الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
مكية إلا الآيات 12، 17، 114 فمدنية وآياتها 123 نزلت بعد يونس. مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية؛ وهي قوله تعالى {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} قوله تعالى{الر} تقدم القول فيه. }كتاب} بمعنى هذا كتاب. }أحكمت آياته} في موضع رفع نعت لكتاب. وأحسن ما قيل في معنى }أحكمت آياته} قول قتادة؛ أي جعلت محكمة كلها لا خلل فيها ولا باطل. والإحكام منع القول من الفساد، أي نظمت نظما محكما لا يلحقها تناقض ولا خلل. وقال ابن عباس: أي لم ينسخها كتاب، بخلاف التوراة والإنجيل. وعلى هذا فالمعنى؛ أحكم بعض آياته بأن جعل ناسخا غير منسوخ. وقد تقدم القول فيه. وقد يقع اسم الجنس على النوع؛ فيقال: أكلت طعام زيد؛ أي بعض طعامه. وقال الحسن وأبو العالية{أحكمت آياته} بالأمر والنهي. }ثم فصلت} بالوعد والوعيد والثواب والعقاب. وقال قتادة: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بالحلال والحرام. مجاهد: أحكمت جملة، ثم بينت بذكر آية آية بجميع ما يحتاج إليه من الدليل على التوحيد والنبوة والبعث وغيرها. وقيل: جمعت في اللوح المحفوظ، ثم فصلت في التنزيل. وقيل{فصلت} أنزلت نجما نجما لتتدبر. وقرأ عكرمة }فصلت} مخففا أي حكمت بالحق. }من لدن} أي من عند. }حكيم} أي محكم للأمور. }خبير} بكل كائن وغير كائن. {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} قوله تعالى{ألا تعبدوا إلا الله} قال الكسائي والفراء: أي بألا؛ أي أحكمت ثم فصلت بألا تعبدوا إلا الله. قال الزجاج: لئلا؛ أي أحكمت ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله. قيل: أمر رسوله أن يقول للناس ألا تعبدوا إلا الله. }إنني لكم منه} أي من الله. }نذير} أي مخوف من عذابه وسطوته لمن عصاه. }وبشير} بالرضوان والجنة لمن أطاعه. وقيل: هو من قول الله أولا وآخرا؛ أي لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير؛ أي الله نذير لكم من عبادة غيره، كما قال {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير، إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير} قوله تعالى{وأن استغفروا ربكم} عطف على الأول. }ثم توبوا إليه} أي ارجعوا إليه بالطاعة والعبادة. قال الفراء{ثم} هنا بمعنى الواو؛ أي وتوبوا إليه؛ لأن الاستغفار هو التوبة، والتوبة هي الاستغفار. وقيل: استغفروه من سالف ذنوبكم، وتوبوا إليه من المستأنف متى وقعت منكم. قال بعض الصلحاء: الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين. وقد تقدم هذا المعنى في }آل عمران} مستوفى. وفي }البقرة} عند قوله قوله تعالى{إلى الله مرجعكم} أي بعد الموت. }وهو على كل شيء قدير} من ثواب وعقاب. {ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور} قوله تعالى{ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه} أخبر عن معاداة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويظنون أنه تخفي على الله أحوالهم. }يثنون صدورهم} أي يطوونها على عداوة المسلمين ففيه هذا الحذف، قال ابن عباس: يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة ويظهرون خلافه. نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو الكلام حلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يجب، وينطوي له بقلبه على ما يسوء. وقال مجاهد{يثنون صدورهم} شكا وامتراء. وقال الحسن: يثنونها على ما فيها من الكفر. وقيل: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه وغطى وجهه، لكيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان؛ حكي معناه عن عبدالله بن شداد فالهاء في }منه} تعود على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: قال المنافقون إذا غلقنا أبوابنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ فنزلت الآية. وقيل: إن قوما من المسلمين كانوا يتنسكون بستر أبدانهم ولا يكشفونها تحت السماء، فبين الله تعالى أن التنسك ما اشتملت عليه قلوبهم من معتقد، وأظهروه من قول وعمل. وروى ابن جرير عن محمد ابن عباد بن جعفر قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول{ألا أنهم تثنوي صدورهم ليستخفوا منه} قال: كانوا لا يجامعون النساء، ولا يأتون الغائط وهم يفضون إلى السماء، فنزلت هذه الآية. وروى غير محمد بن عباد عن ابن عباس{ألا إنهم تثنوي صدورهم} بغير نون بعد الواو، في وزن تنطوي؛ ومعنى }تثنوي} والقراءتين الأخريين متقارب؛ لأنها لا تثنوي حتى يثنوها. وقيل: كان بعضهم ينحني على بعض يساره في الطعن على المسلمين، وبلغ من جهلهم أن توهموا أن ذلك يخفي على الله تعالى{ليستخفوا} أي ليتواروا عنه؛ أي عن محمد أو عن الله. }ألا حين يستغشون ثيابهم} أي يغطون رؤوسهم بثيابهم. قال قتادة: أخفى ما يكون العبد إذا حنى ظهره، واستغشى ثوبه، وأضمر في نفسه همه. {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} قوله تعالى{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} }ما} نفي و}من} زائدة و}دابة} في موضع رفع؛ التقدير: وما دابة. }إلا على الله رزقها} }على} بمعنى }من}، أي من الله رزقها؛ يدل عليه قول، مجاهد: كل ما جاءها من رزق فمن الله. وقيل{على الله} أي فضلا لا وجوبا. وقيل: وعدا منه حقا. وقد تقدم بيان هذا المعنى في }النساء} وأنه سبحانه لا يجب عليه شيء. }رزقها} رفع بالابتداء، وعند الكوفيين بالصفة؛ وظاهر الآية العموم ومعناها الخصوصي؛ لأن كثيرا من الدواب هلك قبل أن يرزق. وقيل: هي عامة في كل دابة: وكل دابة لم ترزق رزقا تعيش به فقد رزقت روحها؛ ووجه النظم به قبل: أنه سبحانه أخبر برزق الجميع، وأنه لا يغفل عن تربيته، فكيف تخفى عليه أحوالكم يا معشر الكفار وهو يرزقكم؟ ! والدابة كل حيوان يدب. والرزق حقيقته ما يتغذى به الحي، ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده. ولا يجوز أن يكون الرزق بمعنى الملك؛ لأن البهائم ترزق وليس يصح وصفها بأنها مالكة لعلفها؛ وهكذا الأطفال ترزق اللبن ولا يقال: إن اللبن الذي في الثدي ملك للطفل. وقال تعالى تكفل بالأرزاق للخلق كلهم وللضب في البيداء والحوت في البحر قوله تعالى{ويعلم مستقرها} أي من الأرض حيث تأوي إليه. }ومستودعها} أي الموضع الذي تموت فيه فتدفن؛ قاله مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الربيع بن أنس{مستقرها} أيام حياتها. }ومستودعها} حيث تموت وحيث تبعث. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس{مستقرها} في الرحم }ومستودعها} في الصلب. وقيل{يعلم مستقرها} في الجنة أو النار. }ومستودعها} في القبر؛ يدل عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة وأهل النار {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} قوله تعالى{وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} تقدم في }الأعراف} بيانه والحمد لله. }وكان عرشه على الماء} بين أن خلق العرش والماء قبل خلق الأرض والسماء. قال كعب: خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد من مخافة الله تعالى؛ فلذلك يرتعد الماء إلى الآن وإن كان ساكنا، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إنه سئل عن قوله عز وجل{وكان عرشه على الماء} فقال: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. قوله تعالى{ليبلوكم أيكم أحسن عملا} أي خلق ذلك ليبتلي عباده بالاعتبار والاستدلال على كمال قدرته وعلى البعث. وقال قتادة: معنى }أيكم أحسن عملا} }أيكم} أتم عقلا. وقال الحسن وسفيان الثوري: أيكم أزهد في الدنيا. وذكر أن عيسى عليه السلام مر برجل نائم فقال: يا نائم قم فتعبد، فقال يا روح الله قد تعبدت، فقال (وبم تعبدت)؟ قال: قد تركت الدنيا لأهلها؛ قال: نم فقد فقت العابد بن الضحاك: أيكم أكثر شكرا. مقاتل: أيكم أتقى لله. ابن عباس: أيكم أعمل بطاعة الله عز وجل. وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم{أيكم أحسن عملا} قال: (أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله) فجمع الأقاويل كلها، وسيأتي في }الكهف} هذا أيضا إن شاء الله تعالى. وقد تقدم معنى الابتلاء. }ولئن قلت إنكم مبعوثون} أي دللت يا محمد على البعث. }من بعد الموت} وذكرت ذلك للمشركين لقالوا: هذا سحر. وكسرت (إن) لأنها بعد القول مبتدأة. وحكى سيبويه الفتح. }ليقولن الذين كفروا} فتحت اللام لأنه فعل متقدم لا ضمير فيه، وبعده }ليقولن} لأن فيه ضميرا. و}سحر} أي غرور باطل، لبطلان السحر عندهم. وقرأ حمزة والكسائي }إن هذا إلا سحر مبين} كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم. {ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} قوله تعالى{ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة} اللام في }لئن} للقسم، والجواب }ليقولن}. ومعنى }إلى أمة} إلى أجل معدود وحين معلوم؛ فالأمة هنا المدة؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين. وأصل الأمة الجماعة؛ فعبر عن الحين والسنين بالأمة لأن الأمة تكون فيها. وقيل: هو على حذف المضاف، والمعنى إلى مجيء أمة ليس فيها من يؤمن فيستحقون الهلاك. أو إلى انقراض أمة فيها من يؤمن فلا يبقى بعد انقراضها من يؤمن. والأمة اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه: فالأمة تكون الجماعة؛ كقوله تعالى {ليقولن ما يحبسه} يعني العذاب؛ وقالوا هذا إما تكذيبا للعذاب لتأخره عنهم، أو استعجالا واستهزاء؛ أي ما الذي يحبسه عنا. }ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم} قيل: هو قتل المشركين ببدر؛ وقتل جبريل المستهزئين على ما يأتي. }وحاق بهم} أي نزل وأحاط. }ما كانوا به يستهزئون} أي جزاء ما كانوا به يستهزئون، والمضاف محذوف. {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور} قوله تعالى{ولئن أذقنا الإنسان} الإنسان اسم شائع للجنس في جميع الكفار. ويقال: إن الإنسان هنا الوليد بن المغيرة وفيه نزلت. وقيل: في عبدالله بن أبي أمية المخزومي. }رحمة} أي نعمة. }ثم نزعناها منه} أي سلبناه إياها. }إنه ليؤوس} أي يائس من الرحمة. }كفور} للنعم جاحد لها؛ قال ابن الأعرابي. النحاس{ليؤوس} من يئس ييأس، وحكى سيبويه يئس ييئس على فعل يفعل، ونظير حسب يحسب ونعم ينعم، ويأس ييئس؛ وبعضهم يقول: يئس ييئس؛ ولا يعرف في الكلام [العربي] إلا هذه الأربعة الأحرف من السالم جاءت. على فعل يفعل؛ وفي واحد منها اختلاف. وهو يئس و}يؤوس} على التكثير كفخور للمبالغة. قوله تعالى{ولئن أذقناه نعماء} أي صحة ورخاء وسعة في الرزق. }بعد ضراء مسته} أي بعد ضر وفقر وشدة. }ليقولن ذهب السيئات عني} أي الخطايا التي تسوء صاحبها من الضر والفقر. }إنه لفرح فخور} أي يفرح ويفخر بما ناله من السعة وينسى شكر الله عليه؛ يقال: رجل فاخر إذا افتخر - وفخور للمبالغة - قال يعقوب القارئ: وقرأ بعض أهل المدينة (لفرح) بضم الراء كما يقال: رجل فطن وحذر وندس. ويجوز في كلتا اللغتين الإسكان لثقل الضمة والكسرة. {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير} قوله تعالى{إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات} يعني المؤمنين، مدحهم بالصبر على الشدائد. وهو في موضع نصب. قال الأخفش: هو استثناء ليس من الأول؛ أي لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات في حالتي النعمة والمحنة. وقال، الفراء: هو استثناء من }ولئن أذقناه} أي من الإنسان، فإن الإنسان بمعنى الناس، والناس يشمل الكافر والمؤمن؛ فهو استثناء متصل وهو حسن. }أولئك لهم مغفرة} ابتداء وخبر }وأجر} معطوف. }كبير} صفة. {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} قوله تعالى{فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} أي فلعلك لعظيم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب تتوهم أنهم يزيلونك عن بعض ما أنت عليه. وقيل: إنهم لما قالوا{لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك} هم أن يدع سب آلهتهم فنزلت هذه الآية؛ فالكلام معناه الاستفهام؛ أي هل أنت تارك ما فيه سب آلهتهم كما سألوك؟ وتأكد عليه الأمر في الإبلاغ؛ كقوله {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} قوله تعالى{أم يقولون افتراه} }أم} بمعنى بل، وقد تقدم في }يونس} أي قد أزحت علتهم وإشكالهم في نبوتك بهذا القرآن، وحججتهم به؛ فإن قالوا: افتريته - أي اختلقته - فليأتوا بمثله مفترى بزعمهم. }وادعوا من استطعتم من دون الله} أي من الكهنة والأعوان. {فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون} قوله تعالى{فإلم يستجيبوا لكم} }فإن لم يستجيبوا لكم} أي في المعارضة ولم تتهيأ لهم فقد قامت عليهم الحجة؛ إذ هم اللسن البلغاء، وأصحاب الألسن الفصحاء. }فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} واعلموا صدق محمد صلى الله عليه وسلم، }و} اعلموا }أن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون} استفهام معناه الأمر. وقد تقدم القول في معنى هذه الآية، وأن القرآن معجز في مقدمة الكتاب. والحمد لله. وقال{قل فأتوا} وبعده. }فإن لم يستجيبوا لكم} ولم يقل لك؛ فقيل: هو على تحويل المخاطبة من الإفراد، إلى الجمع تعظيما وتفخيما؛ وقد يخاطب الرئيس بما يخاطب به الجماعة. وقيل: الضمير في }لكم} وفي }فاعلموا} للجميع، أي فليعلم للجميع }أنما أنزل بعلم الله}؛ قاله مجاهد. وقيل: الضمير في }لكم} وفي }فاعلموا} للمشركين؛ والمعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المعاونة؛ ولا تهيأت لكم المعارضة }فاعلموا أنما أنزل بعلم الله}. وقيل: الضمير في }لكم} للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وفي }فاعلموا} للمشركين. {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} قوله تعالى{من كان} كان زائدة، ولهذا جزم بالجواب فقال{نوف إليهم} قاله الفراء. وقال الزجاج{من كان} في موضع جزم بالشرط، وجوابه }نوف إليهم} أي من يكن يريد؛ والأول في اللفظ ماضي والثاني مستقبل، كما قال زهير: واختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقيل: نزلت في الكفار؛ قال الضحاك، واختاره النحاس؛ بدليل الآية التي بعدها قال بعض العلماء: معنى هذه الآية ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة؛ وكذلك الآية التي في }الشورى} {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} قوله تعالى{أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار} إشارة إلى التخليد، والمؤمن لا يخلد؛ لقوله تعالى {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} قوله تعالى{أفمن كان على بينة من ربه} ابتداء والخبر محذوف؛ أي أفمن كان على بينة من ربه في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه من الفضل ما يتبين به كغيره ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها؟ ! عن علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن. وكذلك قال ابن زيد إن الذي على بينة هو من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم. }ويتلوه شاهد منه} من الله، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل المراد بقوله }أفمن كان على بينة من ربه} النبي صلى الله عليه وسلم والكلام راجع إلى قوله قوله تعالى{منه} أي من القرآن. }إنه الحق من ربك} أي القرآن من الله؛ قاله مقاتل. وقال الكلبي: المعنى فلا تك في مرية في أن الكافر في النار. }إنه الحق} أي القول الحق الكائن؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد جميع المكلفين. {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون} قوله تعالى{ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} أي لا أحد أظلم منهم لأنفسهم لأنهم افتروا على الله كذبا؛ فأضافوا كلامه إلى غيره؛ وزعموا أن له شريكا وولدا، وقالوا للأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله. }أولئك يعرضون على ربهم} أي يحاسبهم على أعمالهم }ويقول الأشهاد} يعني الملائكة الحفظة؛ عن مجاهد وغيره؛ وقال سفيان: سألت الأعمش عن (الأشهاد) فقال: الملائكة. الضحاك: هم الأنبياء والمرسلون؛ دليله قوله قوله تعالى{الذين يصدون عن سبيل الله} يجوز أن تكون }الذين} في موضع خفض نعتا للظالمين، ويجوز أن تكون في موضع رفع؛ أي هم الذين. وقيل: هو ابتداء خطاب من الله تعالى؛ أي هم الذين يصدون أنفسهم وغيرهم عن الإيمان والطاعة. }ويبغونها عوجا} أي يعدلون بالناس عنها إلى المعاصي والشرك. }وهم بالآخرة هم كافرون} أعاد لفظ }هم} تأكيدا. {أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} قوله تعالى{أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} أي فائتين من عذاب الله. وقال ابن عباس: لم يعجزوني أن آمر الأرض فتنخسف بهم. }وما كان لهم من دون الله من أولياء} يعني أنصارا، و}من} زائدة. وقيل{ما} بمعنى الذي تقديره: أولئك لم يكونوا معجزين، لا هم ولا الذين كانوا لهم من أولياء من دون الله؛ وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. }يضاعف لهم العذاب} أي على قدر كفرهم ومعاصيهم. }ما كانوا يستطيعون السمع} }ما} في موضع نصب على أن يكون المعنى: بما كانوا يستطيعون السمع. }وما كانوا يبصرون} ولم يستعملوا ذلك في استماع الحق وإبصاره. والعرب تقول: جزيته ما فعل وبما فعل؛ فيحذفون الباء مرة ويثبتونها أخرى؛ وأنشد سيبويه: ويجوز أن تكون }ما} ظرفا، والمعنى: يضاعف لهم أبدا، أي وقت استطاعتهم السمع والبصر، والله سبحانه يجعلهم في جهنم مستطيعي ذلك أبدا. ويجوز أن تكون }ما} نافية لا موضع لها؛ إذ الكلام قد تم قبلها، والوقف على العذاب كاف؛ والمعنى: ما كانوا يستطيعون في الدنيا أن يسمعوا سمعا ينتفعون به، ولا أن يبصروا إبصار مهتد. قال الفراء: ما كانوا يستطيعون السمع؛ لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ. وقال الزجاج: لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفقهوا عنه. قال النحاس: وهذا معروف في كلام العرب؛ يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان إذا كان ذلك ثقيلا عليه. {أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون، لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون} قوله تعالى{أولئك الذين خسروا أنفسهم} ابتداء وخبر. }وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي ضاع عنهم افتراؤهم وتلف. }لا جرم} للعلماء فيها أقوال؛ فقال الخليل وسيبويه{لا جرم} بمعنى حق، فـ }لا} و}جرم} عندهما كلمة واحدة، و}أن} عندهما في موضع رفع؛ وهذا قول الفراء ومحمد بن يزيد؛ حكاه النحاس. قال المهدوي: وعن الخليل أيضا أن معناها لابد ولا محالة، وهو قول الفراء أيضا؛ ذكره الثعلبي. وقال الزجاج{لا} ها هنا نفي وهو رد لقولهم: إن الأصنام تنفعهم؛ كأن المعنى لا ينفعهم ذلك، وجرم بمعنى كسب؛ أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وفاعل كسب مضمر، و}أن} منصوبة بجرم، كما تقول كسب جفاؤك زيدا غضبه عليك؛ وقال الشاعر: أي بما كسبت. وقال الكسائي: معنى }لا جرم} لا صد ولا منع عن أنهم. وقيل: المعنى لا قطع قاطع، فحذف الفاعل حين كثر استعماله؛ والجرم القطع؛ وقد جرم النخل واجترمه أي صرمه فهو جارم، وقوم وجرم وجرام وهذا زمن الجرام والجرام، وجرمت صوف الشاة أي جززته، وقد جرمت منه أي أخذت منه؛ مثل جلمت الشيء جلما أي قطعت، وجلمت الجزور أجلمها جلما إذا أخذت ما على عظامها من اللحم، وأخذت الشيء بجلمته - ساكنة اللام - إذا أخذته أجمع، وهذه جلمة الجزور - بالتحريك - أي لحمها أجمع؛ قاله الجوهري. قال النحاس: وزعم الكسائي أن فيها أربع لغات: لا جرم، ولا عن ذا جرم؛ ولا أن ذا جرم، قال: وناس من فزارة يقولون: لا جرأنهم بغير ميم. وحكى الفراء فيه لغتين أخريين قال: بنو عامر يقولون لا ذا جرم، قال: وناس من العرب. يقولون: لا جرم بضم الجيم. {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} قوله تعالى{إن الذين آمنوا} }الذين} اسم }إن} و}آمنوا} صلة، أي صدقوا. }وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم} عطف على الصلة. قال ابن عباس: (أخبتوا أنابوا). مجاهد: أطاعوا. قتادة: خشعوا وخضعوا. مقاتل: أخلصوا. الحسن: الإخبات الخشوع للمخافة الثابتة في القلب، وأصل الإخبات الاستواء، من الخبت وهو الأرض المستوية الواسعة: فالإخبات الخشوع والاطمئنان، أو الإنابة إلى الله عز وجل المستمرة ذلك على استواء. }إلى ربهم} قال الفراء: إلى ربهم ولربهم واحد، وقد يكون المعنى: وجهوا إخباتهم إلى ربهم. }أولئك} خبر }إن}. {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون} قوله تعالى{مثل الفريقين} ابتداء، والخبر }كالأعمى} وما بعده. قال الأخفش: أي كمثل الأعمى. النحاس: التقدير مثل فريق الكافر كالأعمى والأصم، ومثل فريق المؤمن كالسميع والبصير؛ ولهذا قال{هل يستويان} فرد إلى الفريقين وهما اثنان روي معناه عن قتادة وغيره. قال الضحاك: الأعمى والأصم مثل للكافر، والسميع والبصير مثل للمؤمن. وقيل: المعنى هل يستوي الأعمى والبصير، وهل يستوي الأصم والسميع. }مثلا} منصوب على التمييز. }أفلا تذكرون} في الوصفين وتنظرون. {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين، أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} قوله تعالى{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه} ذكر سبحانه قصص الأنبياء عليهم السلام للنبي صلى الله عليه وسلم تنبيها له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم. }إني} أي فقال: إني؛ لأن في الإرسال معنى القول. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي }أني} بفتح الهمزة؛ أي أرسلناه بأني لكم نذير مبين. ولم يقل }إنه} لأنه رجع من الغيبة إلى خطاب نوح لقومه؛ كما قال قوله تعالى{ألا تعبدوا إلا الله} أي اتركوا الأصنام فلا تعبدوها، وأطيعوا الله وحده. ومن قرأ }إني} بالكسر جعله معترضا في الكلام، والمعنى أرسلناه بألا تعبدوا إلا الله. }إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم}. {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} قوله تعالى{فقال الملأ} قال أبو إسحاق الزجاج: الملأ الرؤساء؛ أي هم مليؤون بما يقولون. وقد تقدم هذا في }البقرة} وغيرها. }ما نراك إلا بشرا} أي آدميا. }مثلنا} نصب على الحال. و}مثلنا} مضاف إلى معرفة وهو نكرة يقدر فيه التنوين؛ كما قال الشاعر: قوله تعالى{وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} أراذل جمع أرذل وأرذل جمع رذل؛ مثل كلب وأكلب وأكالب. وقيل: والأراذل جمع الأرذل، كأساود جمع الأسود من الحيات. والرذل النذل؛ أرادوا اتبعك أخساؤنا وسقطنا وسفلتنا. قال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة؛ ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة. قال النحاس: الأراذل هم الفقراء، والذين لا حسب لهم، والخسيسو الصناعات. قلت: الأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء؛ كما قال هرقل لأبي سفيان: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم؛ فقال: هم أتباع الرسل. قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد للغير؛ والفقير خلي عن تلك الموانع، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. وهذا غالب أحوال أهل الدنيا. اختلف العلماء في تعيين السفلة على أقوال؛ فذكر ابن المبارك عن سفيان أن السفلة هم الذين يتقلسون، ويأتون أبواب القضاة والسلاطين يطلبون الشهادات وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة الذين يأكلون لدنيا بدينهم؛ قيل له: فمن سفلة السفلة؟ قال: الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه. وسئل علي رضي الله عنه عن السفلة فقال: الذين إذا اجتمعوا غلبوا؛ وإذا تفرقوا لم يعرفوا. وقيل لمالك بن أنس رضي الله عنه: من السفلة؟ قال: الذي يسب الصحابة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (الأرذلون الحاكة والحجامون). يحيى بن أكثم: الدباغ والكناس إذا كان من غير العرب. إذا قالت المرأة لزوجها: يا سَفِلة، فقال: إن كنت منهم فأنت طالق؛ فحكى النقاش أن رجلا جاء إلى الترمذي فقال: إن امرأتي قالت لي يا سفلة، فقلت: إن كنت سفلة فأنت طالق؛ قال الترمذي: ما صناعتك؟ قال: سماك؛ قال: سفلة والله، سفلة والله سفلة. قلت: وعلى ما ذكره ابن المبارك عن سفيان لا تطلق، وكذلك على قول مالك، وابن الأعرابي لا يلزمه شيء. قوله تعالى{بادي الرأي} أي ظاهر الرأي، وباطنهم على خلاف ذلك. يقال: بدا يبدو. إذا ظهر؛ كما قال: ويقال للبرية بادية لظهورها. وبدا لي أن أفعل كذا، أي ظهر لي رأي غير الأول. وقال الأزهري: معناه فيما يبدو لنا من الرأي. ويجوز أن يكون }بادي الرأي} من بدأ يبدأ وحذف الهمزة. وحقق أبو عمرو الهمزة فقرأ{بادئ الرأي} أي أول الرأي؛ أي اتبعوك حين ابتدؤوا ينظرون، ولو أمعنوا النظر والفكر لم يتبعوك؛ ولا يختلف المعنى ههنا بالهمز وترك الهمز. وانتصب على حذف }في} كما قال عز وجل {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} قوله تعالى{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} أي على يقين؛ قاله أبو عمران الجوني. وقيل: على معجزة؛ وقد تقدم في }الأنعام} هذا المعنى. }وآتاني رحمة من عنده} أي نبوة ورسالة؛ عن ابن عباس؛ (وهي رحمة على الخلق). وقيل: الهداية إلى الله بالبراهين. وقيل: بالإيمان والإسلام. }فعميت عليكم} أي عميت عليكم الرسالة والهداية فلم تفهموها. يقال: عميت عن كذا، وعمي علي كذا أي لم أفهمه. والمعنى: فعميت الرحمة؛ فقيل: هو مقلوب؛ لأن الرحمة لا تعمى إنما يعمى عنها؛ فهو كقولك: أدخلت في القلنسوة رأسي، ودخل الخف في رجلي. وقرأها الأعمش وحمزة والكسائي }فعميت} بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله، أي فعماها الله عليكم؛ وكذا في قراءة أبي }فعماها} ذكرها الماوردي. }أنلزمكموها} قيل: شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: الهاء ترجع إلى الرحمة. وقيل: إلى البينة؛ أي أنلزمكم قبولها، وأوجبها عليكم؟ ! وهو استفهام بمعنى الإنكار؛ أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها؛ وإنما قصد نوح عليه السلام بهذا القول أن يرد عليهم. وحكى الكسائي والفراء }أنلزمكموها} بإسكان الميم الأولى تخفيفا؛ وقد أجاز مثل هذا سيبويه، وأنشد: وقال النحاس: ويجوز على قول يونس (1) {ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون} قوله تعالى{ويا قوم لا أسألكم عليه مالا} أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به أجرا أي }مالا} فيثقل عليكم. }إن أجري إلا على الله} أي ثوابي في تبليغ الرسالة. }وما أنا بطارد الذين آمنوا} سألوه أن يطرد الأراذل الذين آمنوا به، كما سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد الموالي والفقراء، حسب ما تقدم في }الأنعام} بيانه؛ فأجابهم بقوله{وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم} يحتمل أن يكون قال هذا على وجه الإعظام لهم بلقاء الله عز وجل، ويحتمل أن يكون قاله على وجه الاختصام؛ أي لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله، فيجازيهم على إيمانهم، ويجازي من طردهم. }ولكني أراكم قوما تجهلون} في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم. {ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون} قوله تعالى{ويا قوم من ينصرني من الله} قال الفراء: أي يمنعني من عذابه. }إن طردتهم} أي لأجل إيمانهم. }أفلا تتذكرون} أدغمت التاء في الذال. ويجوز حذفها فتقول: تَذَكرون. {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين} قوله تعالى{ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} أخبر بتذلله وتواضعه لله عز وجل، وأنه لا يدعي ما ليس له من خزائن الله؛ وهي إنعامه على من يشاء من عباده؛ وأنه لا يعلم الغيب؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل. }ولا أقول إني ملك} أي لا أقول إن منزلتي عند الناس منزلة الملائكة. وقد قالت العلماء: الفائدة في الكلام الدلالة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء؛ لدوامهم على الطاعة، واتصال عباداتهم إلى يوم القيامة، صلوات الله عليهم أجمعين. وقد تقدم هذا المعنى في }البقرة}. }ولا أقول للذي تزدري أعينكم} أي تستثقل وتحتقر أعينكم؛ والأصل تزدريهم حذفت الهاء والميم لطول الاسم. والدال مبدلة من تاء؛ لأن الأصل في تزدري تزتري، ولكن التاء تبدل بعد الزاي دالا؛ لأن الزاي مجهورة والتاء مهموسة، فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها. ويقال: أزريت عليه إذا عبته. وزريت عليه إذا حقرته. وأنشد الفراء: قوله تعالى{لن يؤتيهم الله خيرا} أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم، أو ينقص ثوابهم. قوله تعالى{الله أعلم بما في أنفسهم} فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به. }إني إذا لمن الظالمين} أي إن قلت هذا الذي تقدم ذكره. و}إذا} ملغاة؛ لأنها متوسطة. {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} قوله تعالى{قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} أي خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها. والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة؛ مشتق من الجدل وهو شدة الفتل؛ ويقال للصقر أيضا أجدل لشدته في الطير؛ وقد مضى هذا المعنى في }الأنعام} بأشبع من هذا. وقرأ ابن عباس }فأكثرت جدلنا} ذكره النحاس. والجدل في الدين محمود؛ ولهذا جادل نوج والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق، فمن قبله أنجح وأفلح، ومن رده خاب وخسر. وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم، وصاحبه في الدارين ملوم. }فأتنا بما تعدنا} أي من العذاب. }إن كنت من الصادقين} في قولك. {قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين} قوله تعالى{قال إنما يأتيكم به الله إن شاء} أي إن أراد إهلاككم عذبكم. }وما أنتم بمعجزين} أي بفائتين. وقيل: بغالبين بكثرتكم، لأنهم أعجبوا بذلك؛ كانوا ملؤوا الأرض سهلا وجبلا على ما يأتي. {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون} قوله تعالى{ولا ينفعكم نصحي} أي إبلاغي واجتهادي في إيمانكم. }إن أردت أن أنصح لكم} أي لأنكم لا تقبلون نصحا؛ وقد تقدم في }براءة} معنى النصح لغة.} قوله تعالى{إن كان الله يريد أن يغويكم} أي يضلكم. وهذا مما يدل على بطلان مذهب المعتزلة والقدرية ومن وافقهما؛ إذ زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي، ولا يكفر الكافر، ولا يغوي الغاوي؛ وأن يفعل ذلك، والله لا يريد ذلك؛ فرد الله عليهم بقوله{إن كان الله يريد أن يغويكم}. وقد مضى هذا المعنى في }الفاتحة} وغيرها. وقد أكذبوا شيخهم اللعين إبليس على ما بيناه في }الأعراف} في إغواء الله تعالى إياه حيث قال {أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون} قوله تعالى{أم يقولون افتراه} يعنون النبي صلى الله عليه وسلم. افترى أفتعل؛ أي اختلق القرآن من قبل نفسه، وما أخبر به عن نوح وقومه؛ قال مقاتل. وقال ابن عباس: (هو من محاورة نوح لقومه) وهو أظهر؛ لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه؛ فالخطاب منهم ولهم. }قل إن افتريته} أي اختلقته وافتعلته، يعني الوحي والرسالة. }فعلي إجرامي} أي عقاب إجرامي، وإن كنت محقا فيما أقوله فعليكم عقاب تكذيبي. والإجرام مصدر أجرم؛ وهو اقتراف السيئة. وقيل المعنى: أي جزاء جرمي وكسبي. وجرم وأجرم بمعنى؛ عن النحاس وغيره. قال: ومن قرأ }أجرامي} بفتح الهمزة ذهب إلى أنه جمع جرم؛ وذكره النحاس أيضا. }وأنا بريء مما تجرمون} أي من الكفر والتكذيب. {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} قوله تعالى{وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} }أنه} في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله. ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون التقدير: بـ }أنه}. و}آمن} في موضع نصب بـ }يؤمن} ومعنى الكلام الإياس من إيمانهم، واستدامة كفرهم، تحقيقا لنزول الوعيد بهم. قال الضحاك: فدعا عليهم لما أخبر بهذا فقال يقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه. والابتئاس حزن في استكانة. {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} قوله تعالى{واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن معك. }بأعيننا} أي بمرأى منا وحيث نراك. وقال الربيع بن أنس: بحفظنا إياك حفظ من يراك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (بحراستنا)؛ والمعنى واحد؛ فعبر عن الرؤية بالأعين؛ لأن الرؤية تكون بها. ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير؛ كما قال تعالى {ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} قوله تعالى{ويصنع الفلك} أي وطفق يصنع. قال زيد بن أسلم: مكث نوح صلى الله عليه وسلم مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها، ومائة سنة يعملها. وروى ابن القاسم عن ابن أشرس عن مالك قال: بلغني أن قوم نوح ملؤوا الأرض، حتى ملؤوا السهل والجبل، فما يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء، ولا هؤلاء أن يصعدوا إلى هؤلاء فمكث نوح يغرس الشجر مائة عام لعمل السفينة، ثم جمعها ييبسها مائة عام، وقومه يسخرون؛ وذلك لما رأوه يصنع من ذلك، حتى كان من قضاء الله فيهم ما كان. وروي عن عمرو بن الحارث قال: عمل نوح سفينته ببقاع دمشق، وقطع خشبها من جبل لبنان. وقال، القاضي أبو بكر بن العربي: لما استنقذ الله سبحانه وتعالى من في الأصلاب والأرحام من المؤمنين أوحى الله إليه. }أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} }فاصنع الفلك} قال: يا رب ما أنا بنجار، قال{بلى فإن ذلك بعيني} فأخذ القدوم فجعله بيده، وجعلت يده لا تخطئ، فجعلوا يمرون به ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجارا؛ فعملها في أربعين سنة. وحكى الثعلبي وأبو نصر القشيري عن، ابن عباس قال: (اتخذ نوح السفينة في سنتين). زاد الثعلبي: وذلك لأنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن اصنعها كجؤجؤ الطائر. وقال كعب: بناها في ثلاثين سنة، والله أعلم. المهدوي: وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلمه كيف يصنعها. واختلفوا في طولها وعرضها؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما (كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون، وسمكها ثلاثون ذراعا؛ وكانت من خشب الساج). وكذا قال الكلبي وقتادة وعكرمة كان طولها ثلاثمائة ذراع، والذراع إلى المنكب. قال سلمان الفارسي. وقال الحسن البصري: إن طول السفينة ألف ذراع ومائتا ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. وحكاه الثعلبي في كتاب العرائس. وروى علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: (قال الحواريون لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب، قال أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب حام بن نوح قال فضرب الكثيب بعصاه وقال: قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب من رأسه، وقد شاب؛ فقال له عيسى: أهكذا هلكت؟ قال: لا بل مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت. قال: أخبرنا عن سفينة نوح؟ قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، طبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير. وذكر باقي الخير على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى). وقال الكلبي فيما حكاه النقاش: ودخل الماء فيها أربعة أذرع، وكان لها ثلاثة أبواب؛ باب فيه السباع والطير، وباب فيه الوحش، وباب فيه الرجال والنساء. ابن عباس جعلها ثلاث بطون؛ البطن الأسفل للوحوش والسباع والدواب، والأوسط للطعام والشراب، وركب هو في البطن الأعلى، وحمل معه جسد آدم عليه السلام معترضا ببن الرجال والنساء، ثم دفنه بعد ببيت المقدس؛ وكان إبليس معهم في الكوثل. وقيل: جاءت الحية والعقرب لدخول السفينة فقال نوح: لا أحملكما؛ لأنكما سبب الضرر والبلاء، فقالتا: احملنا فنحن نضمن لك ألا نضر أحدا ذكرك؛ فمن قرأ حين يخاف مضرتهما {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم} قوله تعالى{فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه} تهديد، و}من} متصلة بـ }سوف تعلمون} و}تعلمون} هنا من باب التعدية إلى مفعول؛ أي فسوف تعلمون الذي يأتيه العذاب. ويجوز أن تكون }من} استفهامية؛ أي أينا يأتيه العذاب؟. وقيل{من} في موضع رفع بالابتداء و}يأتيه} الخبر، و}يخزيه} صفة لـ }عذاب}. وحكى الكسائي: أن أناسا من أهل الحجاز يقولون: سو تعلمون؛ وقال من قال{ستعلمون} أسقط الواو والفاء جميعا. وحكى الكوفيون: سف تعلمون؛ ولا يعرف البصريون إلا سوف تفعل، وستفعل لغتان ليست إحداهما من الأخرى }ويحل عليه} أي يجب عليه وينزل به. }عذاب مقيم} أي دائم، يريد عذاب الآخرة. {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل} قوله تعالى{حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} اختلف في التنور على أقوال سبعة: الأول: أنه وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تنورا؛ قاله ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة؛ وذلك أنه قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك. الثاني: أنه تنور الخبز الذي يخبز فيه؛ وكان تنورا من حجارة؛ وكان لحواء حتى صار لنوح؛ فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك. وأنبع الله الماء من التنور، فعلمت به امرأته فقالت: يا نوح فار الماء من التنور؛ فقال: جاء وعد ربي حقا. هذا قول الحسن؛ وقال مجاهد وعطية عن ابن عباس. الثالث: أنه موضع اجتماع الماء في السفينة؛ عن الحسن أيضا. الرابع: أنه طلوع الفجر، ونور الصبح؛ من قولهم: نور الفجر تنويرا؛ قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الخامس: أنه مسجد الكوفة؛ قاله علي بن أبي طالب أيضا؛ وقال مجاهد. قال مجاهد: كان ناحية التنور بالكوفة. وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي كندة. وكان فوران الماء منه علما لنوح، ودليلا على هلاك قومه. قال الشاعر وهو أمية: السادس: أنه أعالي الأرض، والمواضع المرتفعة منها؛ قاله قتادة. السابع: أنه العين التي بالجزيرة }عين الوردة} رواه عكرمة. وقال مقاتل: كان ذلك تنور آدم، وإنما كان بالشام بموضع يقال له{عين وردة} وقال ابن عباس أيضا: (فار تنور آدم بالهند). قال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأن الله عز وجل أخبرنا أن الماء جاء من السماء والأرض؛ قال قوله تعالى{قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين} يعني ذكرا وأنثى؛ لبقاء أصل النسل بعد الطوفان. وقرأ حفص }من كل زوجين اثنين} بتنوين }كل} أي من كل شيء زوجين. والقراءتان ترجعان إلى معنى واحد: شيء معه آخر لا يستغني عنه. ويقال للاثنين: هما زوجان، في كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه؛ فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجا يقال: له زوجا نعل إذا كان له نعلان. وكذلك عنده زوجا حمام، وعليه زوجا قيود؛ قال الله تعالى أراد كل ضرب ولون. و}ومن كل زوجين} في موضع نصب بـ }احمل}. }اثنين} تأكيد. }وأهلك} أي وأحمل أهلك. }إلا من} }من} في موضع نصب بالاستثناء. }عليه القول} منهم أي بالهلاك؛ وهو ابنه كنعان وامرأته واعلة كانا كافرين. }ومن آمن} قال الضحاك وابن جريج: أي احمل من آمن بي، أي من صدقك؛ فـ }من} في موضع نصب بـ }احمل}. }وما آمن معه إلا قليل} قال ابن عباس رضي الله عنهما: (آمن من قومه ثمانون إنسانا، منهم ثلاثة من بنيه؛ سام وحام ويافث، وثلاث كنائن له. ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية وهي اليوم تدعى قرية الثمانين بناحية الموصل). وورد في الخبر أنه كان في السفينة ثمانية أنفس؛ نوح وزوجته غير التي عوقبت، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم؛ وهو قول قتادة والحكم بن عتيبة وابن جريج ومحمد بن كعب؛ فأصاب حام امرأته في السفينة، فدعا نوح الله أن يغير نطفته فجاء بالسودان. قال عطاء: ودعا نوح على حام ألا يعدو شعر أولاده آذانهم، وأنهم حيثما كان ولده يكونون عبيدا لولد سام ويافث. وقال الأعمش: كانوا سبعة؛ نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين؛ وأسقط امرأة نوح. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم؛ نوح وبنوه سام وحام ويافث، وستة أناس ممن كان آمن به، وأزواجهم جميعا. و}قليل} رفع بآمن، ولا يجوز نصبه على الاستثناء، لأن الكلام قبله لم يتم، إلا أن الفائدة في دخول }إلا} و}ما} لأنك لو قلت: آمن معه فلان وفلان جاز أن يكون غيرهم قد أمن؛ فإذا جئت بما وإلا، أوجبت لما بعد إلا ونفيت عن غيرهم. {وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم} قوله تعالى{وقال اركبوا فيها} أمر بالركوب؛ ويحتمل أن يكون من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من نوح لقومه. والركوب العلو على ظهر الشيء. ويقال: ركبه الدين. وفي الكلام حذف؛ أي اركبوا الماء في السفينة. وقيل: المعنى اركبوها. و}في} للتأكيد كقوله تعالى قوله تعالى{بسم الله مُجراها ومُرساها} قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة بضم الميم فيهما إلا من شذ، على معنى بسم الله إجراؤها وإرساؤها؛ فمجراها ومرساها في موضع رفع بالابتداء؛ ويجوز أن تكون في موضع نصب، ويكون التقدير: بسم الله وقت إجرائها ثم حذف وقت، وأقيم }مجراها} مقامه. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي{بسم الله مَجريها} بفتح الميم و}مُرساها} بضم الميم. وروى يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب }بسم الله مَجراها ومَرساها} بفتح الميم فيهما؛ على المصدر من جرت تجري جريا ومجرى، ورست رسوا ومرسى إذا ثبتت. وقرأ مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي{بسم الله مُجريها ومُرسيها} نعت لله عز وجل في موضع جر. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ؛ أي هو مجريها ومرسيها. ويجوز النصب على الحال. وقال الضحاك. كان نوح عليه السلام إذا قال بسم الله مجراها جرت، وإذا قال بسم الله مرساها رست. قوله تعالى{إن ربي لغفور رحيم} أي لأهل السفينة. وروي عن ابن عباس قال: (لما كثرت الأرواث والأقذار أوحى الله إلى نوح اغمز ذنب الفيل، فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث؛ فقال نوح: لو غمزت ذنب هذا الخنزير! ففعل، فخرج منه فأر وفأرة فلما وقعا أقبلا على السفينة وحبالها تقرضها، وتقرض الأمتعة والأزواد حتى خافوا عل حبال السفينة؛ فأوحى الله إلى نوح أن امسح جبهة الأسد فمسحها، فخرج منها سنوران فأكلا الفئرة. ولما حمل الأسد في السفينة قال: يا رب من أين أطعمه؟ قال: سوف أشغله؛ فأخذته الحمى؛ فهو الدهر محموم. قال ابن عباس: (وأول ما حمل نوح من البهائم في الفلك حمل الإوزة، وآخر ما حمل حمل الحمار)؛ قال: وتعلق إبليس بذنبه، ويداه قد دخلتا في السفينة، ورجلاه خارجة بعد فجعل الحمار يضطرب ولا يستطيع أن يدخل، فصاح به نوح: ادخل ويلك فجعل يضطرب؛ فقال: ادخل ويلك وإن كان معك الشيطان، كلمة زلت على لسانه، فدخل ووثب الشيطان فدخل. ثم إن نوحا رآه يغني في السفينة، فقال له: يا لعين ما أدخلك بيتي؟ قال: أنت أذنت لي؛ فذكر له؛ فقال له: قم فأخرج. قال: مالك بد في أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك. وكان مع نوح عليه السلام خرزتان مضيئتان، واحدة مكان الشمس، والأخرى مكان القمر. ابن عباس: (إحداهما بيضاء كبياض النهار، والأخرى سوداء كسواد الليل)؛ فكان يعرف بهما مواقيت الصلاة؛ فإذا أمسوا غلب سواد هذه بياض هذه، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد هذه؛ على قدر الساعات. {وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} قوله تعالى{وهي تجري بهم في موج كالجبال} الموج جمع موجة؛ وهي ما ارتفع من جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح. والكاف للتشبيه، وهي في موضع خفض نعت للموج. وجاء في التفسير أن الماء جاوز كل شيء بخمسة عشر ذراعا. }ونادى نوح ابنه} قيل: كان كافرا واسمه كنعان. وقيل: يام. ويجوز على قول سيبويه{ونادى نوح ابنهُ} بحذف الواو من }ابنه} في اللفظ، وأنشد: له زجل كأنه صوت حاد فأما }ونادى نوح ابْنَهَ وَكان} فقراءة شاذة، وهي مروية عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعروة بن الزبير. وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد }ابنها} فحذف الألف كما تقول{ابنه}؛ فتحذف الواو. وقال النحاس: وهذا الذي قال أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه؛ لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها، والواو ثقيلة يجوز حذفها }وكان في معزل} أي من دين أبيه. وقيل: عن السفينة. وقيل: إن نوحا لم يعلم أن ابنه كان كافرا، وأنه ظن أنه مؤمن؛ ولذلك قال له{ولا تكن مع الكافرين} وسيأتي. وكان هذا النداء من قبل أن يستيقن القوم الغرق؛ وقبل رؤية اليأس، بل كان في أول ما فار التنور، وظهرت العلامة لنوح. وقرأ عاصم{يا بني اركب معنا} بفتح الياء، والباقون بكسرها. وأصل }يا بني} أن تكون بثلاث ياءات؛ ياء التصغير، وياء الفعل، وياء الإضافة؛ فأدغمت ياء التصغير في لام الفعل، وكسرت لام الفعل من أجل ياء الإضافة، وحذفت ياء الإضافة لوقوعها موقع التنوين، أو لسكونها وسكون الراء في هذا الموضع؛ هذا أصل قراءة من كسر الياء، وهو أيضا أصل قراءة من فتح؛ لأنه قلب ياء الإضافة ألفا لخفة الألف، ثم حذف الألف لكونها عوضا من حرف يحذف، أو لسكونها وسكون الراء. قال النحاس: أما قراءة عاصم فمشكلة؛ قال أبو حاتم: يريد يا بنياه ثم يحذف؛ قال النحاس: رأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن هذا لا يجوز؛ لأن الألف خفيفة. قال أبو جعفر النحاس: ما علمت أن أحدا من النحويين جوز الكلام في هذا إلا أبا إسحاق؛ فإنه زعم أن الفتح من جهتين، والكسر من جهتين؛ فالفتح على أنه يبدل من الياء ألفا؛ قال الله عز وجل إخبارا فيريد يا بنيا، ثم تحذف الألف، لالتقاء الساكنين، كما تقول: جاءني عبدا الله في التثنية. والجهة الأخرى أن تحذف الألف؛ لأن النداء موضع حذف. والكسر على أن تحذف الياء للنداء. والجهة الأخرى على أن تحذفها لالتقاء الساكنين. {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين} قوله تعالى{قال سآوي} أي ارجع وانضم. }إلى جبل يعصمني} أي يمنعني }من الماء} فلا أغرق. }قال لا عاصم اليوم من أمر الله} أي لا مانع؛ فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار. وانتصب }عاصم} على التبرئة. ويجوز }لا عاصم اليوم} تكون لا بمعني ليس. }إلا من رحم} في موضع نصب استثناء ليس من الأول؛ أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه، قال الزجاج. ويجوز أن يكون في موضع رفع، على أن عاصما بمعنى معصوم؛ مثل أي مفتونا. وقال آخر: أي المطعوم المكسو. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه أن تكون }من} في موضع رفع؛ بمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم؛ أي إلا الله. وهذا اختيار الطبري. ويحسن هذا أنك لم تجعل عاصما بمعنى معصوم فتخرجه من بابه، ولا }إنه} بمعنى }لكن} }وحال بينهما الموج} يعني بين نوح وابنه. }فكان من المغرقين} قيل: إنه كان راكبا على فرس قد بطر بنفسه، وأعجب بها؛ فلما رأى الماء جاء قال: يا أبت فار التنور، فقال له أبوه{يا بني اركب معنا} فما استتم المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة فالتقمته هو وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق. وقيل: إنه اتخذ لنفسه بيتا من زجاج يتحصن فيه من الماء، فلما فار التنور دخل فيه وأقفله عليه من داخل، فلم يزل يتغوط فيه ويبول حتى غرق بذلك. وقيل: إن الجبل الذي أوى إليه }طور سيناء}. {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين} قوله تعالى{وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي} هذا مجاز لأنها موات. وقيل: جعل فيها ما تميز به. والذي قال إنه مجاز قال: لو فتش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها، وبلاغة رصفها، واشتمال المعاني فيها. وفي الأثر: إن الله تعالى لا يخلي الأرض من مطر عام أو عامين، وأنه ما نزل من السماء ماء قط إلا بحفظ ملك موكل به إلا ما كان من ماء الطوفان؛ فإنه خرج منه ما لا يحفظه الملك. وذلك قوله تعالى قوله تعالى{وغيض الماء} أي نقص؛ يقال: غاض الشيء وغضته أنا؛ كما يقال: نقص بنفسه ونقصه غيره، ويجوز }غيض} بضم الغين. }وقضي الأمر} أي أحكم وفرغ منه؛ يعني أهلك قوم نوح على تمام وإحكام. ويقال: إن الله تعالى أعقم أرحامهم أي أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلم يكن فيمن هلك صغير. والصحيح أنه أهلك الولدان بالطوفان، كما هلكت الطير والسباع. ولم يكن الغرق عقوبة للصبيان والبهائم والطير، بل ماتوا بآجالهم. وحكي أنه لما كثر الماء في السكك خشيت أم صبي عليه؛ وكانت تحبه حبا شديدا، فخرجت به إلى الجبل، حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء استوت على الجبل؛ فلما بلغ الماء رقبتها رفعت يديها بابنها حتى ذهب بها الماء؛ فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي. قوله تعالى{واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين} أي هلاكا لهم. الجودي جبل بقرب الموصل؛ استوت عليه في العاشر من المحرم يوم عاشوراء؛ فصامه نوح وأمر جميع من معه من الناس والوحش والطير والدواب وغيرها فصاموه، شكرا لله تعالى؛ وقد تقدم هذا المعنى. وقيل: كان ذلك يوم الجمعة. وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت، وبقي الجودي لم يتطاول تواضعا لله، فاستوت السفينة عليه: وبقيت عليه أعوادها. ويقال: إن الجودي من جبال الجنة؛ فلهذا استوت عليه. ويقال: أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر: الجودي بنوح، وطور سيناء بموسى، وحراء بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. مسألة: نذكر فيها من قصة نوح مع قومه وبعض ذكر السفينة. ذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له عن الحسن: أن نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض؛ فذلك قوله تعالى قال{وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون}؛ أي لا تحزن عليهم. }واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} قال: يا رب وأين الخشب؟ قال: اغرس الشجر. قال: فغرس الساج عشرين سنه، وكف عن الدعاء، وكفوا عن الاستهزاء. وكانوا يسخرون منه؛ فلما أدرك الشجر أمره ربه فقطعها وجففها: فقال: يا رب كيف أتخذ هذا البيت؟ قال: اجعله على ثلاثة صور؛ رأسه كرأس الديك، وجؤجؤه كجؤجؤ الطير، وذنبه كذنب الديك؛ واجعلها مطبقة واجعل لها أبوابا في جنبها، وشدها بدسر، يعني مسامير الحديد. وبعث الله جبريل فعلمه صنعة السفينة، وجعلت يده لا تخطئ. قال ابن عباس: (كانت دار نوح عليه السلام دمشق، وأنشأ سفينته من خشب لبنان بين زمزم وبين الركن والمقام)، فلما كملت حمل فيها السباع والدواب في الباب الأول، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني، وأطبق عليهما وجعل أولاد آدم أربعين رجلا وأربعين امرأة في الباب الأعلى وأطبق عليهم، وجعل الذر معه في الباب الأعلى لضعفها ألا تطأها الدواب. قال الزهري: إن الله عز وجل بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين؛ من السباع والطير والوحش والبهائم. وقال جعفر بن محمد: بعث الله جبريل فحشرهم، فجعل يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى، فيدخله السفينة وقال زيد بن ثابت: استصعبت على نوح الماعزة أن تدخل السفينة، فدفعها بيده في ذنبها؛ فمن ثم انكسر ذنبها فصار معقوفا وبدا حياؤها. ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على، ذنبها فستر حياؤها؛ قال إسحاق: أخبرنا رجل من أهل العلم أن نوحا حمل أهل السفينة، وجعل فيها من كل زوجين اثنين، وحمل من الهدهد زوجين، فماتت الهدهدة في السفينة قبل أن تظهر الأرض. فحملها الهدهد فطاف بها الدنيا ليصيب لها مكانا، فلم يجد طينا ولا ترابا، فرحمه ربه فحفر لها في قفاه قبرا فدفنها فيه، فذلك الريش الناتئ في قفا الهدهد موضع القبر؛ فلذلك نتأت أقفية الهداهد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان حمل نوح معه في السفينة من جميع الشجر وكانت العجوة من الجنة مع نوح في السفينة). وذكر صاحب كتاب (العروس) وغيره: أن نوحا عليه السلام لما أراد أن يبعث من يأتيه بخبر الأرض قال الدجاج: أنا؛ فأخذها وختم على جناحها وقال لها: أنت مختومة بخاتمي لا تطيري أبدا، أنت ينتفع بك أمتي؛ فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها فاحتبس فلعنه، ولذلك يقتل في الحل والحرم ودعا عليه بالخوف؛ فلذلك لا يألف البيوت. وبعث الحمامة فلم تجد قرارا فوقعت على شجرة بأرض سيناء فحملت ورقة زيتونة، ورجعت إلى نوح فعلم أنها لم تستمكن من الأرض، ثم بعثها بعد ذلك فطارت حتى وقعت بوادي الحرم، فإذا الماء قد نضب من مواضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء، فاختضبت رجلاها، ثم جاءت إلى نوح عليه السلام فقالت: بشراي منك أن تهب لي الطوق في عنقي، والخضاب في رجلي، وأسكن الحرم؛ فمسح يده على عنقها وطوقها، ووهب لها الحمرة في رجليها، ودعا لها ولذريتها بالبركة. وذكر الثعلبي أنه بعث بعد الغراب التدرج وكان من جنس الدجاج؛ وقال: إياك أن تعتذر، فأصاب الخضرة والفرجة فلم يرجع، وأخذ أولاده عنده رهنا إلى يوم القيامة. {ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} قوله تعالى{ونادى نوح ربه} أي دعاه. }فقال رب إن ابني من أهلي} أي من أهلي الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق؛ ففي الكلام حذف. }وإن وعدك الحق} يعني الصدق. وقال علماؤنا: وإنما سأل نوح ربه ابنه لقوله{وأهلك} وترك قوله {قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين، قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} قوله تعالى{قال يا نوح إنه ليس من أهلك} أي ليس، من أهلك الذين وعدتهم أن أنجيهم؛ قاله سعيد بن جبير. وقال الجمهور: ليس من أهل دينك ولا ولايتك؛ فهو على حذف مضاف؛ وهذا يدل على أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من حكم النسب. }إنه عمل غير صالح} قرأ ابن عباس وعروة وعكرمة ويعقوب والكسائي }إنه عمل غير صالح} أي من الكفر والتكذيب؛ واختاره أبو عبيد. وقرأ الباقون }عمل} أي ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف؛ قاله الزجاج وغيره. قال: أي ذات إقبال وإدبار. وهذا القول والذي قبله يرجع إلى معنى واحد. ويجوز أن تكون الهاء للسؤال؛ أي إن سؤالك إياي أن أنجيه. عمل غير صالح. قال قتادة. وقال الحسن: معنى عمل غير صالح أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه. وكان لغير رشدة، وقال أيضا مجاهد. قال قتادة سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ابنه؛ قلت إن الله أخبر عن نوح أنه قال{إن ابني من أهلي} فقال: لم يقل مني، وهذه إشارة إلى أنه كان ابن امرأته من زوج آخر؛ فقلت له: إن الله حكى عنه أنه قال{إن ابني من أهلي} }ونادى نوح ابنه} ولا يختلف أهل الكتابين أنه ابنه؛ فقال الحسن: ومن يأخذ دينه عن أهل الكتاب! إنهم يكذبون. وقرأ في هذه الآية تسلية للخلق في فساد ابنائهم وإن كانوا صالحين. وروي أن ابن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حمام قد غطاه، قال: فعلم مالك أنه قد فهمه الناس؛ فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات. وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا، ومن أهل البيت؛ فمن وصى لأهله دخل في ذلك ابنه، ومن تضمنه منزله، وهو في عياله. وقال تعالى في آية أخرى ودلت الآية على قول الحسن ومجاهد وغيرهما: أن الولد للفراش؛ ولذلك قال نوح ما قال آخذا بظاهر الفراش. وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: نرى رسول الله صلى عليه وسلم إنما قضى بالولد للفراش من أجل ابن نوح عليه السلام؛ ذكره أبو عمر في كتاب }التمهيد}. قوله تعالى{إني أعظك أن تكون من الجاهلين} أي أنهاك عن هذا السؤال، وأحذرك لئلا تكون، أو كراهية أن تكون من الجاهلين؛ أي الآثمين. ومنه قوله تعالى {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم} قوله تعالى{قيل يا نوح اهبط بسلام منا} أي قالت له الملائكة، أو قال الله تعالى له: اهبط من السفينة إلى الأرض، أو من الجبل إلى الأرض؛ فقد ابتلعت الماء وجفت. }بسلام منا} أي بسلامة وأمن. وقيل: بتحية. }وبركات عليك} أي نعم ثابتة؛ مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته وإقامته. ومنه البركة لثبوت الماء فيها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (نوح آدم الأصغر)، فجميع الخلائق الآن من نسله، ولم يكن معه في السفينة من الرجال والنساء إلا من كان من ذريته؛ على قول قتادة وغيره، حسب ما تقدم؛ وفي التنزيل {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} قوله تعالى{تلك من أنباء الغيب} أي تلك الأنباء، وفي موضع آخر }ذلك} أي ذلك النبأ والقصص من أنباء ما غاب عنك. }نوحيها إليك} أي لتقف عليها. }ما كنت تعلمها أنت ولا قومك} أي كانوا غير عارفين بأمر الطوفان، والمجوس الآن ينكرونه. }من قبل هذا} خبر أي مجهولة عندك وعند قومك. }فاصبر} على مشاق الرسالة وإذاية القوم كما صبر نوح. وقيل: أراد جهلهم بقصة ابن نوح وإن سمعوا أمر الطوفان [فإنه] على الجملة. }فاصبر} أي اصبر يا محمد على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته، وما تلقى من أذى العرب الكفار، كما صبر نوح على أذى قومه. }إن العاقبة} في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز. }للمتقين} عن الشرك والمعاصي. {وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون، يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون} قوله تعالى{وإلى عاد أخاهم هودا} أي وأرسلنا، فهو معطوف على }أرسلنا نوحا}. وقيل له أخوهم لأنه منهم، وكانت القبيلة تجمعهم؛ كما تقول: يا أخا تميم. وقيل: إنما قيل له أخوهم لأنه من بني آدم كما أنهم من بني آدم؛ وقد تقدم هذا في }الأعراف} وكانوا عبدة الأوثان. وقيل: هم عادان، عاد الأولى وعاد الأخرى، فهؤلاء هم الأولى؛ وأما الأخرى فهو شداد ولقمان المذكوران في قوله تعالى قوله تعالى{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني} أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به فيثقل عليكم، أي ثوابي في تبليغ الرسالة. والفطرة ابتداء الخلق. قوله تعالى{أفلا تعقلون} ما جرى على قوم نوح لما كذبوا الرسل. {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين} قوله تعالى{ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} تقدم في أول السورة. }يرسل السماء} جزم لأنه جواب وفيه معنى المجازاة. }عليكم مدرارا} نصب على الحال، وفيه معنى التكثير؛ أي يرسل السماء بالمطر متتابعا يتلو بعضه بعضا؛ والعرب تحذف الهاء في مفعال على النسب؛ وأكثر ما يأتي مفعال من أفعل، وقد جاء ههنا من فعل؛ لأنه من درت السماء تدر وتدر فهي مدرار. وكان قوم هود - أعني عادا - أهل بساتين وزروع وعمارة، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن كما تقدم في }الأعراف}. }ويزدكم} عطف على يرسل. }قوة إلى قوتكم} قال مجاهد: شدة على شدتكم. الضحاك. خصبا إلى خصبكم. علي بن عيسى: عزا على عزكم. عكرمة: ولدا إلى ولدكم. وقيل: إن الله حبس عنهم المطر وأعقم الأرحام ثلاث سنين فلم يولد لهم ولد؛ فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد؛ فتلك القوة. وقال الزجاج: المعنى يزدكم قوة في النعم. }ولا تتولوا مجرمين} أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه، وتقيموا على الكفر {قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين} قوله تعالى{قالوا يا هود ما جئتنا ببينة} أي حجة واضحة. }وما نحن لك بمؤمنين} إصرارا منهم على الكفر. {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون، من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} قوله تعالى{إن نقول إلا اعتراك} أي أصابك. }بعض آلهتنا} أي أصنامنا. }بسوء} أي بجنون لسبك إياها، عن ابن عباس وغيره. يقال: عراه الأمر واعتراه إذا ألم به. ومنه قوله تعالى{إني توكلت على الله ربي وربكم} أي رضيت بحكمه، ووثقت بنصره. }ما من دابة} أي نفس تدب على الأرض؛ وهو في موضع رفع بالابتداء. }إلا هو آخذ بناصيتها} أي يصرفها كيف يشاء، ويمنعها مما يشاء؛ أي فلا تصلون إلى ضري. وكل ما فيه روح يقال له داب ودابه؛ والهاء للمبالغة. وقال الفراء: مالكها، والقادر عليها. وقال القتبي: قاهرها؛ لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته. وقال الضحاك: يحييها ثم يميتها؛ والمعنى متقارب. والناصية قصاص الشعر في مقدم الرأس. ونصوت الرجل أنصوه نصوا أي مددت ناصيته. قال ابن جريج: إنما خص الناصية؛ لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع؛ فيقولون. ما ناصية فلان إلا بيد فلان؛ أي إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء. وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليعرفوا بذلك فخرا عليه؛ فخاطبهم بما يعرفونه في كلامهم. وقال، الترمذي الحكيم في }نوادر الأصول} }ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها} وجهه عندنا أن الله تعالى قدر مقادير أعمال العباد، ثم نظر إليها، ثم خلق خلقه، وقدر نفذ بصره في جميع ما هم فيه عاملون من قبل أن يخلقهم، فلما خلقهم وضع نور تلك النظرة في نواصيهم فذلك النور أخذ بنواصيهم، يجريهم إلى أعمالهم المقدرة عليهم يوم المقادير. وخلق الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ {فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ} قوله تعالى{فإن تولوا} في موضع جزم؛ فلذلك حذفت منه النون، والأصل تتولوا، فحذفت التاء لاجتماع تاءين. }فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم} بمعنى قد بينت لكم. }ويستخلف ربي قوما غيركم} أي يهلككم ويخلق من هو أطوع له منكم يوحدونه ويعبدونه. }ويستخلف} مقطوع مما قبله فلذلك ارتفع؛ أو معطوف على ما يجب فيما بعد الفاء من قوله{فقد أبلغتكم}. وروي عن حفص عن عاصم }ويستخلف} بالجزم حملا على موضع الفاء وما بعدها؛ مثل {ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ} قوله تعالى{ولما جاء أمرنا} أي عذابنا بهلاك عاد. }نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا} لأن أحدا لا ينجو إلا برحمة الله تعالى، وإن كانت له أعمال صالحة. {وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد} قوله تعالى{وتلك عاد} ابتداء وخبر. وحكى الكسائي أن من العرب من لا يصرف }عادا} فيجعله اسما للقبيلة. }جحدوا بآيات ربهم} أي كذبوا بالمعجزات وأنكروها. }وعصوا رسله} يعني هودا وحده؛ لأنه لم يرسل إليهم من الرسل سواه. ونظيره قوله تعالى {وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود} قوله تعالى{وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة} أي ألحقوها. }ويوم القيامة} أي واتبعوا يوم القيامة مثل ذلك؛ فالتمام على قوله{ويوم القيامة}. }ألا إن عادا كفروا ربهم} قال الفراء: أي كفروا نعمة ربهم؛ قال: ويقال كفرته وكفرت به، مثل شكرته وشكرت له. }ألا بعدا لعاد قوم هود} أي لا زالوا مبعدين عن رحمة الله. والبعد الهلاك والبعد التباعد من الخير. يقال: بعد يبعد بعدا إذا تأخر وتباعد. وبعد يبعد بعدا إذا هلك؛ قال: وقال النابغة: {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب} قوله تعالى{وإلى ثمود} أي أرسلنا إلى ثمود }أخاهم} أي في النسب. }صالحا} وقرأ يحيي بن وثاب }وإلى ثمود} بالتنوين في كل القرآن؛ وكذلك روي عن الحسن. واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع. وزعم أبو عبيدة أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف؛ إذ كان الأغلب عليه التأنيث. قال النحاس: الذي قال أبو عبيدة - رحمه الله - من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود؛ لأن ثمودا يقال له حي؛ ويقال له قبيلة، وليس الغالب عليه القبيلة؛ بل الأمر على ضد ما قال عند سيبويه. والأجود عند سيبويه فيما لم يقل فيه بنو فلان الصرف، نحو قريش وثقيف وما أشبههما، وكذلك ثمود، والعلة في ذلك أنه لما كان التذكير الأصل، وكان يقع له مذكر ومؤنث كان الأصل الأخف أولى. والتأنيث جيد بالغ حسن. وأنشد سيبويه في التأنيث: قوله تعالى{قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} تقدم. }هو أنشأكم من الأرض} أي ابتدأ خلقكم من الأرض، وذلك أن آدم خلق من الأرض على ما تقدم في }البقرة} و}الأنعام} وهم منه، وقيل{أنشأكم في الأرض}. ولا يجوز إدغام الهاء من }غيره} في الهاء من }هو} إلا على لغة من حذف الواو في الإدراج. }واستعمركم فيها} أي جعلكم عمارها وسكانها. قال مجاهد: ومعنى }استعمركم} أعمركم من قوله: أعمر فلان فلانا داره؛ فهي له عمرى. وقال قتادة: أسكنكم فيها؛ وعلى هذين القولين تكون استفعل بمعنى أفعل؛ مثل استجاب بمعنى أجاب. وقال الضحاك: أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ثلاثمائة إلى ألف. ابن عباس: (أعاشكم فيها). زيد بن أسلم: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار. وقيل: المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها. قال ابن العربي قال بعض علماء الشافعية: الاستعمار طلب العمارة؛ والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب، قال القاضي أبو بكر: تأتي كلمة استفعل في لسان العرب على معان: منها؛ استفعل بمعنى طلب الفعل كقوله: استحملته أي طلبت منه حملانا؛ وبمعنى اعتقد، كقولهم: استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلا، أو وجدته سهلا، واستعظمته أي اعتقدته عظيما ووجدته، ومنه استفعلت بمعنى أصبت؛ كقولهم: استجدته أي أصبته جيدا: ومنها بمعنى فعل؛ كقوله: قر في المكان واستقر؛ وقالوا وقوله{يستهزئون} و}يستسخرون} منه؛ فقوله تعالى{استعمركم فيها} خلقكم لعمارتها، لا على معنى استجدته واستسهلته؛ أي أصبته جيدا وسهلا؛ وهذا يستحيل في الخالق، فيرجع إلى أنه خلق؛ لأنه الفائدة، وقد يعبر عن الشيء بفائدته مجازا؛ ولا يصح أن يقال: إنه طلب من الله تعالى لعمارتها، فإن هذا اللفظ لا يجوز في حقه، أما أنه يصح أن يقال: أنه استدعى عمارتها فإنه جاء بلفظ استفعل، وهو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه إذا كان أمرا، وطلب للفعل إذا كان من الأدنى إلى الأعلى رغبة. قلت: لم يذكر استفعل بمعنى أفعل، مثل قوله: استوقد بمعنى أوقد، وقد ذكرناه ويكون فيها دليل على الإسكان والعمرى وقد مضى القول في }البقرة} في السكنى والرقبى. قلت: معنى القرآن يجري مع أهل القول الثاني؛ لأن الله سبحانه قال{واستعمركم} بمعنى أعمركم؛ فأعمر الرجل الصالح فيها مدة حياته بالعمل الصالح، وبعد موته بالذكر الجميل والثناء الحسن؛ وبالعكس الرجل الفاجر؛ فالدنيا ظرف لهما حياة وموتا. وقد يقال: إن الثناء الحسن يجري مجرى العقب. وفي التنزيل قوله تعالى{فاستغفروه} أي سلوه المغفرة من عبادة الأصنام. }ثم توبوا إليه} أي ارجعوا إلى عبادته. }إن ربي قريب مجيب} أي قريب الإجابة لمن دعاه. وقد مضى في }البقرة} عند قوله{فإني قريب أجيب دعوة الداعي} القول فيه. {قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} قوله تعالى{قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا} أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل هذا؛ أي قبل دعوتك النبوة. وقيل: كان صالح يعيب آلهتهم ويشنؤها، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم، فلما دعاهم إلى الله قالوا: انقطع رجاؤنا منك. }أتنهانا} استفهام معناه الإنكار. }أن نعبد} أي عن أن نعبد. }ما يعبد آباؤنا} فأن في محل نصب بإسقاط حرف الجر. }وإننا لفي شك} وفي سورة }إبراهيم} و}وإنا} والأصل وإننا؛ فاستثقل ثلاث نونات فأسقط الثالثة. }مما تدعونا} الخطاب لصالح، وفي سورة إبراهيم كأنما أربته بريب {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير} قوله تعالى{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة} تقدم معناه في قول نوح. }فمن ينصرني من الله إن عصيته} استفهام معناه النفي؛ أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد. }فما تزيدونني غير تخسير} أي تضليل وإبعاد من الخير؛ قال الفراء. والتخسير لهم لا له صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قال: غير تخسير لكم لا لي. وقيل: المعنى ما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم؛ عن ابن عباس. {ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب} قوله تعالى{ويا قوم هذه ناقة الله} ابتداء وخبر. }لكم آية} نصب على الحال، والعامل معنى الإشارة أو التنبيه في }هذه}. وإنما قيل: ناقة الله؛ لأنه أخرجها لهم من جبل - على ما طلبوا - على أنهم يؤمنون. وقيل: أخرجها من صخرة صماء منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة، فلما خرجت الناقة - على ما طلبوا - قال لهم نبي الله صالح{هذه ناقة الله لكم آية}. }فذروها تأكل} أمر وجوابه؛ وحذفت النون من }فذروها} لأنه أمر. ولا يقال: وذر ولا واذر إلا شاذا. وللنحويين فيه قولان؛ قال سيبويه: استغنوا عنه بترك. وقال غيره: لما كانت الواو ثقيلة وكان في الكلام فعل بمعناه لا واو فيه ألغوه؛ قال أبو إسحاق الزجاج: ويجوز رفع }تأكل} على الحال والاستئناف. }ولا تمسوها} جزم بالنهي. }بسوء} قال الفراء: بعقر. }فيأخذكم} جواب النهي. }عذاب قريب} أي قريب من عقرها. {فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} قوله تعالى{فعقروها} إنما عقرها بعضهم؛ وأضيف إلى الكل لأنه كان برضا الباقين. وقد تقدم الكلام في عقرها }الأعراف}. ويأتي أيضا. }فقال تمتعوا} أي قال لهم صالح تمتعوا؛ أي بنعم الله عز وجل قبل العذاب. }في داركم} أي في بلدكم، ولو أراد المنزل لقال في دوركم. وقيل: أي يتمتع كل واحد منكم في داره ومسكنه؛ كقوله استدل علماؤنا بإرجاء الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أن المسافر إذا لم يجمع على إقامة أربع ليال قصر؛ لأن الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة وقد تقدم في }النساء} ما للعلماء في هذا. قوله تعالى{ذلك وعد غير مكذوب} أي غير كذب. وقيل: غير مكذوب فيه.
|