الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
الجزء الثامن بسم الله الرحمن الرحيم لِقَوْلِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ (إلى) عَلِيمٌ} [البقرة: 282]، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ} إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]. قال إسماعيل بن إسحاق: ظاهر قوله تعالى: {وليملل الذى عليه الحق} [البقرة: 282] يدل أن القول قول من عليه الشىء. قال غيره: لأن الله حين أمره بالإملاء اقتضى تصديقه فيما يمليه، فإذا كان مصدقًا فالبينة على من يدعى تكذيبه. وأما الآية الأخرى فوجه الدلالة منها أن الله قد أخذ عليه أن يقر بالحق على نفسه وأقربائه لمن ادعاه عليهم، فدل الكتاب أن القول قول المدعى عليه، وإن أكذبه المدعى كان على المدعى عليه إقامة البينة، والأمة مجمعة أن البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه فى الأموال، إلا ما خصت به القسامة. وقد ذكر البخارى بعد هذا من حديث ابن مسعود وابن عباس، عن النبى صلى الله عليه وسلم: (أن البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليه). واختلفوا فى صفة يمين المدعى عليه فى الحدود والنكاح والطلاق والعتق على ما يأتى بعد هذا فى بابه، إن شاء الله.
- فساق حديث الإفْكِ، حيث قَالَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لأُسَامَةُ، فَقَالَ: (أَهْلُكَ وَلا نَعْلَمُ إِلا خَيْرًا). وقال النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يَعْذِرُنَى فِى رَجُلٍ بَلَغَنِى أَذَاهُ فِى أَهْلِى، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلا خَيْرًا). اختلف العلماء فى قول المسئول عن التزكية: ما أعلم إلا خيرًا، فذكر ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان إذا أنعم مدح الرجل قال: ما علمت إلا خيرًا. وذكر الطحاوى عن أبى يوسف أنه إذا قال ذاك قبلت شهادته، ولم يذكر خلافًا عن الكوفيين، واحتجوا بالحديث الأول، قال محمد بن سعيد الترمذى: سألنى عبد الرحمن بن إسحاق القاضى عن رجل شهد عنده فزكيته له، فقال لى: هل تعلم منه إلا خيرًا؟ فقلت: اللهم غفرًا، قد أعلم منه غير الخير ولا تسقط بذلك عدالته، يلقى كناسته فى الطريق، وليس ذلك من الخير. فسكت. وروى ابن القاسم، عن مالك، أنه أنكر أن يكون قوله: لا أعلم إلا خيرًا، تزكية، وقال: لا تكون تزكية حتى يقول: رضًا وأراه عدلاً رضًا. وذكر المزنى، عن الشافعى قال: لا يقبل فى التعديل، إلا أن يقول عدل علىّ ولىّ، ثم لا يقبله حتى يسأله عن معرفته؛ فإن كانت باطنة متقدمة وإلا لم يقبل ذلك. قال الأبهرى: والحجة لمالك أنه قد لا يعلم منه إلا الخير، ويعلم غيره منه غير الخير مما يجب به رد شهادته، فيجب أن يقول: أعلمه عدلا رضًا؛ لأن هذا الوصف الذى أمر الله تعالى بقبول شهادة الشاهد معه بقوله: (وأشهدوا ذوى عدل منكم} [الطلاق: 2]) ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 283] فيجب أن يجمع الشاهد العدالة والرضا. قال المهلب: وأما قول أسامة: (لا أعلم إلا خيرًا) فى التزكية، فإن هذا كان فى عصر الرسول الذين شهد الله لهم أنهم خير أمة أخرجت للناس، فكانت الجرحة فيهم شاذة نادرة؛ لأنهم كانوا كلهم على العدالة، فتعديلهم أن يقال: لا أعلم إلا خيرًا، فأما اليوم فالجرحة أعم فى الناس، وليست لهم شهادة من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدالة مستولية على جميعهم، فافترق حكمهم. وفى قول بريرة: (ما أعلم عليها شيئًا أغمصه) دليل على أن من اتهم فى دينه بأمر أنه يطلب فى سائر أحواله نظير ما اتهم به، فإن لم يوجد له نظير لم يصدق عليه ما اتهم فيه، وإن وجد لذلك نظير قويت الشبهة، وحكم عليه بالتهمة فى أغلب الحال لا فى الغيب، والله أعلم.
وَأَجَازَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْخائن الْفَاجِرِ. وقال الشَّعْبِىُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: السَّمْعُ شَهَادَةٌ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَمْ يُشْهِدُونِى عَلَى شَىْءٍ، وَلَكَنِ سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا. - فيه: ابْنَ عُمَرَ: (انْطَلَقَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ الأنْصَارِىُّ، يَؤُمَّانِ النَّخْلَ الَّتِى فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّقِى بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِى قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ، أَوْ زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَّقِى بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ أَىْ صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ، قَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ). - وفيه: عَائِشَةَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفاعَةَ الْقُرَظِىِّ إلى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: (كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِى، فَأَبَتَّ طَلاقِى، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِى إِلَى رِفَاعَةَ؟ لا، حَتَّى تَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلا تَسْمَعُ إِلَى هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم. اختلف العلماء فى شهادة المختبئ، فروى عن شريح والشعبى والنخعى أنهم كانوا لا يجيزونها، وقالوا: إنه ليس بعدل حين اختبأ ممن يشهد عليه. وهو قول أبى حنيفة والشافعى. وذكر الطحاوى فى المختصر قال: جائز للرجل أن يشهد بما سمع، إذا كان معاينًا لمن سمعت منه؛ وإن لم يشهده على ذلك. قال الشافعى فى الكتاب الكبير للمزنى: العلم من ثلاثة وجوه: ما عاينه فشهد به، وما تظاهرت به الأخبار وثبت موقعه فى القلوب، وشهادة ما أثبته سمعًا إثبات بصر من المشهود عليه، ولذلك قلنا: لا تجوز شهادة الأعمى. وأجاز شهادة المختبئ ابن أبى ليلى، ومالك، وأحمد، وإسحاق، إلا أن مالكًا لا يجيزها له على صحة إلا أن يكون المقر مختدعًا ومقدرًا على حق لا يقوله بالبراءة، والمخرج منه ومثله من وجوه الحيل. وروى ابن وهب، عن مالك فى رجل أدخل رجلين بيتًا، وأمرهما أن يحفظا ما سمعا، وقعد برجل من وراء البيت حتى أقر له بما له عليه فشهدا عليه بذلك، فقال: أما الرجل الضعيف أو الخائف أو المخدوع الذى يخاف أن يستميل أو يستضعف إذا شهد عليه؛ فلا أرى ذلك يثبت عليه، وليحلف أنه ما أقر له بذلك إلا لما يذكر، وأما الرجل الذى ليس على ما وصفت وعسى أن يقول فى خلوته: أنا أقر لك خاليًا، ولا أقر لك عند البينة، فإنه يثبت ذلك عليه، وهذا معنى قول ابن حريث، وكذلك يفعل بالفاجر الخائن. واحتج مالك فى العتبية بشهادة المختبئ قال: إذا شهد الرجل على المرأة من وراء الستر وعرفها وعرف صورتها وأثبتها قبل ذلك، فشهادته جائزة عليها. قال: وقد كان الناس يدخلون على أزواج النبى صلى الله عليه وسلم وبينهم وبينهن حجاب، فيسمعون منهن، ويحدثون عنهن. وقد سأل أبو بكر بن عبد الرحمن وأبوه عائشة وأم سلمة من وراء حجاب وأخبرا عنهما. قال المهلب: فى حديث ابن عمر من الفقه جواز الاحتيال على المستترين بالفسق، وجحود الحقوق، بأن يختفى عليهم حتى يسمع منهم ما يستترون به من الحق ويحكم به عليهم، ولكن بعد أن يفهم عنهم فهمًا حسنًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لو تركته بين). وهذا حجة لمالك، وكذلك فى حديث رفاعة جواز الشهادة على غير الحاضر من وراء الباب والستر؛ لأن خالد بن سعيد سمع قول امرأة رفاعة عند النبى صلى الله عليه وسلم وهو من وراء الباب، ثم أنكره عليها بحضرة النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر حين دخل إليهما، ولم ينكر ذلك عليه. قال الأبهرى: ومن الحجة لمالك أيضًا فى جواز شهادة المختبئ أن المعرفة بصوت زيد تقع كما تقع بشخصه، وذلك إذا كان قد عرف صوته وتكرر، فجاز له أن يشهد، كما يجوز للأعمى أن يشهد على الصوت الذى يسمعه إذا عرفه. قال المهلب: وفيه إنكار الهجر من القول، إلا أن يكون فى حق لابد له من البيان عند الحاكم فى الحكم بين الزوجين، فحينئذ يجوز أن يتكلم به. قال غيره: وقول الشعبى وغيره: السمع شهادة. قد فسره ابن أبى ليلى قال: السمع سمعان إذا قال: سمعت فلانًا يقر على نفسه بكذا أجزته، وإذا قال: سمعت فلانًا يقول: سمعت فلانًا. لم أجزه. وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق والجمهور، وليس معنى قولهم: إن السمع شهادة أن شهادة المختبئ جائزة؛ لأن القائلين ذلك لا يجيزونها. قال ابن المنذر: قال النخعى والشعبى: السمع شهادة وأبيا أن يجيزا شهادة المختبئ. وقد تقدم شرح ما فى حديث ابن صياد من اللغة فى كتاب الجنائز فى باب إذا أسلم الصبى. وقوله: فيها رمرمة. قال ثابت: ترمرم الرجل: إذا حرك فاه للكلام، ولم يتكلم. قال بعض الشعراء يصف ملكًا: إذا ترمرم أغضى كل جبار قال الخطابى: قد يكون ترمرم: تحركت مرمته بالصوت. قال الشاعر: ومستعجب مما يرى من أناتنا *** ولو زبنته الحرب لم يترمرم أى لم ينطق. وقال صاحب الأفعال: الرمرمة: كلام لا يفهم. قال أبو حنيفة: الرمرمة من الرعد ما لم يعل أو يفصح، وقد زمزم السحاب، وهو سحاب زمزام: إذا كثرت زمزمته.
فَقَالَ آخَرُونَ: مَا عَلِمْنَا ذَلِكَ يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ. قَالَ الْحُمَيْدِىُّ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ بِلالٌ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِى الْكَعْبَةِ، وَقَالَ الْفَضْلُ: لَمْ يُصَلِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِشَهَادَةِ بِلالٍ كَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِفُلانٍ عَلَى فُلانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ يُقْضَى بِالزِّيَادَةِ. - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأبِى إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِى تَزَوَّجَ، فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِى، وَلا أَخْبَرْتِنِى، فَأَرْسَلَ إِلَى آلِ أَبِى إِهَابٍ فَسْأَلُهُمْ، فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَاهُ أَرْضَعَتْ صَاحِبَتَنَا، فَرَكِبَ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (كَيْفَ، وَقَدْ قِيلَ فَفَارَقَهَا، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ). إذا شهد شهود بشىء، وقال آخرون: ما علمنا بذلك. فليس هذا شهادة؛ لأن من لم يعلم الشىء فليس بحجة على من علمه، ولهذا المعنى اتفقوا أنه إذا شهد شاهدان بألف وشاهدان بألف وخمسمائة أنه يقضى بالزيادة. ولا خلاف بين الفقهاء أن البينتين إذا شهدت إحداهما بإثبات شىء، وشهدت الأخرى بنفيه، وتكافئا فى العدالة أنه يؤخذ بقول من أثبت دون من نفى؛ لأن المثبت علم ما جهل النافى، والقول قول من علم. وليس حديث عقبة بمخالف لهذا الأصل؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يحكم بشهادة المرأة ولا غلب قولها على قول عقبة، وقول من نفى الرضاع من ظهور الإيجاب، وإنما أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن قول المرأة شبهة يصلح التورع والتنزه للزوج عن زوجته لأجلها، والدليل على أن ذلك من باب الورع والتنزه اتفاق أئمة الفتوى على أنه لا تجوز شهادة امرأة واحدة فى الرضاع إذا شهدت بذلك بعد النكاح، ومن هذا الباب إذا شهد قوم بعدالة الشاهد، وشهد آخرون بتجريحه فالقول قول من شهد بالجرحة إذا تكافأت البينتان؛ لأن العدالة علم ظاهر والجرحة علم باطن، فهو زيادة على ما علم الشاهد بالعدالة. وهذا قول مالك فى المدونة، وهو قول الكوفيين والشافعى وجمهور العلماء، ولمالك فى العتبية خلاف هذا القول، وسأذكر ذلك فى باب تعديل كم يجوز.
وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (أَرْضَعَتْنِى وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ)، وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ. - فيه: عَائِشَةَ: (اسْتَأْذَنَ عَلَىَّ أَفْلَحُ، فَلَمْ آذَنْ لَهُ، فَقَالَ: أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّى، وَأَنَا عَمُّكِ؟ فَقُلْتُ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِى، بِلَبَنِ أَخِى، فَقَالَتْ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: صَدَقَ أَفْلَحُ، ائْذَنِى لَهُ). - وقالت مرة: إن رَجُلٍ اسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم: (أُرَاهُ فُلانًا)، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ فُلانٌ حَيًّا، لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، دَخَلَ عَلَىَّ، فَقَالَ النبى صلى الله عليه وسلم: (نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلادَةِ). - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ الرسول فِى بِنْتِ حَمْزَةَ: (لا تَحِلُّ لِى، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، هِىَ بِنْتُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ). - وفيه: عَائِشَةَ: (دَخَلَ عَلَىَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِى رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَ: انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ). معنى هذا الباب أن ما صح من الأنساب والموت والرضاع بالاستفاضة وثبت علمه فى النفوس، وارتفعت فيه الريب والشك؛ أنه لا يحتاج فيه المعرفة بعدد الذين به ثبت علم ذلك، ولا يحتاج إلى معرفة الشهود، ألا ترى أن الرضاع الذى فى هذه الأحاديث كلها كان فى الجاهلية، وكان مستفيضًا معلومًا عند القوم الذين وقع الرضاع فيهم، وثبتت به الحرمة والنسب فى الإسلام. ويجوز عند مالك والكوفيين والشافعى الشهادة بالسماع المستفيض فى النسب والموت القديم والنكاح. وقال الطحاوى: اتفقوا أن شهادة السماع تجوز فى النكاح، ولا تجوز فى الطلاق، وتجوز عند مالك والشافعى الشهادة على ملك الدار بالسماع، زاد الشافعى: وعلى ملك الثوب أيضًا، ولا يجوز ذلك عند الكوفيين. قال مالك: لا تجوز الشهادة على ملك الدار بالسماع على خمس سنين ونحوها إلا فيما يكثر من السنين وهو بمنزلة سماع الولاء. قال ابن القاسم: وشهادة السماع إنما هى عليه فيما أتت عليه أربعون أو خمسون سنة. قال مالك: وليس يشهد على أجناس الصحابة إلا على السماع. وقال عبد الملك: أقل ما يجوز فى الشهادة على السماع أربعة شهداء من أهل العدل أنهم لم يزالوا يسمعون أن هذه الدار صدقة على بنى فلان محتبسة عليهم مما يصدق به فلان، ولم يزالوا يسمعون أن فلانًا مولى فلان، قد تواطأ ذلك عندهم وفشا من كثرة ما سمعوه من العدول وغيرهم ومن المرأة والخادم والعبد. واختلف فيما يجوز من شهادة النساء فى هذا الباب، فقال مالك: لا يجوز فى الأنساب والولاء شهادة النساء مع الرجال، وهو قول الشافعى، وإنما تجوز مع الرجال فى الأموال خاصة أو منفردات فى الاستهلال، وما لا يطلع عليه الرجال من أمور النساء، وأجاز الكوفيون شهادة رجل وامرأتين فى الأنساب. وأما الرضاع فيجوز فيه عند مالك شهادة امرأتين دون رجل، وسيأتى مذاهب العلماء فى هذا فى كتاب الرضاع إن شاء الله.
وَقَوْلِه: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4، 5]. وَجَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعًا بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ، ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ. وقال: مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ، وَأَجَازَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِىُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِىُّ، وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَشُرَيْحٌ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: الأمْرُ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ إِذَا رَجَعَ الْقَاذِفُ عَنْ قَوْلِهِ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. وقال الشُعَّبِّى وَقَتَادَة: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِّدَ وَقُبْلَت شَهَادَتُه. وقال الثَّوْرِىُّ: إِذَا جُلِدَ الْعَبْدُ ثُمَّ أُعْتِقَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنِ اسْتُقْضِىَ الْمَحْدُودُ، فَقَضَايَاهُ جَائِزَةٌ. وقال بَعْضُ النَّاسِ: لا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ، وَإِنْ تَابَ، ثُمَّ قَالَ: لا يَجُوزُ نِكَاحٌ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ مَحْدُودَيْنِ جَازَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ، وَأَجَازَ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ وَالْعَبْدِ وَالأمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلالِ رَمَضَانَ، وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ؟ وَقَدْ نَفَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الزَّانِىَ سَنَةً وَنَهَى عَنْ كَلامِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً. - فيه: عَائِشَةُ أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِى غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَأُتِىَ بِهَا النبى صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهَا، فَقُطِعَتْ يَدُهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا، وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأْتِى بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ، بِجَلْدِ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبِ عَامٍ. اختلف العلماء فى شهادة القاذف: هل ترد شهادته قبل الحد أم لا؟ فروى ابن وهب عن مالك أنه لا ترد شهادته حتى يحد. وهو قول الكوفيين. وقال الليث والأوزاعى والشافعى: ترد شهادته وإن لم يحد. وهو قول ابن الماجشون. وحجة من أجازها قبل الحد بأن الحد لا يكون إلا بأن يطلبه المقذوف ويعجز القاذف عن البينة، فإذا لم يطلب القاذف لم يؤمن عليه أن يعترف بالزنا أو تقوم عليه بينة فلا يفسق ولا يحد؛ لأنه على أصل العدالة حتى يتبين كذبه. وحجة الشافعى أنه بالقذف يفسق؛ لأنه من الكبائر، ولا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنا أو قيام البينة عليه، وهو عنده على الفسق حتى تتبين براءته ويعود إلى العدالة، وهو قبل الحد شر حالا منه حين يحد؛ لأن الحدود كفارات للذنوب، وهو بعد الحد خير منه قبله، فكيف أرد شهادته فى خير حالتيه وأجيزها فى شرها. واختلفوا إذا حد وتاب فقال جمهور السلف: إذا تاب وحسنت حالته قبلت شهادته، وممن روى عنه سوى من ذكره البخارى فى قول ابن المنذر عطاء، واختلف فيه عن سعيد ابن المسيب، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور وأبى عبيد. وممن قال: إن شهادة القاذف لا تجوز أبدًا وإن تاب: شريح، والحسن، والنخعى، وسعيد ابن جبير، وهو قول الثورى، والكوفيين، وقالوا: توبته فيما بينه وبين الله قال: وأما المحدود فى الزنا والسرقة والخمر إذا تابوا قبلت شهادتهم. واحتج الكوفيون فى رد شهادة القاذف بعموم قوله: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا} [النور: 4]، وقالوا: إن الاستثناء فى قوله: (إلا الذين تابوا} [النور: 5] راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة. وقال آخرون: الاستثناء راجع إلى الفسق والشهادة جميعًا إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له، وإذا قبل الكوفيون شهادة الزانى والقاتل والمحدود فى الخمر إذا تابوا، أو المشرك إذا أسلم وقاطع الطريق، ثم لا تقبل شهادة من شهد بالزنا فلم تتم الشهادة فجعل قاذفًا، وأجمعت الأمة أن التوبة تمحو الكفر، فوجب أن يكون ما دون الكفر أولى، وقد قال الشعبى: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته. واحتجوا بأن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، جلد الذين قذفوا المغيرة واستتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته. وكان هذا بحضرة جماعة الصحابة من غير نكير، ولو كان تأويل الآية ما تأوّله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبول توبة القاذف أبدًا. ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب، فسقط قولهم. واختلف قول مالك وأصحابه هل تقبل شهادته فى كل شىء؟ فروى عنه ابن نافع أن المحدود إذا حسنت حاله قبلت شهادته فى كل شىء وهى رواية ابن عبد الحكم عنه، وهو قول ابن كنانة، ورواه أبو زيد عن أصبغ. وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة وتقبل فيما سوى ذلك إذا تاب. وهو قول مطرف وابن الماجشون. وروى العتبى عن أصبغ وسحنون مثله، والقول الأول أولى لعموم الاستثناء، ورجوعه إلى أول الكلام وآخره، ومن ادعى تخصيصه فعليه الدليل. واختلف مالك والشافعى فى توبة القاذف ما هى؟ فقال الشافعى: توبته أن يكذب نفسه. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، واختاره إسماعيل بن إسحاق. وقال مالك: توبته أن يزداد خيرًا. ولم يشترط إكذاب نفسه فى توبته؛ لجواز أن يكون صادقًا فى قذفه. قال المهلب: وكان المسلمون احتجوا فى هذا على أبى بكرة، ألا ترى أنهم يروون عنه الأحاديث، ويحملون عنه السنة وهو لم يكذب نفسه، وقد قال له عمر: ارجع عن قذفك المغيرة ونقبل شهادتك. وإنما قال له عمر ذلك، والله أعلم، استظهارًا له كمال التوبة بالرجوع عما قال فى القذف، وإن كان يستجزئ بصلاح حاله عن تكذيب نفسه فى قبول شهادته. وأما قوله: وكيف تعرف توبته، وقد نفى النبى صلى الله عليه وسلم الزانى سنة، ونهى عن كلام كعب ابن مالك وصاحبيه حتى مضى خمسون ليلة؟ فتقدير الكلام. باب شهادة القاذف والسارق والزانى وباب كيف تعرف توبته، وكثيرًا ما يفعله البخارى يردف ترجمة على ترجمة وإن بعد ما بينهما، وأراد بقوله: وكيف تعرف توبته... إلى آخر الكلام الاحتجاج لقول مالك أنه ليس من شرط توبة القاذف تكذيب النفس وتخطئتها، والرد على الشافعى؛ فإنه زعم أن ذلك من شرط التوبة، ووجه الحجة لذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث معلمًا للناس، وأمرهم بالتوبة من ذنوبهم، ولم يأمرهم بأن يستهلوا بأنهم على معاصى الله، بل قد أمر النبى صلى الله عليه وسلم من أتى معصية ألا يتحدث بها ولا يفشيها. واستدل البخارى أن القاذف يكون تائبًا بصلاح الحال، دون إكذابه لنفسه واعترافه أنه عصى الله أو خالف أمره بلسانه؛ حين لم يشترط ذلك على الزانى فى مدة تغريبه، ولا كعب بن مالك وصاحبيه فى الخمسين ليلة، فإن زعم الشافعى أن توبة القاذف كانت مخصوصة بذلك؛ كلف الدليل عليه من كتاب أو سنة، أو إجماع أو قياس صحيح. وإنما أدخل البخارى حديث عائشة فى هذا الباب لقولها فى التى سرقت: (فحسنت توبتها) لأن فيه دليلاً أن السارق إذا تاب وحسنت حاله قبلت شهادته، وكذلك حديث زيد بن خالد أن النبى صلى الله عليه وسلم جعل حد الزانى جلد مائة وتغريب عام، ولم يشترط عليه صلى الله عليه وسلم بعد الحد والتغريب، إن تاب ألا تقبل شهادته، ولو كان ذلك شرطًا لذكره صلى الله عليه وسلم. وإنما ذكر قول الثورى وأبى حنيفة؛ ليلزمها التناقض فى قولهما أن القاذف لا تجوز شهادته، وهم يجيزونها فى مواضع، وأجاز الثورى شهادة العبد إذا جلد قبل العتق وهذا تناقض؛ لأن من قذف فقد فسق، وليس العتق توبة، وهو لو قذف بعد العتق وتاب لم تجز شهادته عنده، وكذلك أجاز قضايا المحدود فى القذف وهذا تناقض، وكيف تجوز قضايا المحدود ولا تجوز شهادته، وكذلك يلزم أبا حنيفة التناقض فى إجازته النكاح بشهادة محدودين، وإنما أجاز ذلك؛ لأن من مذهبه أن الشهود فى النكاح خاصة على العدالة وفيما سوى ذلك على الجرحة وهذا تحكم، وتغنى حكاية هذا القول عن الرد عليه. وقال ابن المنذر: أجاز أبو حنيفة النكاح بشهادة فاسقين، وقد أجمع أهل العلم على رد شهادتهم، وأبطل النكاح بشهادة عبدين. وقد اختلف أهل العلم فى قبول شهادتهم، والنظر دال على أن شهادتهم مقبولة إذا كانا عدلين، ودليل القرآن وهو قوله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]. وأما إجازته شهادة المحدود فى هلال رمضان، فإنه أجرى ذلك مجرى الخبر، والخبر يخالف الشهادة فى المعنى؛ لأن المخبر له مدخل فى حكم ما شهد به وهذا غلط؛ لأن الشاهد على هلال رمضان لا يزول عنه اسم شاهد ولا يسمى مخبرًا، فحكمه حكم الشاهد فى المعنى لاستحقاقه ذلك بالاسم، وأيضًا فإن الشهادة على هلال رمضان حكم من الأحكام، ولا يجوز أن يكون يقبل فى الأحكام إلا من تجوز شهادته فى كل شىء، ومن جازت شهادته فى هلال رمضان ولم تجز فى القذف؛ فليس بعدل ولا هو ممن يرضى؛ لأن الله إنما تعبدنا بقبول من نرضى من الشهداء، والله الموفق.
وَقَوْلِهِ: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة 282]. - فيه أَبِو سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا). أجمع العلماء على أن القول بظاهر قوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة: 282] على أن شهادة النساء تجوز مع الرجال فى الديون والأموال، وأجمع أكثر العلماء على أن شهادتهن لا تجوز فى الحدود والقصاص. هذا قول سعيد بن المسيب، والشعبى، والنخعى، والحسن البصرى، والزهرى، وربيعة، ومالك، والليث، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور. واختلفوا فى النكاح والطلاق والعتق والنسب والولاء، فذهب ربيعة، ومالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور إلى أنه لا تجوز فى شىء من ذلك كله مع الرجال. وأجاز شهادتهن فى ذلك كله مع الرجال الكوفيون، ولا دليل لهم يوجب قبول شهادتهن فى شىء من ذلك، واتفقوا أنه تجوز شهادتهن منفردات فى الحيض والولادة، والاستهلال وعيوب النساء، وما لا يطلع عليه الرجال من عورتهن للضرورة، واختلفوا فى الرضاع فمنهم من أجاز فيه شهادتهن منفردات، ومنهم من أجازها مع الرجال على ما سيأتى ذكره فى النكاح. وقال أبو عبيد: اجتمعت العلماء على أنه لا حظ للنساء فى الشهادة فى الحدود، وكذلك أجمعوا على شهادتهن فى الأموال أنه لا حظ لهن فيها. قال المؤلف: يعنى منفردات، وذلك لآيتين تأولهما، فيما نرى والله أعلم، أما آية الحدود فقوله: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور: 4] فعلم أن الشهادة فى اللغة لا تقع إلا على الذكور، ثم أمضوا على هذا جميع الحدود من الزنا والسرقة والفدية وشرب الخمر والقصاص فى النفس وما دونها. وأما آية الأموال فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم (إلى) ترضون من الشهداء} [البقرة: 282] ثم أمضوا على هذا جميع الحقوق والمواريث والوصايا والودائع والوكالات والدين، فلما صاروا إلى النكاح والطلاق والعتاق لم يجدوا فيها من ظاهر القرآن ما وجدوا فى تلك الآيتين. واختلفوا فى التأويل فشبهها قوم بالأموال فأجازوا فيها شهادة النساء. وقالوا: ليست بحدود وإنما توجب مهورًا ونفقات النساء. وأبى ذلك آخرون ورأوها كلها حدودًا؛ لأن بها يكون استحلال الفروج وتحريمها. قال أبو عبيد: وهذا القول يختار؛ لأن تأويل القرآن يصدقه، ألا تسمع قوله تعالى حين ذكر الطلاق والرجعة فقال: {وأشهدوا ذوى عدل منكم} [الطلاق: 2] فخص بها الرجال ولم يجعل للنساء فيها حظا كما جعله فى الدين، ثم أبْينُ من ذلك أنه سماها: حدود الله فقال: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة: 229] فكان هذا أكثر من التأويل. والأمر عندنا عليه أنه لا تجوز شهادتهن فى نكاح ولا طلاق ولا رجعة، وكيف يقبل قولهن فى هذه الحال على غيرهن ولا يملكنها من أنفسهن، ولم يجعل الله إليهن عقد نكاح ولا حله؟ لأن الله خاطب الرجال فى ذلك دونهن فى كتابه. قال أبو عبيد: والعتاق عندنا مثل ذلك كله لا تجوز فيه شهادتهن لما يدخل فيه من تحليل الفروج وتحريمها. قال المهلب: وفى حديث أبى سعيد دليل أن الناس يجب أن يتفاضلوا فى الشهادة بقدر عقولهم وفهمهم وضبطهم، وأن يكون الرجل الصالح الذى نعرف منه الغفلة والبلادة يتوقف عند شهادته فى الأمور الخفية، وتقل شهادة اليقظان الفهم العدل، والتفاضل فى شهادتهما على قدر أفهامهما. وفيه: أن الشاهد إذا نسى الشهادة ثم ذكره بها صاحبه حتى ذكرها أنها جائزة؛ لقوله: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة: 282] فدخل فى معنى ذلك الرجال أيضًا.
وَقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق 6]. - فيه: عُمَرَ: إِنَّ نَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْىِ فِى عَهْدِ النبى صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الْوَحْىَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ، وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِى سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا شَرًا لَمْ نَأْمَنْهُ، وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. قال أبو الحسن بن القابسى: ينبغى لكل من سمع هذا الحديث أن يحفظه ويتأدب به. والمرفوع من هذا الحديث إخبار عمر عما كان الناس يؤخذون به على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية الخبر بيان لما يستعمله الناس بعد انقطاع الوحى بوفاة النبى صلى الله عليه وسلم. وفى هذا الحديث من الفقه: أن من ظهر منه الخير فهو العدل الذى تجب قبول شهادته. واختلفوا فى ذلك فقال النخعى: العدل: الذى لم تظهر له ريبة. وهو قول أحمد وإسحاق. وقال أبو عبيد: من ضيع شيئًا مما أمره الله به أو ركب شيئًا مما نهى الله عنه، فليس بعدل؛ لقوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض..} [الأحزاب: 72] الآية، والأمانة جميع الفرائض اللازمة واللازم تركها. وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعى: من كانت طاعته أكثر من معاصيه، وكان الأغلب عليه الخير، زاد الشافعى: والمروءة، ولم يأت كبيرة يجب بها الحد أو ما يشبه الحد قبلت شهادته؛ لأنه لا يسلم أحد من ذنب. ومن أقام على معصية أو كان كثير الكذب غير مستتر به لم تجز شهادته. وقال الطحاوى: لا يخلو ذكر المروءة أن يكون فيما يحل أو يحرم، فإن كانت فيما يحل فلا معنى لذكرها، وإن كانت فيما يحرم فهى من المعاصى، فالمراعاة هى فى إتيان الطاعة واجتناب المعصية. قال المهلب: فى هذا الحديث دليل أن سلف الأمة كانوا على العدالة؛ لشهادة الله لهم أنهم خير أمة أخرجت للناس. وقال الحسن البصرى وغيره وذكره ابن شهاب: إن القضاة فيما مضى كانوا إذا شهد عندهم الشاهد قالوا: قد قبلناه لدينه، وقالوا للمشهود عليه: دونك فجرح؛ لأن الجرحة كانت فيهم شاذة، فعلى هذا كان السلف، ثم حدث فى الناس غير ذلك. واتفق مالك والكوفيون والشافعى أن الشهود اليوم على الجرحة حتى تثبت العدالة. قال أبو حنيفة: إلا شهود النكاح فإنهم على العدالة. وهذا قول لا سلف له فيه ولا دليل عليه، ولو عكس عليه هذا القول لم يكن أحد القولين أولى بالحكم من الآخر، وحجة الفقهاء أن الشهود على الجرحة قوله: (وأشهدوا ذوى عدل منكم} [الطلاق: 2]) ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282] فخاطب الحكام ألا يقبلوا إلا من كان بهذه الصفة، ودل القرآن فى الناس غير مرضى ولا عدل، فلذلك كلف الطالب إذا جعل القاضى أحوال الشهود أن يعدلوا عنده.
- فيه: أَنَسٍ: (مُرَّ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، فسئل فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: شَهَادَةُ الْقَوْمِ، الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأرْضِ). - وفيه: عُمَرَ، أنه مُرَّ عليه بجَنَازَةٌ، فَأُثْنِىَ خَيْرًا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى، فَأُثْنِىَ خَيْرًا، فَقَالَ: وَجَبَتْ... الحديث. فسئل، فَقَالَ: قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، قُلْنَا: وَثَلاثَةٌ؟ قَالَ: وَثَلاثَةٌ، قُلْتُ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ، فلَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ). اختلف العلماء فى عدد من يجوز تعديله، فقال مالك ومحمد بن الحسن والشافعى: لا يقبل فى التعديل والجرح أقل من رجلين. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يقبل تعديل الواحد وجرحه. وحديث عمر حجة لمالك ومن وافقه. واحتج الطحاوى لذلك فقال: لما لم ينفذ الحكم إلا برجلين فكذلك الجرح والتعديل، فلما كان من شرط المزكى والجارح العدالة وجب أن يكون من شرطها العدد. واتفقوا أنه لو عدل رجلان وجرح واحد أن التعديل أولى، فلو كان الواحد مقبولا لما صح التعديل مع جرح الواحد. واتفقوا إذا استوى الجرح والتعديل، فإن الجرح أولى أن يعمل به من التعديل وهو قول مالك فى المدونة، والحجة لذلك أن الجرح باطن والعدالة علم ظاهر، والجارح يصدق المعدل ويقول: قد علمت من حاله مثل ما علمت أنت وانفردت أنا بعلم ما لم تعلم أنت من أمره بعلم انفردت به لا ينافى خبر المعدل وخبر المعدل لا ينافى صدق الجارح، فوجب أن يكون الجرح أولى من التعديل. ولمالك قول آخر فى العتبية من رواية أشهب وابن نافع أنه ينظر إلى أعدل البينتين فيقضى بها وقال ابن نافع: الجرحة أولى. والحجة لقول ابن نافع ما تقدم من تصديق الجارحين للمعدلين وإخبارهم بما انفردوا به دونهم، وكذلك لو كثر عدد المعدلين على عدد الجارحين كان قول الجارحين أولى، وهو قول الجمهور والأكثر، والحجة له ما تقدم ذكره.
- فيه: النُّعْمَانِ قَالَ: سَأَلَتْ أُمِّى أَبِى بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِى مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِى، فَقَالَتْ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ بِيَدِى، وَأَنَا غُلامٌ فَأَتَى بِىَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِى بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا، قَالَ: أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأُرَاهُ قَالَ لا تُشْهِدْنِى عَلَى جَوْرٍ. وقال مرة: لا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ. - فيه: عِمْرَانَ: قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُكُمْ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ عِمْرَانُ: لا أَدْرِى، أَذَكَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً، فَقَالَ النَّبِىُّ عليه السلام: إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ). - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُكم قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، مرتين، ثُمَّ يَجِىءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ). قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْد. قال المهلب: فى حديث النعمان دليل أن الرجل إذا فهم من عطيته فرار من بعض الورثة أنه لا يعان عليها بشهادة ولا بإمضاء ويؤمر بارتجاعها، وإنما فهم صلى الله عليه وسلم الجور فى ذلك لقولها: (لا أرضى حتى تشهد النبى صلى الله عليه وسلم) مع علمه بميله إليها وتقمن مسرتها. ففيه دليل أن الحاكم يحكم بما فهم من المسائل كما فهم النبى صلى الله عليه وسلم أنه يطلب رضاها وتفضيل ولدها على إخوته فهذا هو الجور. قال غيره: وفى قوله: (لا أشهد على جور) من الفقه ألا يضع أحد اسمه فى وثيقة لا تجوز. ومن العلماء من رأى أن يضع اسمه فى وثيقة الجور؛ ليكون شاهدًا عليه بأنه فعل ما لا يجوز له فيرد فعله، وإن تعمد ذلك كان فى الشهادة عليه جرحة تسقط شهادته، والقول الأول الذى يوافق الحديث أولى. قال المهلب: وفى حديث عمران تعديل القرون الثلاثة على منازل متفاضلة، وفيه شمول التجريح لمن يأتى بعدهم، وصفة لمن لا تقبل شهادته ممن شهد على ما لم يشهد عليه، ويخون فيما اؤتمن ولا يفى بما حلف به أو نذره، فهذه صفات الجرحة. وقوله: (ويظهر فيهم السمن) يعنى أنه ليس لهم فى الدنيا إلا كثرة الأكل، واتباع اللذات، ولا رغبة لهم فى أسباب الآخرة؛ لغلبة شهوات الدنيا عليهم. قال الطحاوى: واحتج قوم بقوله صلى الله عليه وسلم: (يشهدون ولا يستشهدون) فقالوا: لا تجوز شهادة من شهد بها قبل أن يسألها، وهو مذموم. وخالفهم فى ذلك آخرون وقالوا: بل هو محمود مأجور على ذلك. واحتجوا بأن النبى صلى الله عليه وسلم إنما ذكر هذا فى تغير الزمن فقال: (يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة ولا يسألها، وحتى يحلف على اليمين ولا يستحلف) فمعنى ذلك أن يشهد كاذبًا؛ لقوله: (ثم يفشو الكذب) فيكون كذا وكذا، فلا يجوز أن يكون ذلك الذى يكون إذا فشا الكذب إلا كذبًا، وإلا فلا معنى لذكره فشو الكذب، وأيضًا فإن هذه الشهادة المذمومة لم يرد بها الشهادة على الحقوق، وإنما أريد بها الشهادة فى الأيمان، يدل على ذلك قول النخعى فى آخر الحديث، وهو الذى رواه، قال: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد. فدل هذا من قول إبراهيم أن الشهادة التى ذم النبى صلى الله عليه وسلم صاحبها فى قول الرجل أشهد بالله ما كان كذا على كذا على معنى الحلف، فكره ذلك كما كره الحلف، لأنه مكروه للرجل الإكثار منه وإن كان صادقًا، فنهى عن الشهادة التى هى حلف بها، كما نهى عن اليمين إلا أن يستحلف فيكون حينئذ معزورًا، واليمين قد تسمى شهادة، قال الله تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} [النور: 6]، أى أربع أيمان، وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى تفضيل الشاهد المبتدئ بالشهادة ما رواه مالك، عن عبد الله بن أبى بكر، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن ابن أبى عمرة الأنصارى، عن زيد بن خالد الجهنى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بخير الشهداء، الذى يأتى بالشهادة قبل أن يسألها) وفسره مالك فقال: الرجل تكون عنده الشهادة فى الحق لمن لا يعلمها فيخبر بشهادته ويرفعها إلى السلطان. قال الطحاوى: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مدحه وجعله خير الشهداء، فأولى بنا أن نحمل الأخبار على هذا التأويل حتى لا تتضاد ولا تختلف، فتكون أحاديث هذا الباب على هذا المعنى الذى ذكرناه، ويكون حديث زيد بن خالد على تفضيل المبتدئ بالشهادة لمن هى له أو المخبر بها الإمام. وقد فعل ذلك أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وشهدوا ابتداء، شهد أبو بكرة ومن كان معه على المغيرة بن شعبة، ورأوا ذلك لأنفسهم لازمًا، ولم يعنفهم عمر على ابتدائهم بها؛ بل سمع شهادتهم، ولو كانوا فى ذلك مذمومين لذمهم، وقال: من سألكم عن هذا ألا قعدتم حتى تسألوا، ولما لم ينكر عليهم عمر ولا أحد ممن كان بحضرته دل أن فرضهم ذلك وابتداؤهم لا عن مسألة محمود، وهو قول مالك والكوفيين. قال الطحاوى: قوله: (ويشهدون ولا يستشهدون) حجة لابن شبرمة فى قوله أنه من سمع رجلا يقول لفلان، عندى كذا وكذا، ولم يشهده الذى عليه بذلك على نفسه فلا يقبل؛ لأنه لعله أن يكون ذلك وديعة عنده فليس بشىء، فأما أن يناقله الكلام فيقول: يا فلان، ألا تعطنى كذا الذى لى عندك. فقال: بل أنا معطيك فأنظرنى، فيجوز أن يشهد عليه. قال: والحجة عليه قوله فى حديث ابن مسعود: (ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته). قال إبراهيم: وكانوا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف بالشهادة والعهد. فدل أن الشهادة المذمومة هى المحلوف بها التى يجعلها الإنسان عادته كما قال تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} [البقرة: 224]. ولا خلاف بين العلماء أن من رأى رجلا يقتل رجلا أو يغصبه مالا أنه يجوز أن يشهد به، وإن لم يشهده الجانى على نفسه بذلك. فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: (تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) يدل أن الشهادة والحلف عليها يبطلها. قيل: لا خلاف بين العلماء أنه تجوز الشهادة والحلف عليها، وهو فى كتاب الله فى ثلاثة مواضع: (ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق} [يونس: 53]، وقال: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى..} [التغابن: 7] الآية) وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم} [سبأ: 3] إلا ما ذكره ابن شعبان فى (كتاب الزاهى) قال: من قال: أشهد بالله: لفلان على فلان كذا. لم تقبل شهادته؛ لأنه حالف وليس بشاهد. والمعروف غير هذا عن مالك، فانظره فى كتبه.
لِقَوْلِ الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان 72] وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، لِقَوْلِهِ: (وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة 283]. - فيه: أَنَسٍ: (سُئِلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَبَائِرِ، فَقَالَ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ). - وفيه: أَبِو بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ، قَالَ: فكَرِّرُهَا، حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ). فى حديث أبى بكرة أن شهادة الزور أكبر الكبائر. وقد روى عن ابن مسعود أنه قال: عدلت شهادة الزور بالشرك بالله. ثم قرأ: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله}. واختلف العلماء فى عقوبة شاهد الزور، فذكر عبد الرزاق، عن مكحول، عن الوليد ابن أبى مالك، أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله بالشام فى شاهد الزور أن يجلد أربعين، ويسخم وجهه، ويحلق رأسه، ويطال حبسه. ورواية أخرى عن عمر أنه أمر أن يسخم وجهه وتلقى عمامته فى عنقه، ويطاف به فى القبائل ويقال: شاهد زور، ولا تقبل شهادته أبدًا. وروى ابن وهب، عن مالك: أنه يجلد ويطاف به ويشنع به. وقال ابن القاسم: بلغنى عن مالك أنه قال: لا تقبل شهادته أبدًا وإن تاب وحسنت توبته اتباعًا لعمر بن الخطاب. قال ابن أبى ليلى: يعزره. وهو قول أبى يوسف ومحمد، وقال الشافعى: يعزره ويشهر به وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال شريح: يشهر ولا يعزر. وهو قول أبى حنيفة. قال الطحاوى: شهادة الزور فسق، ومن فسق رجلا عزر بوجود الفسق فيه أولى أن يستحق به التعزير، ولا يختلفون أن من فسق بغير شهادة الزور؛ أن توبته مقبولة وشهادته بعدها، كذلك شاهد الزور.
وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ القَاسِمٌ بن محمد، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِىُّ وَعَطَاءٌ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَاقِلا. وقال الْحَكَمُ: رُبَّ شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ. وقال الزُّهْرِىُّ: أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُ رَجُلا إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ أَفْطَرَ، وَيَسْأَلُ عَنِ الْفَجْرِ، فَإِذَا قِيلَ: طَلَعَ الْفَجْرِ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وقال سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَعَرَفَتْ صَوْتِى، قَالَتْ: سُلَيْمَانُ ادْخُلْ، فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِىَ عَلَيْكَ شَيْءٌ. وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مُنْتَقِبَةٍ. - فيه: عَائِشَةَ: (سَمِعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، رَجُلا يَقْرَأُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا، وَقَالتْ: عَائِشَةَ: تَهَجَّدَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى بَيْتِى، فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّى فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا). - فيه: ابْنِ عُمَرَ، (قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَ أَعْمَى لا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ: أَصْبَحْتَ). - وفيه: الْمِسْوَرِ: (قَدِمَتْ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ، فَقَالَ لِى أَبِى مَخْرَمَةُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ، عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا، فَقَامَ أَبِى عَلَى الْبَابِ، فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، صَوْتَهُ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ وَمَعَهُ قَبَاءٌ، وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ). اختلف العلماء فى شهادة الأعمى فأجازها سوى من ذكره البخارى مالك والليث فيما طريقه الصوت، وسواء علم ذلك قبل العمى أو بعده، قال مالك: وإن شهد على زنا حد للقذف ولم تقبل شهادته. وقال النخعى وابن أبى ليلى: إذا علمه قبل العمى جازت، وما علمه فى حال العمى لم تجز. وهو قول أبى يوسف والشافعى، وقال أبو حنيفة ومحمد: لا تجوز شهادة الأعمى بحال. وحجة الذين أجازوا شهادته أن النبى صلى الله عليه وسلم سمع عبادًا فعرف شخصه بكلامه ودعا له، وسمع صوت مخرمة من بيته فعرفه، وكذلك عرفت عائشة صوت سليمان بن يسار. وقد احتج مالك بقصة ابن أم مكتوم فقال: وكان أعمى إمامًا مؤذنًا على عهد النبى صلى الله عليه وسلم، وقَبِلَ النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون المؤذنين فى الأوقات والسماع منهم، وقال: إنما حفظ الناس عن أزواج النبى صلى الله عليه وسلم ما حفظوه وهن من وراء حجاب. قال المهلب: والذى سمع صوت ابن أم مكتوم من بيته فعلم أنه الذى أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالكف عن الطعام بصوته، فهو كالأعمى أيضًا يسمع صوت رجل فعرفه فتجوز شهادته عليه بما سمع منه وإن لم يره. قال ابن القصار: والصوت فى الشرع قد أقيم مقام الشهادة، ألا ترى أن الأعمى يطأ زوجته بعد أن يعرف صوتها، والإقدام على الفرج واستباحته أعظم من الشهادة فى الحقوق، واحتج من لم يجز شهادته فقال: إن العقود والإقرارات لا تجوز الشهادة عليها بالاستفاضة، فكذلك لا تجوز شهادة الأعمى؛ لأنه لا يتيقن أن هذا صوت فلان لجواز شبهه بصوت غيره، كالخط لا يجوز أن يشهد عليه حتى يذكر أنه شاهد فيه، وإنما كان ذلك لأن الخط يشبه الخط. قالوا: وهذه دلالة لا انفصال عنها. قال ابن القصار: فالجواب أن العقود والإقرارات مفتقرة إلى السماع ولا تفتقر إلى المعاينة بخلاف الأفعال التى تفتقر إلى المعاينة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {واختلاف ألسنتكم وألوانكم} [الروم: 22]، فجعل من الدلائل على محكم صنعته ووحدانيته اختلاف الألسنة والألوان، ثم وجدنا الخلق قد يتشابه كما تتشابه الأصوات، فلما تقرر أنه إذا شهد على عين جاز، وإن جاز أن تشبه عينًا أخرى، كذلك يشهد على الصوت وإن جاز أن يشبه صوتًا آخر. وقد رجع مالك عن الشهادة على الخط؛ لأن الخطوط كثيرة الشبه وليست الأصوات والخلق كذلك، ألا ترى أنه تعالى ذكر اختلاف الألسنة والألوان ولم يذكر الخطوط. قال ابن القابسى: قد روى الاثنان الحكم بشهادة الخط منهم ابن القاسم وابن وهب واستمر عليه العمل.
وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ، إِذَا كَانَ عَدْلا. وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إِلا الْعَبْدَ لِسَيِّدِهِ. وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فِى الشَّيْءِ التَّافِهِ، وَقَالَ شُرَيْحٌ: كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ. - عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَة أَبِى إِهَابٍ، فَجَاءَتْهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْرَضَ عَنِّى، قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: كَيْفَ، وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا، فَنَهَاهُ عَنْهَا). اختلف الناس فى شهادة العبيد على ثلاثة مذاهب: فروى عن على بن أبى طالب كقول أنس وشريح أنها تقبل فى كل شىء كالأحرار، وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور. وأجازها الشعبى فى الشىء التافه كقول الحسن والنخعى. والمذهب الثالث أنها لا تجوز فى شىء أصلا، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس وهو قول عطاء ومكحول، وإليه ذهب مالك والثورى وأبو حنيفة والأوزاعى والشافعى. وأما الذين أجازوها فى كل شىء فإنهم قالوا: إذا كان رضىً فإنه داخل فى جملة قوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]، وأيضًا فإن إشارة النبى صلى الله عليه وسلم إلى عقبة بالتنزه عن زوجته من أجل شهادة الأمة دليل على سماع شهادة المملوك والحكم بشبهتها، واحتج الذين لم يجيزوها فى شىء. فقالوا: ليس قوله صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد زعمت) مما حكم به صلى الله عليه وسلم، من طريق الوجوب، وإنما هو عرض وندب، فلا تلزم الحجة به. قال تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة: 282] والإباءة إنما تكون من الحر، والعبد ممنوع من الإجابة لحق المولى فلم يدخل تحت النهى كما لم يدخل فى قوله: ) فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9]، وقوله: (انفروا خفافًا وثقالاً} [التوبة: 41]، وقوله: (ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97]، وذلك كله لحق المولى. وقال ابن القصار: فإن قيل: أداء الشهادة عليه فرض كالصلاة والصيام ليس لسيده منعه من ذلك. قيل: هذا غلط؛ لأن فرض الصلاة والصيام إيجاب من الله ابتداء، وتحمل الشهادة هو من قبل العبد، فلا فرض عليه فى أدائها حتى يأذن له السيد أو يُعتق كما ينذر على نفسه نذرًا. فإن قيل: كل من جاز قبول خبره جاز قبول شهادته كالحر. قيل: الفرق بين ذلك أن الخبر قد سومح فيه ما لم يسامح فى الشهادة؛ لأن الخبر يقبل من الأمة منفردة والعبد منفردًا، ولا تقبل شهادة الأمة منفردة ولا العبد منفردًا، والعبد ناقص عن رتبة الحر فى الأحكام فكذلك فى الشهادة.
|