/ فصـل
الكلام على قوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق: 33].
وفي هذه الآية قال: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} [الأعلى: 10].
وقال في قصة فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، فعطف الخشية على التذكر.
وقال: {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
وفي قصة الرجل الصالح المؤمن الأعمى قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 3، 4].
وقال في [حم] المؤمن: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} [غافر: 12، 13]، فقال: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ}.
/ والإنابة جعلها مع الخشية في قوله: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق: 32ـ34].
وذلك لأن الذي يخشى اللّه لابد أن يرجوه ويطمع في رحمته، فينيب إليه ويحبه، ويحب عبادته وطاعته. فإن ذلك هو الذي ينجيه مما يخشاه، ويحصل به ما يحبه.
والخشية لا تكون ممن قطع بأنه معذب؛ فإن هذا قطع بالعذاب، يكون معه القنوط، واليأس، والإبلاس. ليس هذا خشية وخوفا.
وإنما يكون الخشية والخوف مع رجاء السلامة؛ ولهذا قال: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22].
فصاحب الخشية للّه ينيب إلى اللّه، كما قال:{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق: 31 - 34]. وهذا يكون مع تمام الخشية والخوف.
فأما في مباديها، فقد يحصل للإنسان خوف من العذاب والذنب / الذي يقتضيه، فيشتغل بطلب النجاة والسلام، ويعرض عن طلب الرحمة والجنة.
وقد يفعل مع سيئاته حسنات توازيها وتقابلها، فينجو بذلك من النار ولا يستحق الجنة، بل يكون من أصحاب الأعراف. وإن كان مآلهم إلى الجنة فليسوا ممن أُزْلفت لهم الجنة ـ أي: قربت لهم ـ إذ كانوا لم يأتوا بخشية اللّه والإنابة إليه. واستجمل بعد ذلك.
فَصــل
وأما قوله ـ في قصة فرعون ـ: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 3، 4]، فلا يناقض هذه الآية؛ لأنه لم يقل في هذه الآية [سيخشى من يذكر]، بل ذَكَرَ أن كل من خشى فإنه يتذكر؛ إما أن يتذكر فيخشى ـ وإن كان غيره يتذكر فلا يخشى، وإما أن تدعوه الخشية إلى التذكر. فالخشية مستلزمة للتذكر. فكل خاش متذكر.
كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر:28]، فلا يخشاه إلا / عالم. فكل خاش للّه فهو عالم. هذا منطوق الآية.
وقال السلف وأكثر العلماء: إنها تدل على أن كل عالم فإنه يخشى اللّه، كما دل غيرها على أن كل من عصى اللّه فهو جاهل.
كما قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍُ} [النساء: 17]، فقالوا لي: [كل من عصى اللّه فهو جاهل]. وكذلك قال مجاهد، والحسن البَصْري، وغيرهم من العلماء التابعين ومن بعدهم.
وذلك أن الحصر في معنى الاستثناء، والاستثناء من النفي إثبات عند جمهور العلماء. فنفي الخشية عمن ليس من العلماء؛ وهم العلماء به الذين يؤمنون بما جاءت به الرسل، يخافونه.
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. وأثبتها للعلماء. فكل عالم يخشاه. فمن لم يخش اللّه فليس من العلماء، بل من الجهال، كما قال عبد اللّه بن مسعود: [كفي بخشية اللّه علمًا، وكفي / بالاغترار باللّه جهلًا]. وقال رجل للشَّعبي: [أيها العالم!] فقال: [إنما العالم من يخشى اللّه!].
فكذلك قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} [الأعلى: 10]، يقتضى أن كل من يخشاه فلابد أن يكون ممن تذكر. وقد ذكر أن الأشقى يتجنب الذكرى، فصار الذي يخشى ضد الأشقى. فلذلك يقال: (كل من تذكر خشى).
والتحقيق أن التذكر سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية؛ كما أن العلم سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية.
وعلى هذا، فقوله في قصة فرعون: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، جعل ذلك نوعين لما في ذلك من الفوائد:
أحدها: أنه إذا تذكر أنه مخلوق وأن اللّه خالقه، وليس هو إلهًا وربّا كما ذكر، وذكر إحسان اللّه إليه. فهذا التذكر يدعوه إلى اعترافه بربوبية اللّه وتوحيده وإنعامه عليه. فيقتضى الإيمان والشكر، وإن قدر أن اللّه لا يعذبه.
فإن مجرد كون الشيء حقًا ونافعًا يقتضى طلبه وإن لم يخف ضررًا / بعدمه. كما يسارع المؤمنون إلى فعل التطوعات والنوافل لما فيها من النفع ـ وإن كان لا عقوبة في تركها ـ كما يحب الإنسان علوما نافعة ـ وإن لم يتضرر بتركها ـ وكما قد يحب محاسن الأخلاق ومعالى الأمور لما فيها من المنفعة واللذة في الدنيا والآخرة ـ وإن لم يخف ضررًا بتركها.
فهو إذا تذكر آلاء اللّه وتذكر إحسانه إليه فهذا قد يوجب اعترافه بحق اللّه وتوحيده وإحسانه إليه، ويقتضى شكره للّه وتسليم قوم موسى إليه ـ وإن لم يخف عذابًا ـ فهذا قد حصل بمجرد التذكر.
قال: {أَوْ يَخْشَى}. ونفس الخشية إذا ذكر له موسى ما توعده اللّه به من عذاب الدنيا والآخرة، فإن هذا الخوف قد يحمله على الطاعة والانقياد ولو لم يتذكر.
وقد يحصل تذكر بلا خشية، وقد يحصل خشية بلا تذكر، وقد يحصلان جميعا ـ وهو الأغلب ـ قال تعالى: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
وأيضًا، فَذِكْر الإنسان يحصل بما عرفه من العلوم قبل هذا، فيحصل بمجرد عقله، وخشيته تكون بما سمعه من الوعيد. فبالأول يكون ممن له قلب يعقل به، والثاني يكون ممن له أذن يسمع بها.
/ وقد تحصل الذكرى الموجبة للخير بهذا وبهذا، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌِ} [ق: 36، 37].
الفائدة الثانية: أن التذكر سبب الخشية، والخشية حاصلة عن التذكر. فَذَكَرَ التذكر الذي هو السبب، وذَكَرَ الخشية التي هى النتيجة ـ وإن كان أحدهما مستلزما للآخر ـ كما قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، وكما قال أهل النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، وقـــال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] فكل من النوعين يحصل به النجاة لأنه مستلزم للآخر.
فالذي يسمع ما جاءت به الرسل ـ سمعًا يعقل به ما قالوه ـ ينجو. وإلا فالسمع بلا عقل لا ينفعه، كما قال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16]، وقال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 42]، وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2].
/ وكذلك العقل بلا سمع لما جاءت به الرسل لا ينفع. وقد اعترف أهل النار بمجيء الرسل فقالوا: {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الملك: 9].
وكذلك المْعَتبِرين بآثار المعَذَّبين الذين قــال فيهم: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ} [الحــج: 46]. إنمــا ينتفعـــون إذا سمعوا أخبار المعذبين المكذبين للرســل والناجــين الذيــن صدقوهــم، فســمعوا قول الرسل وصدقوهم.
الفائدة الثالثة: أن الخشية ـ أيضًا ـ سبب للتذكر كما تقدم. فكل منهما قد يكون سببًا للآخر. فقد يخاف الإنسان فيتذكر، وقد يتذكر الأمور المخوفة فيطلب النجاة منها، ويتذكر ما يرجو به النجاة منها فيفعله.
فإن قيل: مجرد ظن المخوف قد يوجب الخوف، فكيف قال:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28] ؟
قيل: النفس لها هوى غالب قاهر لا يصرفه مجرد الظن، وإنما يصرفه العلم بأن العذاب واقع لا محالة. وأما من كان يظن أن العذاب يقع ولا يوقن بذلك فلا يترك هواه؛ ولهذا قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40].
/ وقال تعالى في ذم الكفار: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]، ووصف المتقين بأنهم بالآخرة يوقنون.
ولهذا أقسم الرب على وقوع العذاب والساعة، وأمر نبيه أن يقسم على وقوع الساعة وعلى أن القرآن حق، فقال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]، وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، وقال: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
فصـل
وأما قوله تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} [غافر: 13]، فهو حق كما قال. فإن المتذكر إما أن يتذكر ما يدعو إلى الرحمة والنعمة والثواب كما يتذكر الإنسان ما يدعوه إلى السؤال فينيب، وإما أن يتذكر ما يقتضى الخوف والخشية فلابد له من الإنابة حينئذ لينجو مما يخاف.
ولهذا قيل في فرعون: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} فينيب، {أَوْ يَخْشَى}. / وكذلك قال له موسى {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 18، 19]، فجمع موسى بين الأمرين لتلازمهما.
وقال في حق الأعمى:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:3، 4]. فذكر الانتفاع بالذكرى، كما قال:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
والنفع نوعان: حصول النعمة، واندفاع النقمة. ونفس اندفاع النقمة نفع وإن لم يحصل معه نفع آخر، ونفس المنافع التي يخاف معها عذاب نفع، وكلاهما نفع. فالنفع تدخل فيه الثلاثة، والثلاثة تحصل بالذكرى، كما قال تعالى {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}، وقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى}.
وأما ذكر التزكي مع التذكر فهو كما ذكر في قصة فرعون الخشية مع التذكر. وذلك أن التزكي هو الإيمان والعمل الصالح الذي تصير به نفس الإنسان زكية، كما قال في هذه السورة: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]، وقال:{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10]، وقال /: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة: 2]، وقال: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7]،وقال موسى لفرعون: {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18، 19].
وعطف عليه: {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى}، لوجوه:
أحدها: أن التزكي يحصل بامتثال أمر الرسول ـ وإن كان صاحبه لا يتذكر علومًا عنه ـ كما قال: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، ثم قال: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. فالتلاوة عليهم والتزكية عام لجميع المؤمنين، وتعليم الكتاب والحكمة خاص ببعضهم. وكذلك التزكي عام لكل من آمن بالرسول، وأما التذكر فهو مختص لمن له علوم يذكرها، فعرف بتذكره ما لم يعلمه غيره من تلقاء نفسه.
الوجه الثاني: أن قوله: {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 4] يدخل فيه النفع، قليله وكثيره، والتزكي أخص من ذلك.
الثالث: أن التذكر سبب التزكي، فإنه إذا تذكر خاف ورجا، فتزكى. فذكر الحكم وذكر سببه. ذكر العمل وذكر العلم، وكل منهما مستلزم للآخر.
/ فإنه لا يتزكى حتى يتذكر ما يسمعه من الرسول، كما قال: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} [الأعلى: 10]. فلابد لكل مؤمن من خشية وتذكر.
وهو إذا تذكر فإنه ينتفع، وقد تتم المنفعة، فيتزكى.
وقوله: {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، فيه ـ أيضًا ـ نحو هذه الوجوه.
فإن الشاكر قد يشكر اللّه على نعمه وإن لم يخف، والتذكر قد يقتضى الخشية.
وأيضًا، فإن التذكر يقتضي الخوف من العقاب وطلب الثواب فيعمل للمستقبل، والشكر على النعم الماضية.
وأيضًا، فالتذكر تذكر علوم سابقة، ومنها تذكر نعم اللّه عليه، فهو سبب للشكر. تذكر السبب والمسبب.
وأيضًا، فإن الشكر يقتضى المزيد من النعم، والتذكر قد يكون لهذا، وقد يكون خوفا من العذاب.
وقد يكون الأمر بالعكس، فالشاكر قد يشكر الشكر الواجب لئلا يكون كفورًا فيعاقب على ترك الشكر بسلب النعمة وعقوبات أخر، / والمتذكر قد يتذكر ما أعده اللّه لمن أطاعه فيطيعه طلبًا لرحمته.
وأيضًا، فالتذكر قد يكون لفعل الواجبات التي يدفع بها العقاب، والشكور يكون للمزيد من فضله، كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى تورمت قدماه. فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: (أفلا أكون عبدًا شكورًا؟).
وقال صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدُكُم الموت: إما محسن فيزداد إحسانا، وإما مسيئًا فلعله أن يُسْتَعْتَب). فالمؤمن دائمًا في نعمة من ربه تقتضى شكرًا، وفي ذنب يحتاج إلى استغفار.
وهو في سيد الاستغفار يقول: (أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
وقد علم تحقيق قوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79]، فما أصابه من الحسنات هى نعم اللّه فتقتضى شكرًا، وما أصابه من المصائب فبذنوبه تقتضى تذكرًا لذنوبه يوجب توبة واستغفارًا.
وقد جعل اللّه {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}[الفرقان: 62]، فيتوب/ ويستغفر من ذنوبه، {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، لربه على نعمه. وكل ما يفعله الله بالعبد من نعمة، وكل ما يخلفه اللّه، فهو نعمة اللّه عليه. فكلما نظر إلى ما فعله ربه شكر، وإذا نظر إلى نفسه استغفر.
والتذكر قد يكون تذكر ذنوبه وعقاب ربه. وقد يدخل فيه تذكر آلائه ونعمه، فإن ذلك يدعو إلى الشكر. قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 103]، في غير موضع، فقد أمر بذكر نعمه. فالمتذكر يتذكر نعم ربه، ويتذكر ذنوبه.
وأيضًا، فهو ذكر الشكور؛ لأنه مقصود لنفسه، فإن الشكر ثابت في الدنيا والآخرة. وذكر التذكر؛ لأنه أصل للاستغفار، والشكر، وغير ذلك. فذكر المبدأ وذكر النهاية. وهذا المعنى يجمع ما قيل. واللّه ـ سبحانه ـ أعلم.
فصـل
والتذكر اسم جامع لكل ما أمر اللّه بتذكره، كما قال: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]، أى قامت الحجة عليكم بالنذير الذي جاءكم، وبتعميركم عمرًا يتسع للتذكر.
/ وقد أمر ـ سبحانه ـ بذكر نعمه في غير موضع، كقوله: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [البقرة: 231].
والمطلوب بذكرها شكرها، كما قال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 150 - 152].
وقـوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ} يتناول كل من خوطب بالقرآن. وكذلك قولـه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]. فالرسول من أنفس من خوطب بهذا الكلام، إذ هى كاف الخطاب.
ولما خوطب به ـ أولا ـ قريش، ثم العرب، ثم سائر الأمم، صار يخص ويعم بحسب ذلك.
وفيه ما يخص قريشًا كقوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ} [قريش: 1، 2]. وقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44].
وفيه ما يعم العرب ويخصهم، كقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة: 2]، والأميون يتناول العرب قاطبة دون أهل الكتاب.
ثم قـال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]. فهـذا يتناول كـل مـن دخـل في الإســلام ـ بعـد دخـول العـرب فيـه ـ إلى يـوم القيامـة، كما قـال ذلك مقاتـل بـن حيان [هو أبو بسطام مقاتل بن حيان النبطى البلخى الخراز، مولى بكر بن وائل، وثقه ابن معين وأبو داود، وقال النسائى: ليس به بأس، مات قبل الخمسين ومائة تقريبًا]، وعبد الرحمن بن زيد، وغيرهما.
فإن قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} ؛ أى: في الدين دون النسب، إذ لو كانوا منهم في النسب لكانوا من الأميين.
وهذا كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ} [الأنفال: 75].
وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (لو كان الإيمان معلقًا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس). فهذا يدل على دخول هؤلاء ـ لا يمنع دخول غيرهم من الأمم.
وإذا كانوا هم منهم فقد دخلوا في قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، فالمنة على جميع المؤمنين ـ عربهم وعجمهم، سابقهم ولاحقهم ـ والرسول منهم؛ لأنه إنسى مؤمن. وهو من العرب أخص؛ لكونه عربيا جاء بلسانهم، وهو من قريش أخص.
والخصوص يوجب قيام الحجة، لا يوجب الفضل، إلا بالإيمان والتقوى لقوله:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
ولهذا كان الأنصار أفضل من الطلقاء من قريش، وهم ليسوا من ربيعة ولا مضر، بل من قحطان.
وأكثر الناس على أنهم من ولد هود، ليسوا من ولد إبراهيم.
وقيل: إنهم من ولد إسماعيل؛ لحديث أسلم لما قال: (ارموا، فإن أباكم كان راميًا)، وأسلم من خزاعة، وخزاعة من ولد إبراهيم.
وفي هذا كلام ليس هذا موضعه؛ إذ المقصود أن الأنصار أبعد نسبا من كل ربيعة ومضر مع كثرة هذه القبائل. ومع هذا هم أفضل من جمهور قريش، إلا من السابقين الأولين من المهاجرين ـ وفيهم قرشي وغير قرشي.
ومجموع السابقين ألف وأربعمائة غير مهاجرى الحبشة.
/ فقـوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ} [التوبة: 128] يخص قريشًا، والعـرب، ثم يعـم سـائر البشر؛ لأن القرآن خطاب لهـم. والرسـول مـن أنفسهم، والمعنى ليس بملك لا يطيقون الأخذ منـه، ولا جني.
ثم يعم الجن؛ لأن الرسول أرسل إلى الإنس والجن، والقرآن خطاب للثقلين، والرسول منهم جميعًا، كما قال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} [الأنعام: 130]، فجعل الرسل التي أرسلها من النوعين مع أنهم من الإنس.
فإن الإنس والجن مشتركون ـ مع كونهم أحياء ناطقين مأمورين منهيين ـ فإنهم يأكلون ويشربون، وينكحون وينسلون، ويغتذون وينمون بالأكل والشرب. وهذه الأمور مشتركة بينهم. وهم يتميزون بها عن الملائكة، فإن الملائكة لا تأكل ولا تشرب، ولا تنكح ولا تنسل.
فصار الرسول مع أنفس الثقلين، باعتبار القدر المشترك بينهم الذي تميزوا به عن الملائكة، حتى كان الرسول مبعوثًا إلى الثقلين دون الملائكة.
وكذلك قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، هو كقوله: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [ البقرة: 231]، وقوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151].
ثم قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، والمقصود أنه أمر بذكر النعم وشكرها.
وقال:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40] ـ في غير موضع ـ وقال للمؤمنين: {وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، فذكر النعم من الذكر الذي أمروا به.
ومما أمروا به تذكرة قصص الأنبياء المتقدمين، كما قال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} [مريم: 41]، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ موسى} [مريم: 51]، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} [مريم: 54]، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} [مريم: 56]، وقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} [ص: 17]، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} [ص: 45]، {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَّ} [ص: 48].
ومما أمروا به تذكرة ما وعدوا به من الثواب والعقاب. قال تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46].
/ ومما أمروا بتذكره آيات اللّه التي يستدلون بها على قدرته وعلى المعاد، كقوله: {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 66، 67].
وقد قال لموسى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ} [إبراهيم: 5]، وهى تتناول أيام نعمه وأيام نقمه ليشكروا ويعتبروا.
ولهذا قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5]. فإن ذكر النعم يدعو إلى الشكر، وذكر النقم يقتضى الصبر على فعل المأمور وإن كرهته النفس، وعن المحظور وإن أحبته النفس؛ لئلا يصيبه ما أصاب غيره من النقمة.
فصــل
وقوله: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 11 - 13]، وقد ذكر في سورة الليل قوله: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 14 - 16].
وهذا الصلي قد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح / الذي أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكنْ ناسٌ أصابتهم النار بذنوبهم ـ أو قال: بخطاياهم ـ فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحمًا أُذِنَ بالشفاعة، فجىء بهم ضَبَائرَ ضَبَائرَ فَبُثُّوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حَمِيل السَّيْل). فقال رجل من القوم: كأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد كان بالبادية.
وفي رواية ذكرها ابن أبي حاتم فقال: ذكر عن عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا أبي، ثنا سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطب، فأتى على هذه: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى}، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما أهلها الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون. وأما الذين ليسوا من أهل النار، فإن النار تميتهم، ثم يقوم الشفعاءُ فَيَشْفَعُون فيهم فَيُشَفَّعُون، فيؤتى بهم إلى نهر يقال له: الحياة، أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغُثَاء في حَمِيل السَّيْل).
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الصلي لأهل النار الذين هم أهلها، وأن الذين ليسوا من أهلها فإنها تصيبهم بذنوبهم، وأن اللّه يميتهم فيها حتى يصيروا فحمًا، ثم يشفع فيهم فيخرجون ويؤتى / بهم إلى نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل.
وهذا المعنى مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ بل متواتر ـ في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وغيرهما.
وفيها الرد على طائفتين: على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: (إن أهل التوحيد يخلدون فيها)، وهذه الآية حجة عليهم، وعلى من حكى عنه من غلاة المرجئة: (أنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد).
فإن إخباره بأن أهل التوحيد يخرجون منها بعد دخولها تكذيب لهؤلاء وأولئك.
وفيه رد على من يقول: [يجوز ألا يُدْخِل اللّه من أهل التوحيد أحدًا النار] كما يقوله طائفة من المرجئة الشيعة، ومرجئة أهل الكلام المنتسبين إلى السنة ـ وهم الواقفة من أصحاب أبي الحسن وغيرهم ـ كالقاضي أبي بكر وغيره. فإن النصوص المتواترة تقتضي دخول بعض أهل التوحيد وخروجهم.
والقول بـ [أن أحدًا لا يدخلها من أهل التوحيد]، ما أعلمه ثابتًا عن شخص معين فأحكيه عنه، لكنْ حكى عن مقاتل بن سليمان، / وقال: احتج من قال ذلك بهذه الآية.
وقد أُجِيبُوا بجوابين:
أحدهما: جواب طائفة، منهم الزجاج، قالوا: هذه نار مخصوصة.
لكن قوله بعدها: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17]، لا يبقى فيه كبير وعد، فإنه إذا جُنِّبَ تلك النار جاز أن يدخل غيرها.
وجواب آخرين قالوا: لا يصلونها صلى خلود. وهذا أقرب.
وتحقيقه أن الصلي ـ هنا ـ هو الصلي المطلق، وهو المكث فيها، والخلود على وجه يصل العذاب إليهم دائمًا.
فأمـا مـن دخـل وخـرج فـإنه نـوع مـن الصلي، ليس هو الصلي المطلق لا سيما إذا كان قد مـات فيها والنار لم تأكله كله، فـإنه قـد ثبت أنها لا تأكـل مواضـع السجـود. واللّه أعلم.
فصـل
جمع اللّه ـ سبحانه ـ بين إبراهيم وموسى ـ صلى اللّه عليهما وعلى سائر المرسلين ـ في أمور، مثل قوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18، 19].
/ وفي حديث أبي ذر الطويل، قلت: يارسول اللّه، كم كتابًا أنزل اللّه؟ قال: (مائة كتاب وأربعة كتب؛ ثلاثين صحيفة على شيث، وخمسين على إدريس، وعشر على إبراهيم، وعشر على موسى قبل التوراة. وأنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان). وقال في الحديث: فهل عندنا شيء مما في صحف إبراهيم؟ فقال: [نعم] وقرأ قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 14 - 19].
فإن التزكي هو التطهر والتبرك بترك السيئات الموجب زكاة النفس، كما قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، ولهذا تفسر الزكاة تارة بالنماء والزيادة وتارة بالنظافة والإماطة. والتحقيق أن الزكاة تجمع بين الأمرين: إزالة الشر، وزيادة الخير. وهذا هو العمل الصالح، وهو الإحسان.
وذلك لا ينفع إلا بالإخلاص للّه، وعبادته وحده لا شريك له، الذي هو أصل الإيمان. وهو قوله: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}
فهذه الثلاث، قد يقال: تشبه الثلاث التي يجمـع اللّه بينها في القـرآن في مواضـع، مثل قوله في أول البقــرة: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 2، 3]. ومثـل قولـه: / {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]. {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11].
وقد يقال: تشبه الثنتين المذكورتين في قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا...} الآية [البقرة: 62]، وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125].
لكـن ـ هنا ـ التزكي في الآيـة أعم مـن الإنفاق، فإنـه ترك السـيئات الذي أصلـه بترك الشرك.
فأول التزكي التزكي من الشرك، كما قال: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7]، وقال: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 164].
والتزكي من الكبائر، الذي هو تمام التقوى، كما قال: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49]، فعلم أن التزكية هو الإخبار بالتقوى.
ومنه التزكي بالطهارة، وبالصدقة والإحسان، كما قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103].
و{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15]، قد يعنى به الإيمان باللّه، و[الصلاة]: / العمل، فقد يذكر اسم ربه من لا يصلي.
ومن الفقهاء من يقول: هو ذكر اسمه في أول الصلاة؛ ولهذا ـ واللّه أعلم ـ قدم التزكي في هذه الآية.
وكان طائفة من السلف إذا أدوا صدقة الفطر قبل صلاة العيد يتأولون بهذه الآية. وكان بعض السلف ـ أظنه يزيد بن أبي حبيب ـ [هو أبو رجاء يزيد بن سويد الأزدي بالولاء المصري، مفتي أهل مصر في صدر الإسلام، وأول من أظهر علوم الدين والفقه بها، قال الليث: يزيد عالمنا وسيدنا، كان نوبيًا أسود، أصله من دنقلة، وفي ولادته للأزد ونسبته إليهم أقوال، وكان حجة حافظًا للحديث، توفي سنة 821 هـ] يستحب أن يتصدق أمام كل صلاة؛ لهذا المعنى.
ولما قدم الله الصلاة على النحر في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وقدم التزكي على الصلاة في قوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15] كانت السنة أن الصدقة قبل الصلاة في عيد الفطر، وأن الذبح بعد الصلاة في عيد النحر.
ويشبه ـ واللّه أعلم ـ أن يكون الصوم من التزكي المذكور في الآية. فإن اللّه يقول {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. فمقصود الصوم التقوى، وهو من معنى التزكي.
وفي حديث ابن عباس: (فرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ). / فالصدقة من تمام طهرة الصوم. وكلاهما تزكٍ متقدم على صلاة العيد.
فجمعت هاتان الكلمتان الترغيب فيما أمر اللّه به من الإيمان والعمل الصالح. وفي قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، الإيمان باليوم الآخر.
وهذه الأصول المذكورة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
وقال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}، وقال ـ أيضًا ـ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفي أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفي } [النجم: 33 ـ 41].
وأيضًا، فإن إبراهيم صاحب الملة وإمام الأمة. قال اللّه تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، وقال: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125] وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120]، وقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124].
وموسى صاحب الكتاب والكلام والشريعة، الذي لم يُنَزَّل من السماء كتاب أهدى منه ومن القرآن.
ولهذا قرن بينهما في مواضع، كقوله:{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا} إلى قوله: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 91، 92]، وقوله:{قَالُوا سِحْرَانِ} إلى قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} [القصص: 48، 49]، وقول الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف: 30]، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف:10]، وقول النجاشي: [إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة].
وقيل في موسى:{وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وفي إبراهيم: {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، وأصل الخلة عبادة اللّه وحده، والعبادة غاية الحب والذل. وموسى صاحب الكتاب والكلام.
ولهذا كان الكفار بالرسل ينكرون حقيقة خُلَّة إبراهيم وتكليم موسى.
ولما نبغت البدع الشركية في هذه الأمة أنكر ذلك الجعد بن درهم / فقتله المسلمون لما ضحى به أمير العراق خالد بن عبد اللّه وقال: (ضحوا ـ تقبل اللّه ضحاياكم ـ فإنى مضحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليمًا). ثم نزل فذبحه.
ولما بعث اللّه نبيه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى أهل الأرض، وهم في الأصل صنفان: أميون وكتابيون، والأميون كانوا ينتسبون إلى إبراهيم، فإنهم ذريته، وخُزَّان بيته، وعلى بقايا من شعائره. والكتابيون أصلهم كتاب موسى، وكلا الطائفتين قد بدلت وغيرت، فأقام ملة إبراهيم بعد اعوجاجها، وجاء بالكتاب المهيمن، المصدق لما بين يديه، المبين لما اختلف فيه وما حرف وكتم من الكتاب الأول.