الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{قل نعم وأنتم داخرون، فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون، وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين، هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون} قوله تعالى}قل نعم} أي نعم تبعثون. }وأنتم داخرون} أي صاغرون أذلاء؛ لأنهم إذا رأوا وقوع ما أنكروه فلا محالة يذلون. وقيل: أي ستقوم القيامة وإن كرهتم، فهذا أمر واقع على رغمكم وإن أنكرتموه اليوم بزعمكم. }فإنما هي زجرة واحدة} أي صيحة واحدة، قاله الحسن وهي النفخة الثانية. وسميت الصيحة زجرة؛ لأن مقصودها الزجر أي يزجر بها كزجر الإبل والخيل عند السوق. }فإذا هم} قيام قوله تعالى}ينظرون} أي ينظر بعضهم إلى بعض. وقيل: المعنى ينتظرون ما يفعل بهم. وقيل: هي مثل قوله قوله تعالى}وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين} نادوا على أنفسهم بالويل؛ لأنهم يومئذ يعلمون ما حل بهم. وهو منصوب على أنه مصدر عند البصريين. وزعم الفراء أن تقديره: ياوي لنا، ووي بمعنى حزن. النحاس: ولو كان كما قال لكان منفصلا وهو في المصحف متصل، ولا نعلم أحدا يكتبه إلا متصلا. و}يوم الدين} يوم الحساب. وقيل: يوم الجزاء. }هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون} قيل: هو من قول بعضهم لبعض؛ أي هذا اليوم الذي كذبنا به. وقيل: هو قول الله تعالى لهم. وقيل: من قول الملائكة؛ أي هذا يوم الحكم بين الناس فيبين المحق من المبطل. فـ {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون، من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم، وقفوهم إنهم مسؤولون، ما لكم لا تناصرون، بل هم اليوم مستسلمون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين، قالوا بل لم تكونوا مؤمنين، وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين، فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون، فأغويناكم إنا كنا غاوين، فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون، إنا كذلك نفعل بالمجرمين، إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} قوله تعالى}احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} هو من قول الله تعالى للملائكة}احشروا} المشركين }وأزواجهم} أي أشياعهم في الشرك، والشرك الظلم؛ قال الله تعالى قوله تعالى}وقفوهم} وحكى عيسى بن عمر }أنهم} بفتح الهمزة. قال الكسائي: أي لأنهم وبأنهم، يقال: وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هي وقوفا، يتعدى ولا يتعدى؛ أي احسبوهم. وهذا يكون قبل السوق إلى الجحيم؛ وفيه تقديم وتأخير، أي قفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار. وقيل: يساقون إلى النار أولا ثم يحشرون للسؤال إذا قربوا من النار. }إنهم مسؤولون} عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم؛ قال القرظي والكلبي. الضحاك: عن خطاياهم. ابن عباس: عن لا إله إلا الله. وعنه أيضا: عن ظلم الخلق. وفي هذا كله دليل على أن الكافر يحاسب. وقد مضى في }الحجر} الكلام فيه. وقيل: سؤالهم أن يقال لهم قوله تعالى}بل هم اليوم مستسلمون} قال قتادة: مستسلمون في عذاب الله عز وجل. ابن عباس: خاضعون ذليلون. الحسن: منقادون. الأخفش: ملقون بأيديهم. والمعنى متقارب. }وأقبل بعضهم على بعض} يعني الرؤساء والأتباع }يتساءلون} يتخاصمون. ويقال لا يتساءلون فسقطت لا. النحاس: وإنما غلط الجاهل باللغة فتوهم أن هذا من قوله قلت: وهذا القول حسن جدا؛ لأن من جهة الدين يكون الخير والشر، واليمين بمعنى الدين؛ أي كنتم تزينون لنا الضلالة. وقيل: اليمين بمعنى القوة؛ أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر؛ قال الله تعالى أي بالقوة والقدرة. وهذا قول ابن عباس. وقال مجاهد}تأتوننا عن اليمين} أي من قبل الحق أنه معكم؛ وكله متقارب المعنى. }قالوا بل لم تكونوا مؤمنين} قال قتادة: هذا قول الشياطين لهم. وقيل: من قول الرؤساء؛ أي لم تكونوا مؤمنين قط حتى ننقلكم منه إلى الكفر، بل كنتم على الكفر فأقمتم عليه للألف والعادة. }وما كان لنا عليكم من سلطان} أي من حجة في ترك الحق }بل كنتم قوما طاغين} أي ضالين متجاوزين الحد. }فحق علينا قول ربنا} هو أيضا من قول المتبوعين؛ أي وجب علينا وعليكم قول ربنا، فكلنا ذائقون العذاب، كما كتب الله وأخبر على ألسنة الرسل {ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون، بل جاء بالحق وصدق المرسلين، إنكم لذائقوا العذاب الأليم، وما تجزون إلا ما كنتم تعملون، إلا عباد الله المخلصين} قوله تعالى}ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} أي لقول شاعر مجنون؛ فرد الله جل وعز عليهم فقال}بل جاء بالحق} يعني القرآن والتوحيد }وصدق المرسلين} فيما جاؤوا به من التوحيد. }إنكم لذائقوا العذاب الأليم} الأصل لذائقون فحذفت النون استخفافا وخفضت للإضافة. ويجوز النصب كما أنشد سيبويه: وأجاز سيبويه }والمقيمي الصلاة} على هذا. }وما تجزون إلا ما كنتم تعملون} أي إلا بما عملتم من الشرك }إلا عباد الله المخلصين} استثناء ممن يذوق العذاب. وقراءة أهل المدينة والكوفة }المخلصين} بفتح اللام؛ يعني الذين أخلصهم الله لطاعته ودينه وولايته. الباقون بكسر اللام؛ أي الذين أخلصوا لله العبادة. وقيل: هو استثناء منقطع، أي إنكم أيها المجرمون ذائقو العذاب لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب. {أولئك لهم رزق معلوم، فواكه وهم مكرمون، في جنات النعيم، على سرر متقابلين، يطاف عليهم بكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين، لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، وعندهم قاصرات الطرف عين، كأنهن بيض مكنون} قوله تعالى}أولئك لهم رزق معلوم} يعني المخلصين؛ أي لهم عطية معلومة لا تنقطع. قال قتادة: يعني الجنة. وقال غيره: يعني رزق الجنة. وقيل: هي الفواكه التي ذكر قال مقاتل: حين يشتهونه. وقال ابن السائب: إنه بمقدار الغداة والعشي؛ قال الله تعالى قوله تعالى}على سرر متقابلين} قال عكرمة ومجاهد: لا ينظر بعضهم في قفا بعض تواصلا وتحاببا. وقيل: الأسرة تدور كيف شاؤوا فلا يرى أحد قفا أحد. وقال ابن عباس: على سرر مكللة بالدر والياقوت والزبرجد؛ السرير ما بين صنعاء إلى الجابية، وما بين عدن إلى أيلة. وقيل: تدور بأهل المنزل الواحد. والله أعلم. }يطاف عليهم بكأس من معين} لما ذكر مطاعمهم ذكر شرابهم. والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكل إناء مع شرابه؛ فإن كان فارغا فليس بكأس. قال الضحاك والسدي: كل كأس في القرآن فهي الخمر، والعرب تقول للإناء إذا كان فيه خمر كأس، فإذا لم يكن فيه خمر قالوا إناء وقدح. النحاس: وحكى من يوثق به من أهل اللغة أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر: كأس؛ فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح؛ كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام: مائدة؛ فإذا لم يكن عليه طعام لم تقل له مائدة. قال أبو الحسن بن كيسان: ومنه ظعينة للهودج إذا كان فيه المرأة. وقال الزجاج}بكأس من معين} أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض. والمعين: الماء الجاري الظاهر. }بيضاء} صفة للكأس. وقيل: للخمر. قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. وقيل}بيضاء} أي لم يعتصرها الرجال بأقدامهم. }لذة للشاربين} {لذة} قال الزجاج: أي ذات لذة فحذف المضاف. وقيل: هو مصدر جعل اسما أي بيضاء لذيذة؛ يقال شراب لذ ولذيذ، مثل نبات غض وغضيض. فأما قول القائل: فانه يريد النوم. }لا فيها غول} أي لا تغتال عقولهم، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع. }ولا هم عنها ينزفون} أي لا تذهب عقولهم بشربها؛ يقال: الخمر غول للحلم، والحرب غول للنفوس؛ أي تذهب بها. وقال: نزف الرجل ينزف فهو منزوف ونزيف إذا سكر. قال امرؤ القيس: وقال أيضا: وقال آخر: وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي؛ من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر. يقال: أحصد الزرع إذا حان حصاده، وأقطف الكرم إذا حان قطافه، وأركب المهر إذا حان ركوبه. وقيل: المعنى لا ينفدون شرابهم؛ لأنه دأبهم؛ يقال: أنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره. قال الحطيئة: النحاس: والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى؛ لأن معنى }ينزفون} عند جلة أهل التفسير منهم مجاهد لا تذهب عقولهم؛ فنفى الله عز وجل عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر. ومعنى }ينزفون} الصحيح فيه أنه يقال: أنزف الرجل إذا نفد شرابه، وهو يبعد أن يوصف به شراب الجنة؛ ولكن مجازه أن يكون بمعنى لا ينفد أبدا. وقيل}لا ينزفون} بكسر الزاي لا يسكرون؛ ذكره الزجاج وأبو علي على ما ذكره القشيري. المهدوي: ولا يكون معناه يسكرون؛ لأن قبله }لا فيها غول}. أي لا تغتال عقولهم فيكون تكرارا؛ ويسوغ ذلك في }الواقعة}. ويجوز أن يكون معنى }لا فيها غول} لا يمرضون؛ فيكون معنى }ولا هم عنها ينزفون} لا يسكرون أو لا ينفد شرابهم. قال قتادة الغول وجع البطن. وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد }لا فيها غول} قال لا فيها وجع بطن. الحسن: صداع. وهو قول ابن عباس}لا فيها غول} لا فيها صداع. وحكى الضحاك عنه أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول؛ فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال. مجاهد: داء. ابن كيسان: مغص. وهذه الأقوال متقاربة. وقال الكلبي}لا فيها غول} أي إثم؛ نظيره أي تصرع واحدا واحدا. وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع الالتذاذ عنهم بنعيمهم. وقال أهل المعاني: الغول فساد يلحق في خفاء. يقال: اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره في خفية. ومنه الغول والغيلة: وهو القتل خفية. قوله تعالى}وعندهم قاصرات الطرف} أي نساء قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم؛ قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغيرهم. عكرمة}قاصرات الطرف} أي محبوسات على أزواجهن. والتفسير الأول أبين؛ لأنه ليس في الآية مقصورات ولكن في موضع آخر }مقصورات} يأتي بيانه. و}قاصرات} مأخوذ من قولهم: قد اقتصر على كذا إذا اقتنع به وعدل عن غيره؛ قال امرؤ القيس: ويروى: فوق الخد. والأول أبلغ. والإتب القميص، والمحول الصغير من الذر. وقال مجاهد أيضا: معناه لا يغرن. }عين} عظام العيون الواحدة عيناء؛ وقال السدي. مجاهد}عين} حسان العيون. الحسن: الشديدات بياض العين، الشديدات سوادها. والأول أشهر في اللغة. يقال: رجل أعين واسع العين بيّن العين، والجمع عين. وأصله فعل بالضم فكسرت العين؛ لئلا تنقلب الواو ياء. ومنه قيل لبقر الوحش عين، والثور أعين، والبقرة عيناء. }كأنهن بيض مكنون} أي مصون. قال الحسن وابن زيد: شبهن ببيض النعام، تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار، فلونها أبيض في صفرة وهو حسن ألوان النساء. وقال ابن عباس وابن جبير والسدي: شبهن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي. وقال عطاء: شبهن بالسحاء الذي يكون بين القشرة العليا ولباب البيض. وسحاة كل شيء: قشره والجمع سحا؛ قاله الجوهري. ونحوه قول الطبري، قال: هو القشر الرقيق، الذي على البيضة بين ذلك. وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والعرب تشبه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها؛ قال امرؤ القيس: وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة: كأنه بيض النعام المغطى بالريش. وقيل: المكنون المصون عن الكسر؛ أي إنهن عذارى. وقيل: المراد بالبيض اللؤلؤ؛ كقوله تعالى وإنما ذكر المكنون والبيض جمع؛ لأنه رد النعت إلى اللفظ. {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قال قائل منهم إني كان لي قرين، يقول أئنك لمن المصدقين، أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون، قال هل أنتم مطلعون، فاطلع فرآه في سواء الجحيم، قال تالله إن كدت لتردين، ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين، أفما نحن بميتين، إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين، إن هذا لهو الفوز العظيم، لمثل هذا فليعمل العاملون} قوله تعالى}فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} أي يتفاوضون فيما بينهم أحاديثهم في الدنيا. وهو من تمام الأنس في الجنة. وهو معطوف على معنى }يطاف عليهم} المعنى يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشراب. قال بعضهم: فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا؛ إلا أنه جيء به ماضيا على عادة الله تعالى في إخباره. }قال قائل منهم} أي من أهل الجنة }إني كان لي قرين} أي صديق ملازم }يقول أئنك لمن المصدقين} أي بالمبعث والجزاء. وقال سعيد بن جبير: قرينه شريكه. وقد مضى في }الكهف} ذكرهما وقصتهما والاختلاف في اسميهما مستوفى عند قوله تعالى وأنشد الفراء: والفاعلونه. وأنشد سيبويه وحده: وهذا شاذ خارج عن كلام العرب، وما كان مثل هذا لم يحتج به في كتاب الله عز وجل، ولا يدخل في الفصيح. وقد قيل في توجيهه: إنه أجرى اسم الفاعل مجرى المضارع لقربه منه، فجرى }مطلعون} مجرى يطلعون. ذكره أبو الفتح عثمان بن جني وأنشد: أقائلن أحضروا الشهودا فأجرى أقائلن مجرى أتقولن. وقال ابن عباس في قوله تعالى}هل أنتم مطلعون. فاطلع فرآه} إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار وأهلها. وكذلك قال كعب فيما ذكر ابن المبارك، قال: إن بين الجنة والنار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى، قال الله تعالى}فاطلع فرآه في سواء الجحيم} أي في وسط النار والحسك حواليه؛ قاله ابن مسعود. ويقال: تعبت حتى انقطع سوائي: أي وسطي. وعن أبي عبيدة: قال لي عيسى بن عمر: كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائي. وعن قتادة قال: قال بعض العلماء: لولا أن الله جل وعز عرفه إياه لما عرفه، لقد تغير حبره وسبره. فعند ذلك يقول}تالله إن كدت لتردين} }إن} مخففة من الثقيلة دخلت على كاد كما تدخل على كان. ونحوه قوله تعالى}أفما نحن بميتين} وقرئ }بمائتين} والهمزة في }أفما} للاستفهام دخلت على فاء العطف، والمعطوف محذوف معناه أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين ولا معذبين. }إلا موتتنا الأولى} يكون استثناء ليس من الأول ويكون مصدرا؛ لأنه منعوت. وهو من قول أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت، ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت. وقيل: هو من قول المؤمن على جهة الحديث بنعمة الله في أنهم لا يموتون ولا يعذبون؛ أي هذه حالنا وصفتنا. وقيل: هو من قول المؤمن توبيخا للكافر لما كان ينكره من البعث، وأنه ليس إلا الموت في الدنيا. ثم قال المؤمن مشيرا إلى ما هو فيه؛ }إن هذا لهو الفوز العظيم} يكون }هو} مبتدأ وما بعده خبر عنه والجملة خبر إن. ويجوز أن يكون }هو} فاصلا. }لمثل هذا فليعمل العاملون} يحتمل أن يكون من كلام المؤمن لما رأى ما أعد الله له في الجنة وما أعطاه قال}لمثل هذا} العطاء والفضل }فليعمل العاملون} نظير ما قال له الكافر {أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم، إنا جعلناها فتنة للظالمين، إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون، ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم، ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم} قوله تعالى}أذلك خير} مبتدأ وخبر، وهو من قول الله جل وعز. }نزلا} على البيان؛ والمعنى أنعيم الجنة خير نزلا. }أم شجرة الزقوم} والنزل في اللغة الرزق الذي له سعة - النحاس - وكذا النزل إلا أنه يجوز أن يكون النزل بإسكان الزاي لغة، ويجوز أن يكون أصله النزل؛ ومنه أقيم للقوم نزلهم، واشتقاقه أنه الغذاء الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه. وقد مضى هذا في آخر سورة }آل عمران} وشجرة الزقوم مشتقة من التزقم وهو البلع على جهد لكراهتها ونتنها. قال المفسرون: وهي في الباب السادس، وأنها تحيا بلهب النار كما تحيا الشجرة ببرد الماء؛ فلا بد لأهل النار من أن ينحدر إليها من كان فوقها فيأكلون منها، وكذلك يصعد إليها من كان أسفل. واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي تعرفها العرب أم لا على قولين: أحدهما أنها معروفة من شجر الدنيا. ومن قال بهذا اختلفوا فيها؛ فقال قطرب: إنها شجرة مرة تكون بتهامة من أخبث الشجر. وقال غيره: بل هو كل نبات قاتل. القول الثاني: إنها لا تعرف في شجر الدنيا. فلما نزلت هذه الآية في شجرة الزقوم قالت كفار قريش: ما نعرف هذه الشجرة. فقدم عليهم رجل من إفريقية فسألوه فقال: هو عندنا الزُبد والتمر. فقال ابن الزبعري: أكثر الله في بيوتنا الزقوم فقال أبو جهل لجاريته: زقمينا؛ فأتته بزبد وتمر. ثم قال لأصحابه: تزقموا؛ هذا الذي يخوفنا به محمد؛ يزعم أن النار تنبت الشجر، والنار تحرق الشجر. قوله تعالى}إنا جعلناها فتنة للظالمين} أي المشركين، وذلك أنهم قالوا: كيف تكون في النار شجرة وهي تحرق الشجر؟ وقد مضى هذا المعنى في }سبحان} واستخفافهم في هذا كقولهم في قوله تعالى قوله تعالى}إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم} أي قعر النار ومنها منشؤها ثم هي متفرعة في جهنم. }طلعها} أي ثمرها؛ سمي طلعا لطلوعه. }كأنه رؤوس الشياطين} قيل: يعني الشياطين بأعيانهم شبهها برؤوسهم لقبحهم، ورؤوس الشياطين متصور في النفوس وإن كان غير مرئي. ومن ذلك قولهم لكل قبيح هو كصورة الشيطان، ولكل صورة حسنة هي كصورة ملك. ومنه قوله تعالى مخبرا عن صواحب يوسف وإن كانت الغول لا تعرف؛ ولكن لما تصور من قبحها في النفوس. وقد قال الله تعالى الواحدة حماطة. والأعرف الذي له عف. وقال الشاعر يصف ناقته: التعمج: الاعوجاج في السير. وسهم عموج: يتلوى في ذهابه. وتعمجت الحية: إذا تلوت في سيرها. وقال يصف زمام الناقة: وقيل: إنما شبه ذلك بنبت قبيح في اليمن يقال له الأستن والشيطان. قال النحاس: وليس ذلك معروفا عند العرب. الزمخشري: هو شجر خشن منتن مر منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين. النحاس: وقيل: الشياطين ضرب من الحيات قباح. }فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون} فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة. وقال في }الغاشية] {إنهم ألفوا آباءهم ضالين، فهم على آثارهم يهرعون، ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين، ولقد أرسلنا فيهم منذرين، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين، إلا عباد الله المخلصين} قوله تعالى}إنهم ألفوا آباءهم ضالين} أي صادفوهم كذلك فاقتدوا بهم. }فهم على آثارهم يهرعون} أي يسرعون؛ عن قتادة. وقال مجاهد: كهيئة الهرولة. قال الفراء: الإهراع الإسراع برعدة. وقال أبو عبيدة}يهرعون} يستحثون من خلفهم. ونحوه قول المبرد. قال: المهرع المستحث؛ يقال: جاء فلان يهرع إلى النار إذا استحثه البرد إليها. وقيل: يزعجون من شدة الإسراع؛ قال الفضل. الزجاج: يقال هرع وأهرع إذا استحث وأزعج. قوله تعالى}ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين} أي من الأمم الماضية. }ولقد أرسلنا فيهم منذرين} أي رسلا أنذروهم العذاب فكفروا. }فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} أي آخر أمرهم. }إلا عباد الله المخلصين} أي الذين استخلصهم الله من الكفر. وقد تقدم. ثم قيل: هو استثناء من }المنذَرين}. وقيل هو من قوله تعالى}ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين}. {ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون، ونجيناه وأهله من الكرب العظيم، وجعلنا ذريته هم الباقين، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على نوح في العالمين، إنا كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين، ثم أغرقنا الآخرين} قوله تعالى}ولقد نادانا نوح} من النداء الذي هو الاستغاثة؛ ودعا قيل بمسألة هلاك قومه فقال قوله تعالى}وتركنا عليه في الآخرين} أي تركنا عليه ثناء حسنا في كل أمة، فإنه محبب إلى الجميع؛ حتى إن في المجوس من يقول إنه أفريدون. روى معناه عن مجاهد وغيره. وزعم الكسائي أن فيه تقديرين: أحدهما }وتركنا عليه في الآخرين} يقال}سلام على نوح} أي تركنا عليه هذا الثناء الحسن. وهذا مذهب أبي العباس المبرد. أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية؛ يعني يسلمون له تسليما ويدعون له؛ وهو من الكلام المحكي؛ كقوله تعالى قوله تعالى}إنا كذلك نجزي المحسنين} أي نبقي عليهم الثناء الحسن. والكاف في موضع نصب؛ أي جزاء كذلك. }إنه من عبادنا المؤمنين} هذا بيان إحسانه. قوله تعالى}ثم أغرقنا الآخرين} أي من كفر. وجمعه أُخر. والأصل فيه أن يكون معه }من} إلا أنها حذفت؛ لأن المعنى معروف، ولا يكون آخرا إلا وقبله شيء من جنسه. }ثم} ليس للتراخي ها هنا بل هو لتعديد النعم؛ كقول {وإن من شيعته لإبراهيم، إذ جاء ربه بقلب سليم، إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون، أإفكا آلهة دون الله تريدون، فما ظنكم برب العالمين، فنظر نظرة في النجوم، فقال إني سقيم، فتولوا عنه مدبرين} قوله تعالى}وإن من شيعته لإبراهيم} قال ابن عباس: أي من أهل دينه. وقال مجاهد: أي على منهاجه وسنته. قال الأصمعي: الشيعة الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد. وقال الكلبي والفراء: المعنى وإن من شيعة محمد لإبراهيم. فالهاء في }شيعته} على هذا لمحمد عليه السلام. وعلى الأول لنوح وهو أظهر، لأنه هو المذكور أولا، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان هود وصالح، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة؛ حكاه الزمخشري. قوله تعالى}إذ جاء ربه بقلب سليم} أي مخلص من الشرك والشك. وقال عوف الأعرابي: سألت محمد بن سيرين ما القلب السليم؟ فقال: الناصح لله عز وجل في خلقه. وذكر الطبري عن غالب القطان وعوف وغيرهما عن محمد بن سيرين أنه كان يقول للحجاج: مسكين أبو محمد! إن عذبه الله فبذنبه، وإن غفر له فهنيئا له، وإن كان قلبه سليما فقد أصاب الذنوب من هو خير منه. قال عوف: فقلت لمحمد ما القلب السليم؟ قال: أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. وقال هشام بن عروة: كان أبي يقول لنا: يا بني لا تكونوا لعانين، ألم تروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئا قط، فقال تعالى}إذ جاء ربه بقلب سليم}. ويحتمل مجيئه إلى ربه وجهين: أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته؛ الثاني عند إلقائه في النار. {إذ قال لأبيه} }لأبيه} وهو آزر، وقد مضى الكلام فيه. }وقومه ماذا تعبدون} تكون }ما} في موضع رفع بالابتداء و}ذا} خبره. ويجوز أن تكون }ما} و}ذا} في موضع نصب بـ }تعبدون}. }أئفكا} نصب على المفعول به؛ بمعنى أتريدون إفكا. قال المبرد: والإفك أسوأ الكذب، وهو الذي لا يثبت ويضطرب، ومنه ائتفكت بهم الأرض. }آلهة} بدل من إفك }دون الله تريدون} أي تعبدون. ويجوز أن يكون حالا بمعنى أتريدون ألهة من دون الله آفكين. }فما ظنكم برب العالمين} أي ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ فهو تحذير، مثل قوله قوله تعالى}فنظر نظرة في النجوم} قال ابن زيد عن أبيه: أرسل إليه ملكهم إن غدا عيدنا فاخرج معنا، فنظر إلى نجم طالع فقال: إن هذا يطلع مع سقمي. وكان علم النجوم مستعملا عندهم منظورا فيه، فأوهمهم هو من تلك الجهة، وأراهم من معتقدهم عذرا لنفسه؛ وذلك أنهم كانوا أهل رعاية وفلاحة، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم. وقال ابن عباس: كان علم النجوم من النبوة، فلما حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون أبطل ذلك، فكان نظر إبراهيم فيها علما نبويا. وحكى جويبر عن الضحاك. كان علم النجوم باقيا إلى زمن عيسى عليه السلام، حتى دخلوا عليه في موضع لا يطلع عليه منه، فقالت لهم مريم: من أين علمتم بموضعه؟ قالوا: من النجوم. فدعا ربه عند ذلك فقال: اللهم لا تفهمهم في علمها، فلا يعلم علم النجوم أحد؛ فصار حكمها في الشرع محظورا، وعلمها في الناس مجهولا. قال الكلبي: وكانوا في قرية بين البصرة والكوفة يقال لهم هرمز جرد، وكانوا ينظرون في النجوم. فهذا قول. وقال الحسن: المعنى أنهم لما كلفوه الخروج معهم تفكر فيما يعمل. فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي؛ أي فيما طلع له منه، فعلم أن كل حي يسقم فقال. }إني سقيم}. الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره: نظر في النجوم. وقيل: كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تغشاه فيها الحمى. وقيل: المعنى فنظر فيما نجم من الأشياء فعلم أن لها خالقا. ومدبرا، وأنه يتغير كتغيرها. فقال}إني سقيم}. وقال الضحاك: معنى }سقيم} سأسقم سقم الموت؛ لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت، وهذا تورية وتعريض؛ كما قال للملك لما سأل عن سارة هي أختي؛ يعني أخوة الدين. وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك أيضا أشار لهم إلى مرض وسقم يعدي كالطاعون، وكانوا يهربون من الطاعون، }فـ} لذلك }تولوا عنه مدبرين} أي فارين منه خوفا من العدوى. و قلت: وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس فقالوا: مات وهو صحيح! فقال أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه! فإبراهيم صادق، لكن لما كان الأنبياء لقرب محلهم واصطفائهم عد هذا ذنبا؛ ولهذا قال {فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون، ما لكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضربا باليمين، فأقبلوا إليه يزفون، قال أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وما تعملون} قوله تعالى}فراغ إلى آلهتهم} قال السدي: ذهب إليهم. وقال أبو مالك: جاء إليهم. وقال قتادة: مال إليهم. وقال الكلبي: أقبل عليهم. وقيل: عدل. والمعنى متقارب. فراغ يروغ روغا وروغانا إذا مال. وطريق رائغ أي مائل. وقال الشاعر: فقال}ألا تأكلون} فخاطبها كما يخاطب من يعقل؛ لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة. وكذا قيل: كان بين يدي الأصنام طعام تركوه ليأكلوه إذا رجعوا من العيد، وإنما تركوه لتصيبه بركة أصنامهم بزعمهم. وقيل: تركوه للسدنة. وقيل: قرب هو إليها طعاما على جهة الاستهزاء؛ فقال}ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون}. }فراغ عليهم ضربا باليمين} خص الضرب باليمين لأنها أقوى والضرب بها أشد؛ قال الضحاك والربيع بن أنس. وقيل: المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال ومن قرأ}يزفون} فمعناه يزفون غيرهم أي يحملونهم على التزفيف. وعلى هذا فالمفعول محذوف. قال الأصمعي: أزففت الإبل أي حملتها على أن تزف. وقيل: هما لغتان يقال: زف القوم وأزفوا، وزففت العروس وأزففتها وازدففتها بمعنى، والمزفة: المحفة التي تزف فيها العروس؛ حكي ذلك عن الخليل. النحاس}ويزفون} بضم الياء. زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء وشبهها بقولهم: أطردت الرجل أي صيرته إلى ذلك. وطردته نحيته؛ وأنشد هو وغيره: أي صير إلى ذلك؛ فكذلك }يزفون} يصيرون إلى الزفيف. قال محمد بن يزيد: الزفيف الإسراع. وقال أبو إسحاق: الزفيف أول عدو النعام. وقال أبو حاتم: وزعم الكسائي أن قوما قرؤوا }فأقبلوا إليه يزفون} خفيفة؛ من وزف يزف، مثل وزن يزن. قال النحاس: فهذه حكاية أبي حاتم وأبو حاتم لم يسمع من الكسائي شيئا. و وى الفراء وهو صاحب الكسائي عن الكسائي أنه لا يعرف }يزفون} مخففة. قال الفراء: وأنا لا أعرفها. قال أبو إسحاق: وقد عرفها غيرهما أنه يقال وزف يزف إذا أسرع. قال النحاس: ولا نعلم أحدا قرأ }يزفون}. قلت: هي قراءة عبدالله بن يزيد فيما ذكر المهدوي. الزمخشري: و}يزفون} على البناء للمفعول. }يزفون} من زفاه إذا حداه؛ كأن بعضهم يزف بعضا لتسارعهم إليه. وذكر الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميقع}يزفون} بالراء من رفيف النعام، وهو ركض بين المشي والطيران. قوله تعالى}قال أتعبدون ما تنحتون} فيه حذف؛ أي قالوا من فعل هذا بآلهتنا، فقال محتجا}أتعبدون ما تنحون} أي أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم تنجرونها. والنحت النجر والبري نحته ينحته بالكسر نحتا أي براه. والنحاتة البراية والمنحت ما ينحت به. }والله خلقكم وما تعملون} }ما} في موضع نصب أي وخلق ما تعملونه من الأصنام، يعني الخشب والحجارة وغيرهما؛ كقوله {قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم، فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين} قوله تعالى}قالوا ابنوا له بنيانا} أي تشاوروا في أمره لما غلبهم بالحجة حسب ما تقدم في }الأنبياء} بيانه فـ }قالوا ابنوا له بنيانا} تملؤونه حطبا فتضرمونه، ثم ألقوه فيه وهو الجحيم. قال ابن عباس: بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا، وملأوه نارا وطرحوه فيها. وقال ابن عمرو بن العاص: فلما صار في البنيان قال: حسبي الله ونعم الوكيل. والألف واللام في }الجحيم} تدل على الكناية؛ أي في جحيمه؛ أي في جحيم ذلك البنيان. وذكر الطبري: أن قائل ذلك اسمه الهيزن رجل من أعراب فارس وهم الترك، وهو الذي جاء فيه الحديث: {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين، رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم} هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة. وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، وذلك حين خلصه الله من النار }قال إن ذاهب إلى ربي} أي مهاجر من بلد قومي ومولدي إلى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه }سيهدين} فيما نويت إلى الصواب. قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة، إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام. وقيل: ذاهب بعملي وعبادتي، وقلبي ونيتي. فعلى هذا ذهابه بالعمل لا بالبدن. وقد مضى بيان هذا في }الكهف} مستوفى. وعلى الأول بالمهاجرة إلى الشام وبيت القدس. وقيل: خرج إلى حران فأقام بها مدة. ثم قيل: قال ذلك لمن فارقه من قومه؛ فيكون ذلك توبيخا لهم. وقيل: قاله لمن هاجر معه من أهله؛ فيكون ذلك منه ترغيبا. وقيل: قال هذا قبل إلقائه في النار. وفيه على هذا القول تأويلان: أحدهما: إني ذاهب إلى ما قضاه علي ربي. الثاني: إني ميت؛ كما يقال لمن مات: قد ذهب إلى الله تعالى؛ لأنه عليه السلام تصور أنه يموت بإلقائه في النار، على المعهود من حالها في تلف ما يلقى فيها، إلى أن قيل لها}كوني بردا وسلاما} فحينئذ سلم إبراهيم منها. وفي قوله}سيهدين} على هذا القول تأويلان: أحدهما }سيهدين} إلى الخلاص منها. الثاني: إلى الجنة. وقال سليمان ابن صرد وهو ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم: لما أرادوا إلقاء إبراهيم في النار جعلوا يجمعون له الحطب؛ فجعلت المرأة العجوز تحمل على ظهرها وتقول: اذهب به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا؛ فلما ذهب به ليطرح في النار }قال إني ذاهب إلى ربي}. فلما طرح في النار قال: (حسبي الله ونعم الوكيل) فقال الله تعالى قوله تعالى}رب هب لي من الصالحين} لما عرفه الله أنه مخلصه دعا الله ليعضده بولد يأنس به في غربته. وقد مضى في }آل عمران} القول في هذا. وفي الكلام حذف؛ أي هب لي ولدا صالحا من الصالحين، وحذف مثل هذا كثير. قال الله تعالى}فبشرناه بغلام حليم} أي أنه يكون حليما في كبره فكأنه بشر ببقاء ذلك الولد؛ لأن الصغير لا يوصف بذلك، فكانت البشرى على ألسنة الملائكة كما تقدم في }هود}. ويأتي أيضا في }الذاريات}. {فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على إبراهيم، كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين، وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين، وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين} قوله تعالى}فلما بلغ معه السعي} أي فوهبنا له الغلام؛ فلما بلغ مع المبلغ الذي يسعى مع أبيه في أمور دنياه معينا له على أعماله }قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك}. وقال مجاهد}فلما بلغ معه السعي} أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم. وقال الفراء: كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة. وقال ابن عباس: هو احتلام. قتادة: مشى مع أبيه. الحسن ومقاتل: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة. ابن زيد: هو السعي في العبادة. ابن عباس: صام وصلى، ألم تسمع الله عز وجل يقول واختلف العلماء في المأمور بذبحه. فقال أكثرهم: الذبيح إسحاق. وممن قال بذلك العباس بن عبدالمطلب وابنه عبدالله وهو الصحيح عنه. روى الثوري وابن جريج يرفعانه إلى ابن عباس قال: الذبيح إسحاق. وهو الصحيح عن عبدالله بن مسعود أن رجلا قال له: يا ابن الأشياخ الكرام. فقال عبدالله: ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم. وقد شرف به خص الإله نبينا وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت أمته فلا تنكر له شرفا به قد خصه التفضيل وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك! ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: قوله تعالى}قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى} قال مقاتل: رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات. وقال محمد بن كعب: كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظا ورقودا؛ فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم. وهذا ثابت في الخبر المرفوع، قال صلى الله عليه وسلم: قوله تعالى}فانظر ماذا ترى} قرأ أهل الكوفة غير عاصم }ماذا ترى} بضم التاء وكسر الراء من أرِى يُري. قال الفراء: أي فانظر ماذا ترى من صبرك وجزعك. قال الزجاج: لم يقل هذا أحد غيره، وإنما قال العلماء ماذا تشير؛ أي ما تريك نفسك من الرأي. وأنكر أبو عبيد }تُرى} وقال: إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة. وكذلك قال أبو حاتم. النحاس: وهذا غلط، وهذا يكون من رؤية العين وغيرها وهو مشهور، يقال: أريت فلانا الصواب، وأريته رشده، وهذا ليس من رؤية العين. الباقون }ترى} مضارع رأيت. وقد روي عن الضحاك والأعمش }ترى} غير مسمى الفاعل. ولم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله؛ أو لتقر عينه إذا رأى من ابنه طاعة في أمر الله فـ }قال ياأبت افعل ما تؤمر} أي ما تؤمر به فحذف الجار كما حذف من قوله: فوصل الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذفت الهاء؛ كقول قوله تعالى}فلما أسلما} أي انقادا لأمر الله. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعلي وضوان الله عليهم }فلما سلما} أي فوضا أمرهما إلى الله. وقال ابن عباس: استسلما. وقال قتادة: أسلم أحدهما نفسه لله عز وجل وأسلم الآخر ابنه. }وتله للجبين} قال قتادة: كبه وحول وجهه إلى القبلة. وجواب }لما} محذوف عند البصريين تقديره }فلما أسلما وتله للجبين} فديناه بكبش. وقال الكوفيون: الجواب }ناديناه} والواو زائدة مقحمة؛ كقوله أي انتحى، والواو زائدة. وقال أيضا: وقلبتم ظهر المجن لنا إن اللئيم الفاجر الخب أراد قلبتم. النحاس: والواو من حروف المعاني لا يجوز أن تزاد. وفي الخبر: إن الذبيح قال لإبراهيم عليه السلام حين أراد ذبحه: يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب؛ واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن، وأسرع مر السكين على حلقى ليكون الموت أهون علي وأقذفني للوجه؛ لئلا تنظر إلى وجهي فترحمني، ولئلا أنظر إلى الشفرة فأجزع، وإذا أتيت إلى أمي فأقرئها مني السلام. فلما جر إبراهيم عليه السلام السكين ضرب الله عليه صفيحة من نحاس، فلم تعمل السكين شيئا، ثم ضرب به على جبينه وحز في قفاه فلم تعمل السكين شيئا؛ فذلك قوله تعالى}وتله للجبين} كذلك فال ابن عباس: معناه كبه على وجهه فنودي }يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا} فالتفت فإذا بكبش؛ ذكره المهدوي. وقد تقدمت الإشارة إلى عدم صحته، وأن المعنى لما اعتقد الوجوب وتهيأ للعمل؛ هذا بهيئة الذبح، وهذا بصورة المذبوح، أعطيا محلا للذبح فداء ولم يكن هناك مر سكين. وعلى هذا يتصور النسخ قبل الفعل على ما تقدم. والله أعلم. قال الجوهري}وتله للجبين} أي صرعه؛ كما تقول: كبه لوجهه. الهروي: والتل الدفع والصرع؛ ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: قلت: واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه فقيل: بمكة في المقام. وقيل: في المنحر بمنى عند الجمار التي رمى بها إبليس لعنه الله؛ قاله ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب. وحكي عن سعيد بن جبير: أنه ذبحه على الصخرة التي بأصل ثبير بمنى. وقال ابن جريج: ذبحه بالشام وهو من بيت المقدس على ميلين. والأول أكثر؛ فإنه ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدل على أنه ذبحه بمكة. وقال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه من ميزاب الكعبة وقد يبس. أجاب من قال بأن الذبح وقع بالشام: لعل الرأس حمل من الشام إلى مكة. والله أعلم. قوله تعالى}إنا كذلك نجزي المحسنين} أي نجزيهم بالخلاص من الشدائد في الدنيا والآخرة. }إن هذا لهو البلاء المبين} أي النعمة الظاهرة؛ يقال: أبلاه الله إبلاء وبلاء إذا أنعم عليه. وقد يقال بلاه. قال زهير: فزعم قوم أنه جاء باللغتين. وقال آخرون: بل الثاني من بلاه يبلوه إذا اختبره، ولا يقال من الاختبار إلا بلاه يبلوه، ولا يقال من الابتلاء يبلوه. وأصل هذا كله من الاختبار أن يكون بالخير والشر؛ قال الله عز وجل قوله تعالى}وفديناه بذبح عظيم} الذبح اسم المذبوح وجمعه ذبوح؛ كالطحن اسم المطحون. والذبح بالفتح المصدر. }عظيم} أي عظيم القدر ولم يرد عظيم الجثة. وإنما عظم قدره لأنه فدى به الذبيح؛ أو لأنه متقبل. قال النحاس: عظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف. وأهل التفسير على أنه ههنا للشريف، أو المتقبل. وقال ابن عباس: هو الكبش الذي تقرب به هابيل، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله به إسماعيل. وعنه أيضا: أنه كبش أرسله الله من الجنة كان قد رعى في الجنة أربعين خريفا. وقال الحسن: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه، وهذا قول علي رصي الله عنه. فلما رآه إبراهيم أخذه فذبحه وأعتق ابنه. وقال: يا بني اليوم وهبت لي. وقال أبو إسحاق الزجاج: قد قيل أنه فدي بوعل، والوعل: التيس الجبلي. وأهل التفسير على أنه فدي بكبش. في هذه الآية دليل على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر. وهذا مذهب مالك وأصحابه. قالوا: أفضل الضحايا الفحول من الضأن، وإناث الضأن أفضل من فحل المعز، وفحول المعز خير من إناثها، وإناث المعز خير من الإبل والبقر. وحجتهم قوله سبحانه وتعالى}وفديناه بذبح عظيم} أي ضخم الجثة سمين، وذلك كبش لا جمل ولا بقرة. وروى مجاهد وغيره عن ابن عباس أنه سأل رجل: إني نذرت أن أنحر ابني؟ فقال: يجزيك كبش سمين، ثم قرأ}وفديناه بذبح عظيم}. وقال بعضهم: لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق. وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين. وأكثر ما ضحي به الكباش. وذكر ابن أبي شيبة عن ابن علية عن الليث عن مجاهد قال: الذبح العظيم الشاة. واختلفوا أيهما أفضل: الأضحية أو الصدقة بثمنها. فقال مالك وأصحابه: الضحية أفضل إلا بمنى؛ لأنه ليس موضع الأضحية؛ حكاه أبو عمر. وقال ابن المنذر: روينا عن بلال أنه قال: ما أبالي ألا أضحي إلا بديك ولأن أضعه في يتيم قد ترب فيه - هكذا قال المحدث - أحب إلي من أن أضحي به. وهذا قول الشعبي إن الصدقة أفضل. وبه قال مالك وأبو ثور. وفيه قول ثان: إن الضحية أفضل؛ هذا قول ربيعة وأبي الزناد. وبه قال أصحاب الرأي. زاد أبو عمر وأحمد بن حنبل قالوا: الضحية أفضل من الصدقة؛ لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد. ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل. وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله. فال أبو عمر: وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان؛ فمنها ما الضحية ليست بواجبة ولكنها سنة ومعروف. وقال عكرمة: كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين اشتري له لحما، ويقول: من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس. قال أبو عمر: ومجمل هذا وما روي عن أبي بكر وعمر أنهما لا يضحيان عند أهل العلم؛ لئلا يعتقد في المواظبة عليها أنها واجبة فرض، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم؛ لأنهم الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أمته، فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم. وقد حكى الطحاوي في مختصره: وقال أبو حنيفة: الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار، ولا تجب على المسافر. قال: ويجب على الرجل من الأضحية على ولده الصغير مثل الذي يجب عليه من نفسه. وخالفه أبو يوسف ومحمد فقالا: ليست بواجبة ولكنها سنة غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها. قال: وبه نأخذ. قال أبو عمر: وهذا قول مالك؛ قال: لا ينبغي لأحد تركها مسافرا كان أو مقيما، فإن تركها فبئس ما صنع إلا أن يكون له عذر إلا الحاج بمنى. وقال الإمام الشافعي: هي سنة على جميع الناس وعلى الحاج بمنى وليست بواجبة. وقد احتج من أوجبها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بردة بن نيار أن يعيد ضحية أخرى؛ لأن ما لم يكن فرضا لا يؤمر فيه بالإعادة. احتج آخرون ب والذي يضحى به بإجماع المسلمين الأزواج الثمانية: وهي الضأن والمعز والإبل والبقر. قال ابن المنذر: وقد حكي عن الحسن بن صالح أنه قال: يضحى ببقرة الوحش عن سبعة، وبالظبي عن رجل. وقال الإمام الشافعي: لو نزا ثور وحشي على بقرة إنسية، أو ثور إنسي على بقرة وحشية لا يجوز شيء من هذا أضحية. وقال أصحاب الرأي: جائز؛ لأن ولدها بمنزلة أمه. وقال أبو ثور: يجوز إذا كان منسوبا إلى الأنعام. وقد مضى في سورة }الحج} الكلام في وقت الذبح والأكل من الأضحية مستوفى. ودلت الآية على أن من نذر نحر ابنه أو ذبحه أنه يفديه بكبش كما فدى به إبراهيم ابنه؛ قال ابن عباس. وعنه رواية أخرى: ينحر مائة من الإبل كما فدى بها عبدالمطلب ابنه؛ روى الروايتين عنه الشعبي. وروى عنه القاسم بن محمد: يجزيه كفارة يمين. وقال مسروق: لا شيء عليه. وقال الشافعي: هو معصية يستغفر الله منها. وقال أبو حنيفة: هي كلمة يلزمه بها في ولده ذبح شاة ولا يلزمه في غير ولده شيء. قال محمد: عليه في الحلف بنحر عبده مثل الذي عليه في الحلف بنحر ولده إذا حنث. وذكر ابن عبدالحكم عن مالك فيمن قال: أنا أنحر ولدي عند مقام إبراهيم في يمين ثم حنث فعليه هدي. قال: ومن نذر أن ينحر ابنه ولم يقل عند مقام إبراهيم ولا أراد فلا شيء عليه. قال: ومن جعل ابنه هديا أهدى عنه؛ قال القاضي ابن العربي: يلزمه شاة كما قال أبو حنيفة؛ لأن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعا، فألزم الله إبراهيم ذبح الولد، وأخرجه عنه بذبح شاة. وكذلك إذا نذر العبد ذبح ولده يلزمه أن يذبح شاة؛ لأن الله تعالى قال قوله تعالى}وتركنا عليه في الآخرين} أي على إبراهيم ثناء جميلا في الأمم بعده؛ فما من أمة إلا تصلي عليه وتحبه. وقيل: هو دعاء إبراهيم عليه السلام قوله تعالى}وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} قال ابن عباس: بشر بنبوته وذهب إلى أن البشارة كانت مرتين؛ فعلى هذا الذبيح هو إسحاق بشر بنبوته جزاء على صبره ورضاه بأمر ربه واستسلامه له. }وباركنا عليه وعلى إسحاق} أي ثنينا عليهما النعمة وقيل كثرنا ولدهما؛ أي باركنا على إبراهيم وعلى أولاده، وعلى إسحاق حين أخرج أنبياء بني إسرائيل من صلبه. وقد قيل: إن الكناية في }عليه} تعود على إسماعيل وأنه هو الذبيح. قال المفضل: الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل، وذلك أنه قص قصة الذبيح، فلما قال في آخر القصة}وفديناه بذبح عظيم} ثم قال}سلام عل إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين} قال}وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين. وباركنا عليه} أي على إسماعيل }وعلى إسحاق} كنى عنه؛ لأنه قد تقدم ذكره. ثم قال}ومن ذريتهما} فدل على أنها ذرية إسماعيل وإسحاق، وليس تختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. قلت: قد ذكرنا أولا ما يدل على أن إسحاق أكبر من إسماعيل، وأن المبشر به هو إسحاق بنص التنزيل؛ فإذا كانت البشارة بإسحاق نصا فالذبيح لا شك هو إسحاق، وبشر به إبراهيم مرتين؛ الأولى بولادته والثانية بنبوته؛ كما قال ابن عباس. ولا تكون النبوة إلا في حال الكبر و}نبيا} نصب على الحال والهاء في }عليه} عائدة إلى إبراهيم وليس لإسماعيل في الآية ذكر حتى ترجع الكناية إليه. وأما ما روي من طريق معاوية قال: سمعت رجلا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن الذبيحين؛ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال معاوية: إن عبدالمطلب لما حفر بئر زمزم، نذر لله إن سهل عليه أمرها ليذبحن أحد ولده لله، فسهل الله عليه أمرها، فوقع السهم على عبدالله، فمنعه أخواله بنو مخزوم؛ وقالوا: أفد ابنك؛ ففداه بمائة من الإبل وهو الذبيح، وإسماعيل هو الذبيح الثاني فلا حجة فيه؛ لأن سنده لا يثبت على ما ذكرناه في كتاب الأعلام في معرفة مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ ولأن العرب تجعل العم أبا؛ قال الله تعالى قوله تعالى}ومن ذريتهما محسن وظالم} لما ذكر البركة في الذرية والكثرة قال: منهم محسن ومنهم مسيء، وإن المسيء لا تنفعه بنوة النبوة؛ فاليهود والنصارى وإن كانوا من ولد إسحاق، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل، فلا بد من الفرق بين المحسن والمسيء والمؤمن والكافر، وفي التنزيل
|