما كان من الغد جلس خالد في المسجد واجتمع الناس فمن بين شامت ومهموم فدعا بهما خالد وهو يحبّ أن يتشاتما فذهب عبد الله يتكلم فقال زيد: لا تعجل يا أبا محمد أعتَق زيد كل ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدًا. ثم أقبل إلى خالد فقال له: لقد جمعت ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر. فقال خالد: أما لهذا السفيه أحد فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال: يا ابن أبي تراب وابن حسين السفيه أما ترى لوالِ عليكَ حقًا ولا طاعة فقال زيد: اسكت أيها القحطانيّ فإنّا لا نجيب مثلك. قال: ولم تركب عني فوالله إني لخير منك وخير من أبيك وأمي خير من أمك فتضاحك زيد وقال: يا معشر قريش هذا الدين قد ذهب أفتذهب الأحساب فوا الله ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم. فقام عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال: كذبت والله أيها القحطاني فوالله لهو خير منك نفسًا وأبًا وأمًّا ومحتدًا وتناوله بكلام كثير وأخذ كفًا من حصباء وضرب بها الأرض وقال: والله إنه ما لنا على هذا من صبر وقام. ثم شخص زيد إلى هشام بن عبد الملك فجعل هشام لا يأذن له وهو يرفع إليه القصص فكلما رفع قصة يكتب هشام في أسفلها ارجع إلى منزلك. فيقول زيد: والله لا أرجع إلى خالد أبدًا ثم إنه أذن له يومًا بعد طول حبس فصعد زيد وكان بادنًا فوقف في بعض الدرج وهو يقول: واللّه لا يحب الدنيا أحد إلاّ ذلّ ثم صعد وقد جمع له هشام أهل الشام فسلم ثم جلس فرمى عليه هشام طويلة فحلف لهشام على شيء. فقال هشام: لا أصدّقك. فقال: يا أمير المؤمنين إنّ الله لم يرفع أحدًا عن أن يرضى باللّه ولم يضع أحدًا عن أن لا يرضى بذلك منه. فقال هشام: أنت زيد المؤمّل للخلافة وما أنت والخلافة لا أم لك وأنت ابن أمة. فقال زيد: لا أعلم أحدًا عند الله أفضل من نبيّ بعثه ولقد بعث الله نبيًا وهو ابن أمة ولو كان به تقصير عن منتهى غاية لم يبعث وهو إسماعيل بن إبراهيم والنبوة أعظم منزلة من الخلافة عند الله ثم لم يمنعه الله من أن جعله أباَ للعرب وأبًا لخير البشر محمد صلى الله عليه وسلم وما يُقصرُ برجل أبوه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبَعدَ أمي فاطمة لا أفخر بأم. فوثب هشام من مجلسه وتفرّق الشاميون عنه وقال لحاجبه: لا يبيت هذا في عسكري أبدًا. فخرج زيد وهو يقول: ما كره قوم قط جرّ السيوف إلاّ ذلوا وسار إلى الكوفة. فقال له محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب: أذكرك الله يا زيد لما لحقت بأهلك ولا تأت أهل الكوفة فإنهم لا يفون لك فلم يقبل وقال: خرج بنا هشام أسراء على غير ذنب من الحجاز إلى الشام ثم إلى بكرتَ تخوّفني الحتوفُ كأنني أصبحتُ عن عرضِ الحياةِ بمعزلِ فأجبتها إن المنيةَ منزل لا بدّ أن أسقى بكاسِ المنهل إنّ المنيةً لو تمثَلُ مثلَت مثلي إذا نزلوا بصيقَ المنزلِ فاثني حبالكِ لا أبا لك واعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أقتَل أستودعك الله وإني أعطي الله عهدًا إن دخلت يدي في طاعة هؤلاء ما عشت. وفارقه وأقبل إلى الكوفة فأقام بها مستخفيًا يتنقل في المنازل فأقبلت الشيعة تختلف إليه تبايعه فبايعه جماعة من وجوه أهل الكوفة وكانت بيعته: إنا ندعوكم إلى كتاب اللّه وسنة نبيه وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء ورد المظالم وأفعال الخير ونصرة أهل البيت أتبايعون على ذلك فإذا قالوا نعم وضع يده على أيديهم ويقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لتؤمنن ببيعتي ولتقاتلنّ عدوّي ولتنصحن لي في السر والعلانية فإذا قال نعم مسح يده على يده ثم قال: اللهمّ فاشهد. فبايعه خمسة عشر ألفًا وقيل أربعون ألفًا وأمر أصحابه بالاستعداد فأقبل من يريد أن يفي ويخرج معه يستعدّ ويتهيأ فشاع أمره في الناس هذا على قول من زعم أنه أتى الكوفة من الشام واختفى بها يبايع الناس. أو ابنه يزيد بن خالد فإنه قال: أقام زيد بالكوفة ظاهرًا ومعه داود بن عليّ بن عبد اللّه بن عباس وأقبلت الشيعة تختلف إليه وتأمره بالخروج ويقولون: إنا لنرجو أن تكون أنت المنصور وأنّ هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية فأقام بالكوفة ويوسف بن عمر يسأل عنه فيقال هو هاهنا ويبعث إليه ليسير فيقول نعم وشتل بالوجع فمكث ما شاء اللّه ثم أرسل إليه يوسف بالمسير عن الكوفة فاحتج بأنه يحاكم آل طلحة بن عبيد الله بملك بينهما بالمدينة فأرسل وكيلًا ويرحل عنها فلما رأى الجد من يوسف في أمره سار حتى أتى القادسية وقيل الثعلبية فتبعه أهل الكوفة وقالوا له: نحن أربعون ألفًا لم يتخلف عنك أحد نضرب عنك بأسيافنا وليس هاهنا من أهل الشام إلاّ عدة يسيرة وبعض قبائلنا يكفيهم بإذن الله وحلفوا له بالأيمان المغلظة فجعل يقول: إني أخاف أن تخذلوني وتسلموني كفعلكم بأبي وجدّي فيحلفون له فقال له داود بن عليّ: لا يغرّك يا ابن عمي هؤلاء أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك جدّ عليّ بن أبي طالب حتى قتل والحسن من بعده بايعوه ثم وثبوا عليه وانتزعوا رداءه وجرحوه أو ليس قد أخرجوا جدّك الحسين وحلفوا له ثم خذلوه وأسلموه ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه فلا ترجع معهم. فقالوا: يا زيد إنّ هذا لا يريد أن تظهر أنت ويزعم أنه وأهل بيته أولى بهذا الأمر منكم. فقال زيد لداود: إن عليًا كان يقاتله معاوية بذهبه وإنّ الحسين قاتله يزيد والأمر مقبل عليهم. فقال له داود: إني أخاف إن رجعت معهم أن لا يكون أحد أشدّ عليك منهم وأنت أعلم ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة. فأتاه سلمة بن كهيل فذكر له قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقه فأحسن ثم قال له: نشدتك الله كم بايعك قال: أربعون ألفًا. قال: فكم بايع جدّك قال: ثمانون ألفًا. قال: فكم حصل معه قال: ثلاثمائة. قال: نشدتك الله أنت خير أم جدّك قال: جدّي. قال: فهذا القرن خير أم ذلك القرن قال: ذلك القرن. قال: أفتطمع أن يفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدّك قال: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وعنقهم. قال: أفتأذن لي أن أخرج من هذا البلد فلا آمن أن يحدث حدث فأهلك نفسي. فأذن له فخرج إلى اليمامة. وكتب عبد اللّه بن الحسن بن الحسن إلى زيد: أما بعد فإن أهل الكوفة نفج العلانية حور السريرة هوج في الرد أجزع في اللقا تقدمهم ألسنتهم ولا تتابعهم قلوبهم ولقد تواترت كتبهم إلي بدعوتهم فصممت عن ندائهم وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم يأسًا منهم وإطراحًا لهم وما لهم مثل إلاّ ما قال عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه: إن أهملتم خضتم وإن خوّرتم خرتم وإن اجتمع الناس ويتجهز للخروج وتزوّج بالكوفة امرأتين وكان ينتقل تارة عند هذه في بني سلمة قومها وتارة عند هذه في الأزد قومها وتارة في بني عبس وتارة في بني تغلب وغيرهم إلى أن ظهر في سنة اثنتين وعشرين ومائة فأمر أصحابه بالاستعداد وأخذ من كان يريد الوفاء بالبيعة يتجهز فبلغ ذلك يوسف بن عمر فبعث في طلب زيد فلم يوجد وخاف زيد أن يُؤخذ فتعجل قبل الأجل الذي جعله بينه وبين أهل الكوفة وعلى الكوفة يومئذٍ الحكم بن الصلت في ناسٍ من أهل الشام ويوسف بن عمر بالحيرة. فلما علم أصحاب زيد أن يوسف بن عمر قد بلغه الخبر وأنه يبحث عن زيد اجتمع إلى زيد جماعة من رؤوسهم فقالوا: رحمك الله ما قولك في أبي بكر وعمر فقال زيد رحمهما الله وغفر لهما ما سمعت أحدًا من أهل بيتي يقول فيهما إلاّ خيرًا وإنّ أشدّ ما أقول فيما ذكرتم إنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس أجمعين فدفعونا عنه ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرًا وقد وُلوا فعدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنة. قالوا فلم يظلمك هؤلاء إذاَ كان أولئك لم يظلموا وإذا كان هؤلاء لم يظلموا فلم تدعو إلى قتالهم فقال: إنّ هؤلاء ليسوا كأولئك هؤلاء ظالمون لي ولأنفسهم ولكم وإنما ندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وإلى السنن أن تحيي وإلى الباع أن تُطفأ فإن أجبتمونا سعدتم وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا: قد سبق الإمام يعنون محمدًا الباقر وكان قد مات. وقالوا جعفر ابنه إمامنا اليوم بعد أبيه فسماهم زيد الرافضة وهم يزعمون أن المغيرة سماهم الرافضة حين فارقوه وكانت طائفة قد أتت جعفر بن محمد الصادق قبل قيام زيد وأخبروه ببيعته فقال: بايعوه لهو واللّه أفضلنا وسيدنا. فعادوا وكتموا ذلك وكان زيد قد واعد أصحابه أول ليلة من صفر فبلغ ذلك يوسف بن عمر فبعث إلى الحكم عامله على الكوفة يأمره بأن يجمع الناس بالمسجد الأعظم يحصرهم فيه فجمعهم وطلبوا زيدًا فخرج ليلًا من دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاريّ وكان بها ورفعوا النيران ونادوا يا منصور حتى طلع الفجر فلما أصبحوا نادى أصحاب زيد بشعارهم وثاروا فأغلق الحكم دروب السوق وأبواب المسجد على الناس وبعث إلى يوسف بن عمر وهو بالحيرة فأخبره الخبر فأرسل إليه خمسين فارسًا ليعرفوا الخبر فساروا حتى عرفوا الخبر وعادوا إليه فسارت الحيرة بأشراف الناس وبعث ألفين من الفرسان وثلاثمائة رجالة معهم النشاب وأصبح زيد فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلًا فقال: سبحان اللّه أين الناس فقيل إنهم في المسجد الأعظم محصورون. فقال: والله ما هذا بعذر لمن بايعنا. وأقبل فلقيه على جبانة الصايديين خمسمائة من أهل الشام فحمل عليهم فيمن معه حتى هزمهم وانتهى إلى دار أنس بن عمر الأزديّ وكان فيمن بايعه وهو في الدار فنودي فلم يجب فناداه زيد فلم يخرج إليه. فقال زيد: ما أخلفكم قد فعلتموها اللّه حسيبكم. ثم سار ويوسف بن عمر ينظر إليه وهو في مائتي رجل فلو قصده زيد لقتله والريان يتبع آثار زيد بالكوفة في أهل الشام فأخذ زيد في المسير حتى دخل الكوفة فسار بعض أصحابه إلى الجبانة وواقعوا أهل الشام فأسر أهل الشام منهم رجلًا ومصْوا به إلى يوسف بن عمر فقتله فلما رأى زيد خذلان الناس إياه قال: قد فعلوها حسبي اللّه وسار وهو يهزم من لقيه حتى انتهى إلى باب المسجد فجعل أصحابه يدخلون راياتهم من فوق الباب ويقولون: يا أهل المسجد اخرجوا من الذل إلى العز اخرجوا إلى الدين والدليا فإنكم لستم مي دين ولا دنيا. وزيد يقول: والله ما خرجت ولا قمت مقامي هذا حتى قرأت القرآن وأتقنت الفرائض وأحكمت السنن والآداب وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل وفهمت الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والخاص والعام وما تحتاج إليه الأمّة في دينها مما لا بد لها منه ولا غنى لها عنه وإني لعلى بينة من ربي فرماهم أهل المسجد بالحجارة من فوق المسجد فانصرف زيد فيمن معه وخرج إليه ناس من أهل الكوفة فنزل دار الرزق فأتاه الريان وقاتله وخرج أهل الشام مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظنًا فلما كان من الغد أرسل يوسف بن عمر عدّة عليهم العباس بن سعد المزنيّ فلقيهم زيد فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم أصحاب العباس وقُتِل منهم نحو من سبعين فلما كان العشي عبّى يوسف بن عمر الجيوش وسرّحهم فالتقاهم زيد بمن معه وحمل عليهم حتى هزمهم وهو يتبعهم فبعث يوسف طائفة من الماشية فرموا أصحاب زيد وهو يقاتل حتى دخل الليل فرُميَ بسهم في جبهته اليسرى ثبت في دماغه فرجع أصحابه ولا يَظنّ أهل الشام أنهم رجعوا للمساء والليل فأنزلوا زيدًا في دار وأتوه بطبيب فانتزع النصل فضج زيد ومات رحمه الله لليلتين خلتا من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة وعمره اثنتان وأربعون سنة. ولما مات اختلف أصحابه في أمره فقال بعضهم نطرحه في الماء. وقال بعضهم بل نحز رأسه ونلقيه في القتلى. فقال ابنه يحيى بن زيد: والله لا يأكل لحم أبي الكلاب. وقال بعضهم ندفنه في الحفرة التي يؤخذ منها الطين ونجعل عليه الماء ففعلوا ذلك وأجروا عليه الماء وكان معه مولى سنديّ فدلّ عليه وقيل رآهم قصّار فدل عليه وتفرّق الناس من أصحاب زيد وسار ابنه يحيى نحو كربلاء وتتبع يوسف بن عمر الجرحى في الدور حتى دل على زيد في يوم جمعة فأخرجه وقطع رأسه وبعث به إلى هشام بن عبد الملك فدفع لمن وصل به عشرة آلاف درهم ونصبه على باب دمشق ثم أرسله إلى المدينة وسار منها إلى مصر وأما جسده فإن يوسف بن عمر صلبه بالكناسة ومعه ثلاثة ممن كانوا معه وأقام الحرس عليه فمكث زيد مصلوبًا أكثر من سنتين حتى مات هشام ووليَ الوليد من بعده وبعث إلى يوسف بن عمر أن أنزل زيدًا وأحرقه بالنار فأنزله وأحرقه وذرّى رماده في الريح وكان زيد لما صلب وهو عريان استرخى بطنه على عورته حتى ما يُرى من سوءته شيء ومرّ زيد مرّة بمحمد ابن الحنفيهّ فنظر إليه وقال: أعيذك بالله أن تكون زيد بن عليّ المصلوب بالعراق وقال عبد الله بن حسين بن عليج بن الحسين بن عليّ: سمعت أبي يقول: اللهمّ إنْ هشامًا رضي بصلب زيد فاسلبه ملكه وإنْ يوسف بن عمر أحرق زيدًا اللهمّ فسلط عليه من لا يرحمه اللهمّ وأحرق هشامًا في حياته إنْ شئت وإلاّ فأحرقه بعد موته. قال فرأيت والله هشامًا محرقًا لما أخذ بنو العباس دمشق ورأيت يوسف بن عمر بدمشق مقطعًا على كلّ باب من أبواب دمشق منه عضو. فقلت يا أبتاه وافقت دعوتك ليلة القدر فقال لا يا بنيّ بل صمت ثلاثة أيام من شهر رجب وثلاثة أيام من شعبان وثلاثة أيام من شهر رمضان كنت أصوم الأربعاء والخميس والجمعة ثم أدعو الله عليهما من صلاة العصر يوم الجمعة حتى أصلي المغرب وبعد قتل زيد انتفض ملك بني أمية وتلاشى إلى أن أزالهم الله تعالى ببني العباس. وهذا المشهد باق بين كيمان مدينة مصر يتبرّك الناس بزيارته ويقصدونه لا سيما في يوم عاشوراء والعامّة تسميه زين العابدين وهو وهم وإنما زين العابدين أبوه وليس قبره بمصر بل قبره بالبقيع ولما قُتل الإمام زيد سوّدت الشيعة أي لبست السواد وكان أوّل من سوّد على زيد شيخ بني هاشم في وقته الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم ورثاه بقصيدة طويلة وشعره حجة احتج به سيبويه توفي سنة تسع وعشرين ومائة.
|