الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***
532- ثُمَّ الْكِتَابَةُ بِخَطِّ الشَّيْخِ أَوْ *** بِإِذْنِهِ عَنْهُ لِغَائِبٍ وَلَوْ 533- لِحَاضِرٍ فَإِنْ أَجَازَ مَعَهَا *** أَشْبَهَ مَا نَاوَلَ أَوْ جَرَّدَهَا 534- صَحَّ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْمَشْهُورِ *** قَالَ بِهِ أَيُّوبُ مَعْ مَنْصُورِ 535- وَاللَّيْثُ وَالسَّمْعَانُ قَدْ أَجَازَهْ *** وَعَدَّهُ أَقْوَى مِنَ الْإِجَازَهْ 536- وَبَعْضُهُمْ صِحَّةَ ذَاكَ مَنَعَا *** وَصَاحِبُ الْحَاوِي بِهِ قَدْ قَطَعَا 537- وَيُكْتَفَى أَنْ يَعْرِفَ الْمَكْتُوبُ لَهْ *** خَطَّ الَّذِي كَاتَبَهُ وَأَبْطَلَهْ 538- قَوْمٌ لِلِاشْتِبَاهِ لَكِنْ رَدَّا *** لِنُدْرَةِ اللَّبْسِ وَحَيْثُ أَدَّى 539- فَاللَّيْثُ مَعْ مَنْصُورٍ اسْتَجَازَا *** أَخْبَرَنَا حَدَّثَنَا جَوَازَا 540- وَصَحَّحُوا التَّقْيِيدَ بِالْكِتَابَهْ *** وَهْوَ الَّذِي يَلِيقُ بِالنَّزَاهَهْ الْقِسْمُ (الْخَامِسُ) مِنْ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ (الْمُكَاتَبَةُ) إِلَى الطَّالِبِ مِنَ الرَّاوِي، وَالصِّيغَةُ الَّتِي يُؤَدَّى بِهَا، وَإِلْحَاقُهَا بِالْمُنَاوَلَةِ (ثُمَّ الْكِتَابَةُ) مِنَ الشَّيْخِ بِشَيْءٍ مِنْ مَرْوِيِّهِ حَدِيثًا فَأَكْثَرَ، أَوْ مِنْ تَصْنِيفِهِ أَوْ نَظْمِهِ، وَيُرْسِلُهُ إِلَى الطَّالِبِ مَعَ ثِقَةٍ مُؤْتَمَنٍ بَعْدَ تَحْرِيرِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِثِقَةٍ مُعْتَمَدٍ، وَشَدِّهِ وَخَتْمِهِ احْتِيَاطًا لِيَحْصُلَ الْأَمْنُ مِنْ تَوَهُّمِ تَغْيِيرِهِ، وَذَلِكَ شَرْطٌ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَامِلُ مُؤْتَمَنًا، تَكُونُ (بِخَطِّ الشَّيْخِ) نَفْسِهِ وَهُوَ أَعَلَى (أَوْ بِإِذْنِهِ) فِي الْكِتَابَةِ (عَنْهُ) لِثِقَةٍ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لِضَرُورَةٍ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ سُئِلَ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا. (لِغَائِبٍ) عَنْهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، بَلْ (وَلَوْ) كَانَتْ (لِحَاضِرٍ) عِنْدَهُ فِي بَلَدِهِ دُونَ مَجْلِسِهِ، وَيَبْدَأُ فِي الْكِتَابَةِ بِنَفْسِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ: مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ. فَإِنْ بَدَأَ بِاسْمِ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، فَقَدْ كَرِهَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَسْتَحِبُّ إِذَا كَتَبَ الصَّغِيرُ إِلَى الْكَبِيرِ أَنْ يُقَدَّمَ اسْمُ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَبْتَدِئُ بِاسْمِ مَنْ يُكَاتِبُهُ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا تَوَاضُعًا؛ وَهِيَ كَالْمُنَاوَلَةِ عَلَى نَوْعَيْنِ:. [الْمُكَاتَبَةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْإِجَازَةِ]: فَإِنْ أَجَازَ الشَّيْخُ بِخَطِّهِ أَوْ بِإِذْنِهِ (مَعَهَا). أَيِ: الْكِتَابَةِ بِقَوْلِهِ: أَجَزْتُ لَكَ مَا كَتَبْتُهُ لَكَ، أَوْ مَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ. أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْإِجَازَاتِ، وَهِيَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ الْمُسَمَّى بِالْكِتَابَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْإِجَازَةِ. (أَشْبَهَ) حِينَئِذٍ فِي الْقُوَّةِ وَالصِّحَةِ حَيْثُ ثَبَتَ عِنْدَ الْمُكَاتِبِ أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ هُوَ مِنَ الرَّاوِي الْمُجِيزِ، تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَمَرَ مَعْرُوفًا بِالثِّقَةِ بِكَتْبِهِ عَنْهُ، (مَا) إِذَا (نَاوَلَ) مَعَ الِاقْتِرَانِ بِالْإِجَازَةِ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي مُطْلَقِ الْمُنَاوَلَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ إِذْ سَوَّى بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ قَالَ- وَذَكَرَ الْمُنَاوَلَةَ وَكِتَابَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَانِ-: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ وَمَالِكًا رَأَوْا ذَلِكَ جَائِزًا. وَلَكِنْ قَدْ رَجَّحَ قَوْمٌ- مِنْهُمُ الْخَطِيبُ- الْمُنَاوَلَةَ عَلَيْهَا؛ لِحُصُولِ الْمُشَافَهَةِ فِيهَا بِالْإِذْنِ دُونَ الْمُكَاتَبَةِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرَجِّحًا فَالْمُكَاتَبَةُ تَتَرَجَّحُ أَيْضًا بِكَوْنِ الْكِتَابَةِ لِأَجْلِ الطَّالِبِ، ثُمَّ مُقْتَضَى الِاسْتِوَاءِ، فَضْلًا عَنِ الْقَوْلِ بِتَرْجِيحِ الْمُنَاوَلَةِ، أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ بِهَا أَنْزَلُ مِنَ الْمَرْوِيِّ بِالسَّمَاعِ كَمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ هُنَا. وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِمُنَاظَرَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ بِحَضْرَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: (دِبَاغُهَا طَهُورُهَا). قَالَ إِسْحَاقُ: (فَمَا الدَّلِيلُ؟) قَالَ: (حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ: (هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا؟» يَعْنِي الشَّاةَ الْمَيِّتَةَ، فَقَالَ إِسْحَاقُ: (حَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ: كَتَبَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ: (لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَسِيرٍ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا كِتَابٌ وَذَاكَ سَمَاعٌ. فَقَالَ إِسْحَاقُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. فَسَكَتَ الشَّافِعِيُّ مَعَ بَقَاءِ حُجَّتِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُفَضَّلِ الْمَالِكِيُّ، يَعْنِي: فَإِنَّ كَلَامَهُ فِي تَرْجِيحِ السَّمَاعِ لَا فِي إِبْطَالِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ، وَكَأَنَّ إِسْحَاقَ لَمْ يَقْصِدِ الرَّدَّ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَرَى أَنَّ الْمُنَاوَلَةَ أَنْقَصُ مِنَ السَّمَاعِ كَمَا سَلَفَ هُنَاكَ، بَلْ هُوَ مِمَّنْ أَخَذَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَالشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِأَحْمَدَ. وَمِمَّنِ اسْتَعْمَلَ الْمُكَاتَبَةَ الْمَقْرُونَةَ بِالْإِجَازَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَحْيَى: (سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، عَصَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ، جَاءَنَا أَبُو أُسَامَةَ فَذَكَرَ أَنَّكَ أَحْبَبْتَ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثَ، فَقَدْ كَتَبَهَا ابْنِي إِمْلَاءً مِنِّي لَهَا إِلَيْهِ، فَهِيَ حَدِيثٌ مِنِّي لَكَ عَمَّنْ سَمَّيْتُ لَكَ فِي كِتَابِي هَذَا، فَارْوِهَا وَحَدِّثْ بِهَا عَنِّي، فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّكَ هَوِيتَ ذَلِكَ، وَكَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَسْمَعَ مِمَّنْ سَمِعَهَا مِنِّي، وَلَكِنَّ النَّفْسَ تَطَلَّعُ إِلَى مَا هَوِيتَ، فَبَارَكَ اللَّهُ لَنَا وَلَكَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَجَعَلَنَا مِمَّنْ يَهْوَى طَاعَتَهُ وَرِضْوَانَهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ). وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: سَمِعْتُ خَالِي مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الْعِرَاقِ: الْتَقِطْ لِي مِائَةَ حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ حَتَّى أَرْوِيَهَا عَنْكَ. قَالَ مَالِكٌ: فَكَتَبْتُهَا ثُمَّ بَعَثْتُهَا إِلَيْهِ. بَلْ صَرَّحَ ابْنُ النَّفِيسِ بِنَفْيِ الْخِلَافِ عَنْ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِهَا، وَأَلْحَقَ الْخَطِيبُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الصِّحَّةِ الْكِتَابَةَ بِإِجَازَةِ كِتَابٍ مُعَيَّنٍ أَوْ حَدِيثٍ خَاصٍّ، كَمَا كَتَبَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي لِأَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بُهْلُولٍ التَّنُوخِيِّ بِالْإِجَازَةِ بِكِتَابِ (النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ) عَنِ ابْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَبِـ(الْعِلَلِ) عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَبِـ (الرَّدِّ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ). وَبِـ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ)، وَ(مَسَائِلِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ) وَ(الْمَسَائِلِ الْمَبْسُوطَةِ) عَنْ مَالِكٍ، وَلَكِنَّ هَذَا قَدْ دَخَلَ فِي أَوَّلِ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ. [الْمُكَاتَبَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الْإِجَازَةِ]: (أَوْ) لَمْ يُجِزْ بَلْ (جَرَّدَهَا) أَيِ الْكِتَابَةَ عَنِ الْإِجَازَةِ وَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي (صَحَّ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْمَشْهُورِ) عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَالَ عِيَاضٌ: (لِأَنَّ فِي نَفْسِ كِتَابِهِ إِلَيْهِ بِهِ بِخَطِّهِ، أَوْ إِجَابَتِهِ إِلَى مَا طَلَبَهُ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ أَقْوَى إِذْنٍ مَتَى صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ خَطُّهُ وَكِتَابُهُ). يَعْنِي كَمَا فِي النَّوْعِ قَبْلَهُ. قَالَ: (وَقَدِ اسْتَمَرَّ عَمَلُ السَّلَفِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الشُّيُوخِ بِالْحَدِيثِ) بِقَوْلِهِمْ: كَتَبَ إِلَيَّ فُلَانٌ قَالَ: ثَنَا فُلَانٌ. وَأَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَعَدُّوهُ فِي الْمُسْنَدِ بِغَيْرِ خِلَافٍ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَسَانِيدِ كَثِيرًا. وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فَقَالَ: (وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي مَسَانِيدِهِمْ وَمُصَنَّفَاتِهِمْ) قَوْلُهُمْ: كَتَبَ إِلَيَّ فُلَانٌ: ثَنَا فُلَانٌ. وَالْمُرَادُ بِهِ هَذَا، وَذَلِكَ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَهُمْ مَعْدُودٌ فِي الْمُسْنَدِ الْمَوْصُولِ، وَفِيهَا إِشْعَارٌ قَوِيٌّ بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ، فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالْإِجَازَةِ لَفْظًا فَقَدْ تَضَمَّنَتْهَا مَعْنًى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِرْسَالَ إِلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ قَرِينَةٌ فِي أَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ لَفَظَ لَهُ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّلَفُّظِ بِالْإِذْنِ. وَنَحْوُهُ مَا حَكَاهُ الرَّامَهُرْمُزِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: الْكِتَابُ الْمُتَيَقَّنُ مِنَ الرَّاوِي وَسَمَاعُ الْإِقْرَارِ مِنْهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ فِيمَا تَقَعُ الْعِبَارَةُ فِيهِ بِاللَّفْظِ إِنَّمَا هُوَ تَعْبِيرُ اللِّسَانِ عَنْ ضَمِيرِ الْقَلْبِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْعِبَارَةُ عَنِ الضَّمِيرِ بِأَيِ سَبَبٍ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْعِبَارَةِ؛ إِمَّا بِكِتَابٍ، وَإِمَّا بِإِشَارَةٍ، وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءً. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقَامَ الْإِشَارَةَ مُقَامَ الْقَوْلِ فِي الْعِبَارَةِ، وَذَكَرَ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ وَقَوْلَهُ لَهَا: (أَيْنَ رَبُّكِ؟) فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ. (قَالَ بِهِ) أَيْ: بِتَصْحِيحِ هَذَا النَّوْعِ وَالرِّوَايَةِ بِهِ، (أَيُّوبُ) السِّخْتِيَانِيُّ (مَعَ مَنْصُورِ) بْنِ الْمُعْتَمِرِ. (وَاللَّيْثُ) بْنُ سَعْدٍ وَخَلْقٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. أَمَّا اللَّيْثُ فَقَدْ حَدَّثَ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِالْمُكَاتَبَةِ، بَلْ وَصَرَّحَ فِيهَا بِالتَّحْدِيثِ، بَلْ قَالَ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُهُ: إِنَّهُ كَانَ يُجِيزُ كَتْبَ الْعِلْمِ لِمَنْ يَسْأَلُهُ، وَيَرَاهُ جَائِزًا وَاسِعًا. وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَقَالَ شُعْبَةُ: كَتَبَ إِلَيَّ مَنْصُورٌ بِحَدِيثٍ، ثُمَّ لَقِيتُهُ فَقُلْتُ: أُحَدِّثُ بِهِ عَنْكَ؟ قَالَ: أَوَ لَيْسَ إِذَا كَتَبْتُ إِلَيْكَ فَقَدْ حَدَّثْتُكَ؟ ثُمَّ لَقِيتُ أَيُّوبَ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَمِلَ بِهِ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ: إِنَّهُ كَتَبَ وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ قَاضِي الْبَصْرَةِ: (مِنْ زَكَرِيَّا إِلَى مُعَاذٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ، أَمَّا بَعْدُ، أَصْلَحَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ بِمَا أَصْلَحَ بِهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّهُ هُوَ أَصْلَحَهُمْ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ ذُرَيْحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ بِمَعَاصِي اللَّهِ يُعَدَّ حَامِدُهُ مِنَ النَّاسِ لَهُ ذَامًّا، وَالسَّلَامُ. وَصَحَّحَهُ أَيْضًا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الشَّافِعِيِّينَ مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، وَالْمَحَامِلِيُّ، وَصَاحِبُ (الْمَحْصُولِ)، (وَ) أَبُو الْمُظَفَّرِ (السَّمْعَانُ) بِحَذْفِ يَاءِ النِّسْبَةِ مِنْهُمْ (قَدْ أَجَازَهُ)؛ أَيِ: الْكِتَابَ الْمُجَرَّدَ، بَلْ وَعَدَّهُ أَقْوَى مِنَ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ. وَإِلَى ذَلِكَ، أَعْنِي تَفْضِيلَ الْكِتَابَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَلَى الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ، صَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَيْضًا، مِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَكَأَنَّهُ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّشْخِيصِ وَالْمُشَاهَدَةِ لِلْمَرْوِيِّ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَإِنْ تَوَقَّفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ لِاسْتِلْزَامِهِ تَقْدِيمَ الْكِنَايَةِ عَلَى الصَّرِيحِ، (وَبَعْضُهُمْ) أَيِ: الْعُلَمَاءِ (صِحَّةَ ذَاكَ) أَيِ: الْمَذْكُورِ مِنَ الْكِتَابَةِ الْمُجَرَّدَةِ (مَنَعَا) كَالْمُنَاوَلَةِ الْمُجَرَّدَةِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِيهَا. وَقَالَ السَّيْفُ الْآمِدِيُّ: (لَا يَرْوِيهِ إِلَّا بِتَسْلَيِطٍ مِنَ الشَّيْخِ كَقَوْلِهِ: فَارْوِهِ عَنِّي، أَوْ أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَتَهُ). وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ إِلَى انْقِطَاعِ الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ الْمُجَرَّدَةِ، (وَ) الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ صَاحِبُ (الْحَاوِي الْكَبِيرِ) فِيهِ (بِهِ). أَيْ: بِالْمَنْعِ (قَدْ قَطَعَا) وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ غَلَطٌ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ أَوْ حَكَاهُ، وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ صِحَّتُهُ وَتَسْوِيغُ الرِّوَايَةِ بِهِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِنَسْخِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَصَاحِفَ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ وَاضِحٌ لِأَصْلِ الْمُكَاتَبَةِ لَا خُصُوصِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْإِجَازَةِ، فَإِنَّ عُثْمَانَ أَمَرَهُمْ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى مَا فِي تِلْكَ الْمَصَاحِفِ وَمُخَالَفَةِ مَا عَدَاهَا، وَالْمُسْتَفَادُ مِنْ بِعْثَةِ الْمَصَاحِفِ إِنَّمَا هُوَ ثُبُوتُ إِسْنَادِ صُورَةِ الْمَكْتُوبِ فِيهَا إِلَى عُثْمَانَ، لَا أَصْلُ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَهُمْ. بَلِ اسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى). وَبِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ. وَوَجْهُ دَلَالَتِهِمَا عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرٌ، بَلْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِأَوَّلِهِمَا لِلْمُنَاوَلَةِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوَلَ الْكِتَابَ لِرَسُولِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ عَظِيمَ الْبَحْرَيْنِ بِأَنَّ هَذَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ مَا فِيهِ وَلَا قَرَأَهُ، وَقَدْ صَارَتْ كُتُبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينًا يُدَانُ بِهَا، وَالْعَمَلُ بِهَا لَازِمٌ لِلْخَلْقِ، وَكَذَلِكَ مَا كَتَبَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي يُحْكَمُ بِهِ وَيُعْمَلُ بِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ- اجْتِمَاعًا وَانْفِرَادًا- أَحَادِيثُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ رِوَايَةِ التَّابِعِيِّ عَنِ الصَّحَابِيِّ، أَوْ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ التَّابِعِيِّ عَنِ التَّابِعِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمِمَّا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ حَدِيثُ وَرَّادٍ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ. الْحَدِيثَ. وَحِدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ. الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: حَدَّثَنِي هَذَا ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ. وَحَدِيثُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَكَانَ كَاتِبًا لَهُ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ). وَحَدِيثُ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ بِأَذْرَبِيجَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ. وَمِمَّا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ حَدِيثُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ: (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي). وَمِمَّا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ حَدِيثُ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ غُلَامِي نَافِعٍ: أَنْ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيَّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ جُمُعَةٍ عَشِيَّةَ رَجْمِ الْأَسْلَمِيِّ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. بَلْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ شَيْخِهِ بِالْمُكَاتَبَةِ حَيْثُ قَالَ فِي (بَابٍ إِذَا حَنِثَ نَاسِيًا) فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ: كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ. وَذَكَرَ حَدِيثًا لِلشَّعْبِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ مَشَايِخِهِ سِوَاهُ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ بِخُصُوصِهِ، فَرَوَاهُ عَنْهُ بِالْمُكَاتَبَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ أَكْثَرَ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ بِالسَّمَاعِ، وَكَذَا رَوَى بِهَا أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ فَقَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ أَبُو عَمَّارٍ الْمَرْوَزِيُّ. فَذَكَرَ حَدِيثًا. [يُكْتَفَى مَعْرِفَةُ الْمَكْتُوبِ لَهُ خَطَّ الْكَاتِبِ فِي الْمُكَاتَبَةِ]: (وَيُكْتَفَى) فِي الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ (أَنْ يَعْرِفَ الْمَكْتُوبُ لَهُ) بِنَفْسِهِ، وَكَذَا- فِيمَا يَظْهَرُ- بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ مُعْتَمَدٍ، (خَطَّ) الْكَاتِبِ (الَّذِي كَاتَبَهُ) وَإِنْ لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْكَاتِبِ بِرُؤْيَتِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ ذَلِكَ، أَوْ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَطُّهُ، أَوْ بِمَعْرَفَةِ أَنَّهُ خَطُّهُ لِلتَّوَسُّعِ فِي الرِّوَايَةِ. (وَأَبْطَلَهُ قَوْمٌ) فَلَمْ يُجَوِّزُوا الِاعْتِمَادَ عَلَى الْخَطِّ، وَاشْتَرَطُوا الْبَيِّنَةَ بِالرُّؤْيَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ، (لِلِاشْتِبَاهِ) فِي الْخُطُوطِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُ الْكَاتِبَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَمِنْهُمُ الْغَزَالِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي (الْمُسْتَصْفَى): إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ رِوَايَتَهُ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَالَهُ، وَالْخَطُّ لَا يَعْرِفُهُ. يَعْنِي جَزْمًا. وَ(لَكِنْ رَدَّا) هَذَا، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ (لِنُدْرَةِ اللَّبْسِ)، وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَطَّ الْإِنْسَانِ لَا يَشْتَبِهُ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ إِلْبَاسٌ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْخَطِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْخَطَّ يَتَشَابَهُ، أَخْذًا مِنَ الْحَاكِمِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُكَاتَبَاتِ الْحُكْمِيَّةِ مِنَ قَاضٍ آخَرَ إِذَا عَرَفَ الْخَطَّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ اتِّجَاهٌ فِي الْحُكْمِ، فَالْأَصَحُّ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، يَعْنِي سَلَفًا وَخَلَفًا، هُنَا جَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْخَطِّ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ كُتُبَهُ إِلَى عُمَّالِهِ فَيَعْمَلُونَ بِهَا وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى مَعْرِفَتِهَا. قُلْتُ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِصْطَخْرِيُّ حَيْثُ اكْتَفَى بِكِتَابِ الْقَاضِي الْمُجَرَّدِ عَنِ الْإِشْهَادِ إِذَا وَثِقَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بِالْخَطِّ وَالْخَتْمِ. وَالصَّحِيحُ مَا تَقَدَّمَ، وَبَابُ الرِّوَايَةِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، بَلْ صَرَّحَ فِي (زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ) بِاعْتِمَادِ خَطِّ الْمُفْتِي إِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ أَنَّهُ خَطُّهُ، أَوْ كَانَ يَعْرِفُ خَطَّهُ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي فُرُوعٍ، مِنْهَا: لَوْ وَجَدَ بِخَطِّ أَبِيهِ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ دَيْنًا عَلَى أَحَدٍ سَاغَ لَهُ الْحَلِفُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ فَمُحَاكَاةُ الْخُطُوطِ فِيهَا مِنَ الْمَحْظُورِ مَا لَا يَخْفَى، فَيَتَعَيَّنُ اجْتِنَابُهُ، وَإِنْ حَاكَى حَافِظُ دِمَشْقَ الشَّمْسُ بْنُ نَاصِرِ الدِّينِ خَطَّ الذَّهَبِيِّ، ثُمَّ حَاكَاهُ بَعْضُ تَلَامِذَتِهِ فِي طَائِفَةٍ. [عِبَارَةُ الرَّاوِي بِطَرِيقِ الْمُكَاتَبَةِ]: (بِحَيْثُ أَدَّى) الْمُكَاتَبُ مَا تَحَمَّلَهُ مِنْ ذَلِكَ فَبِأَيِ صِيغَةٍ يُؤَدِّي، (فَاللَّيْثُ) بْنُ سَعْدٍ (مَعْ مَنْصُورٍ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ (اسْتَجَازَا) إِطْلَاقَ: (أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا جَوَازًا) لِأَنَّهُمَا كَمَا سَلَفَ قَرِيبًا قَالَا: أَلَيْسَ إِذَا كَتَبْتُ إِلَيْكَ فَقَدْ حَدَّثْتُكَ؟ وَكَذَا قَاَلَ لُوَيْنٌ: كَتَبَ إِلَيَّ وَحَدَّثَنِي وَاحِدٌ. وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَدْ مَنَعُوا الْإِطْلَاقَ. (وَصَحَّحُوا التَّقْيِيدَ بِالْكِتَابَةِ) فَيَقُولُ: ثَنَا أَوْ أَنَا كِتَابَةً أَوْ مُكَاتَبَةً، وَكَذَا كَتَبَ إِلَيَّ- إِنْ كَانَ بِخَطِّهِ- وَنَحْوُ ذَلِكَ. (وَهُوَ) كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِلْخَطِيبِ: (الَّذِي يَلِيقُ بـِ) مَذَاهِبِ أَهْلِ التَّحَرِّي فِي الرِّوَايَةِ وَالْوَرَعِ (وَالنَّزَاهَةِ)؛ أَيِ: التَّبَاعُدِ عَنْ إِيهَامِ التَّلْبِيسِ. قَالَ الْحَاكِمُ: الَّذِي أَخْتَارُهُ وَعَهِدْتُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مَشَايِخِي وَأَئِمَّةَ عَصْرِي أَنْ يَقُولَ فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِ الْمُحَدِّثُ مِنْ مَدِينَةٍ وَلَمْ يُشَافِهْهُ بِالْإِجَازَةِ: كَتَبَ إِلَيَّ فُلَانٌ. وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ يَفْعَلُونَهُ.
541 وَهَلْ لِمَنْ أَعْلَمَهُ الشَّيْخُ بِمَا *** يَرْوِيهِ أَنْ يَرْوِيَهُ فَجَزَمَا 542- بِمَنْعِهِ الطُّوسِيُّ وَذَا الْمُخْتَارُ *** وَعِدَّةٌ كَابْنِ جُرَيْجٍ صَارُوا 543- إِلَى الْجَوَازِ وَابْنُ بَكْرٍ نَصَرَهْ *** وَصَاحِبُ الشَّامِلِ جَزْمًا ذَكَرَهْ 544- بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ لَوْ مَنَعَهْ *** لَمْ يَمْتَنِعْ كَمَا إِذَا قَدْ سَمِعَهْ 545- وَرُدَّ كَاسْتِرْعَاءِ مَنْ يُحَمِّلُ *** لَكِنْ إِذَا صَحَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْقِسْمُ (السَّادِسُ) مِنْ أَقْسَامِ أَخْذِ الْحَدِيثِ وَتَحَمُّلِهِ (إِعْلَامُ الشَّيْخِ) الطَّالِبَ لَفْظًا بِشَيْءٍ مِنْ مَرْوِيِّهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ لَهُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَأُخِّرَ مَعَ كَوْنِهِ صَرِيحًا عَنِ الْكِتَابَةِ الَّتِي هِيَ الْإِعْلَامُ، كِنَايَةً لِمَا فِيهَا مِنَ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْهَا. (وَهَلْ لِمَنْ أَعْلَمَهُ الشَّيْخُ بِمَا يَرْوِيهِ) حَدِيثًا فَأَكْثَرَ عَنْ شَيْخٍ فَأَكْثَرَ، حَسْبَ مَا اتَّفَقَ لَهُ وُقُوعُهُ سَمَاعًا أَوْ إِجَازَةً أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ مُجَرَّدًا عَنِ التَّلَفُّظِ بِالْإِجَازَةِ (أَنْ يَرْوِيَهِ) أَمْ لَا؟ (فَجَزَمَا بِمَنْعِهِ) أَبُو حَامِدٍ (الطُّوسِيُّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الشَّافِعِيِّينَ وَأَئِمَّةِ الْأُصُولِ حَيْثُ قَطَعَ بِهِ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْهُ. وَالظَّاهِرُ- كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ- أَنَّهُ الْغَزَالِيُّ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْحَابِنَا مِمَّنْ وَقَفْتُ عَلَيْهِ اثْنَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَيُعْرَفُ بِأَبِي حَامِدٍ الطُّوسِيِّ، لِكَوْنِهِمَا لَمْ يُذْكَرْ لَهُمْ تَصَانِيفُ. وَالْغَزَالِيُّ وُلِدَ بِطُوسٍ، وَكَانَ وَالِدُهُ يَبِيعُ غَزْلَ الصُّوفِ فِي دُكَّانٍ بِهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ نُسِبَ إِلَى غَزَالَةَ- بِالتَّخْفِيفِ- قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا. وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْمَشْهُورِ لَا سِيَّمَا وَالْمَسْأَلَةُ كَذَلِكَ فِي (الْمُسْتَصْفَى). وَعِبَارَتُهُ: أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا مَسْمُوعِي مِنْ فُلَانٍ. فَلَا تَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهَا، يَعْنِي بِلَفْظِهِ وَلَا بِمَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ، وَهُوَ تَلَفُّظُ الْقَارِئِ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَسْمَعُ، وَإِقْرَارُهُ بِهِ وَلَوْ بِالسُّكُوتِ حَتَّى يَكُونَ قَوْلُ الرَّاوِي عَنْهُ السَّامِعُ ذَلِكَ: ثَنَا وَأَنَا صِدْقًا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِعِلَّةٍ- كَمَا قَالَ فِي (الْمُسْتَصْفَى): لَا تَجُوزُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ لِخَلَلٍ يَعْرِفُهُ فِيهِ وَإِنْ سَمِعَهُ. يَعْنِي كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي ثَانِي نَوْعَيِ الْمُنَاوَلَةِ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِالْمَنْعِ، بَلْ مَنَعَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَأَئِمَّةِ الْأُصُولِ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ. (وَذَا): أَيِ: الْمَنْعُ هُوَ (الْمُخْتَارُ) لِابْنِ الصَّلَاحِ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُ السَّيْفِ الْآمِدِيِّ فِي ثَانِي نَوْعَيِ الْكِتَابَةِ: إِنَّهُ لَا يُرْوَى إِلَّا بِتَسْلِيطٍ مِنَ الشَّيْخِ، كَقَوْلِهِ: فَارْوِهِ عَنِّي، أَوْ أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَتَهُ. وَكَذَا ابْنُ الْقَطَّانِ وَالْمَاوَرْدِيُّ يَقْتَضِيهِ. (وَعِدَّةٌ) مِنَ الْأَئِمَّةِ كَثِيرُونَ (كَابْنِ جُرَيْجٍ) عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، وَأَصْحَابِهِ الْمَدَنِيِّينَ كَالزُّهْرِيِّ، وَطَوَائِفَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ كَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ كَصَاحِبِ (الْمَحْصُولِ) وَأَتْبَاعِهِ، وَمِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ (صَارُوا إِلَى الْجَوَازِ). قَالَ الْوَاقِدِيُّ: قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: (شَهِدْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ جَاءَ إِلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فَقَالَ: الصَّحِيفَةُ الَّتِي أَعْطَيْتَهَا فُلَانًا هِيَ حَدِيثُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَسَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ بَعْدُ يَقُولُ: ثَنَا هِشَامٌ. وَحَكَاهُ عِيَاضٌ عَنِ الْكَثِيرِ، وَأُجِيبَ بِكَوْنِ مَذْهَبِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ الْجَوَازَ مِنْ غَمْزِهِ بِرِوَايَتِهِ عَنْ أَسَدِ بْنِ مُوسَى مَعَ قَوْلِ أَسَدٍ: إِنَّمَا طَلَبَ مِنِّي كُتُبِي لِيَنْسَخَهَا فَلَا أَدْرِي مَا صَنَعَ. أَوْ نَحْوُ هَذَا، بَلْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ زِيَادَةٌ عَلَى الْإِعْلَامِ الْمُجَرَّدِ، وَهِيَ الْمُنَاوَلَةُ الْمُجَرَّدَةُ أَيْضًا، وَلَا يَخْدِشُ فِي ذَلِكَ كَوْنُ أَسَدٍ لَا يُجِيزُ الْإِجَازَةِ. (وَابْنُ بَكْرٍ) هُوَ الْوَلِيدُ الْغَمْرِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْوِجَادَةُ) اخْتَارَهُ، وَ(نَصَرَهْ) بَلْ (وَ) أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ (صَاحِبُ الشَّامِلِ جَزْمًا ذَكَرَهُ) أَيْ: ذَكَرَهُ جَازِمًا بِهِ، وَالْحُجَّةُ لِلْجَوَازِ الْقِيَاسُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا إِذَا سَمِعَ الْمُقِرَّ يُقِرُّ بِشَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُنَاوَلَةِ الْمُجَرَّدَةِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: إِنَّ اعْتِرَافَهُ لَهُ بِهِ وَتَصْحِيحَهُ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَتِهِ كَتَحْدِيثِهِ لَهُ بِلَفْظِهِ أَوْ قِرَاءَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ لَهُ، (بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ) وَهُوَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ أَحَدُ مَنِ اخْتَارَهُ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِعِيَاضٍ، فَصَرَّحَ (بِأَنْ) أَيْ: بِأَنَّهُ (لَوْ مَنَعَهُ) مِنْ رِوَايَتَهِ عَنْهُ بَعْدَ إِعْلَامِهِ بِأَنَّهُ مِنْ مَرْوِيِّهِ صَرِيحًا بِقَوْلِهِ: لَا تَرْوِهِ عَنِّي، أَوْ لَا أُجِيزُهُ لَكَ. (لَمْ يَمْتَنِعْ) بِذَلِكَ عَنْ رِوَايَتِهِ، يَعْنِي فَإِنَّ الْإِعْلَامَ طَرِيقٌ يَصِحُّ التَّحَمُّلُ بِهِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ بِهِ عَنْهُ، فَمَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ وُقُوعِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلِذَا قَالَ عِيَاضٌ: وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ لَا يَقْتَضِي النَّظَرُ سِوَاهُ. (كَمَا) أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ (إِذَا) مَنَعَهُ مِنَ التَّحْدِيثِ بِمَا (قَدْ سَمِعَهُ) لَا لِعِلَّةٍ وَرِيبَةٍ فِي الْمَرْوِيِّ؛ لِكَوْنِهِ هُنَا أَيْضًا قَدْ حَدَّثَهُ، يَعْنِي إِجْمَالًا، وَهُوَ شَيْءٌ لَا يُرْجَعُ فِيهِ كَمَا سَلَفَ فِي ثَامِنِ الْفُرُوعِ الَّتِي قُبَيْلَ الْإِجَازَةِ، (وَ) لَكِنْ قَدْ (رُدَّ) أَيِ: الْقُولُ بِالْجَوَازِ (كَـ) مَا فِي مَسْأَلَةِ (اسْتِرْعَاءِ) الشَّاهِدِ (مَنْ يُحَمِّلُـ) ـهُ الشَّهَادَةَ حَيْثُ لَا يَكْفِي إِعْلَامُهُ بِذَلِكَ أَوْ سَمَاعُهُ مِنْهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إِقَامَتِهَا لِتَشَكُّكٍ أَوِ ارْتِيَابٍ يَدْخُلُهُ عِنْدَ أَدَائِهَا أَوِ الِاسْتِئْذَانِ فِي نَقْلِهَا عَنْهُ، فَكَذَلِكَ هُنَا، أَشَارَ إِلَيْهِ عِيَاضٌ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا مِمَّا تَسَاوَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَإِنِ افْتَرَقَتَا فِي غَيْرِهِ. انْتَهَى. وَمَا خَدَشَ بِهِ عِيَاضٌ فِي الِاسْتِوَاءِ مِنْ كَوْنِهِ إِذَا سَمِعَهُ يُؤَدِّيهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ تَسُوغُ لَهُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِدُونِ إِذْنٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَكَذَا لَوْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ شَخْصًا أَوْ سَمِعَهُ يُبَيِّنُ السَّبَبَ كَمَا أَلْحَقَهُمَا غَيْرُهُ بِهَا، قَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ بِذَلِكَ كُلِّهِ زَالَ مَا كُنَّا نَتَوَهَّمُهُ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ إِقَامَتِهَا، كَمَا أَنَّهُ يَسُوغُ لِمَنْ قَرَأَ أَوْ سَمِعَ رِوَايَةَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ اتِّفَاقًا، بَلْ وَيُمْكِنُ التَّخَلُّصُ بِهَذَا أَيْضًا مِنْ مَنْعِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ صِحَّةَ الْقِيَاسِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَقَالَ: إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ. وَقَرَّرَ الْمَنْعَ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِأَنَّهَا شَرْعٌ عَامٌّ، وَالْإِثْبَاتُ بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الشَّهَادَةُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ كَمَا أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: أَرْوِيهِ عَنْ فُلَانٍ. مُؤَثِّرٌ فِي إِيجَابِ الْعَمَلِ مَعَ الثِّقَةِ، وَذَاكَ يَقْتَضِي جَوَازَ الرِّوَايَةِ بِغَيْرِ إِذْنٍ. قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ نِيَابَةٌ، فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْإِذْنُ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ: لَا تُؤَدِّ عَنِّي. امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ. وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ مَنْعُهُ لِرِيبَةٍ وَعِلَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ، وَحِينَئِذٍ فَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَحِيحٌ. وَتَرَجَّحَ تَوْجِيهُ الْمَنْعِ بِدُونِ إِذْنٍ فِي الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا (لَكِنْ إِذَا صَحَّ) عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، كَمَا عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، أَوِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى الْمُخْتَارِ مَا حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِهِ مِنَ الْحَدِيثِ بِحَيْثُ حَصَلَ الْوُثُوقُ بِهِ، يَجِبُ (عَلَيْهِ الْعَمَلُ) بِمَضْمُونِهِ إِنْ كَانَ أَهْلًا، وَإِنْ لَمْ تَجُزْ لَهُ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ تَكْفِي فِيهِ صِحَّتُهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ تَكُونَ لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ كَمَا سَلَفَ فِي نَقْلِ الْحَدِيثِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ مُحَقِّقِي الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، مَعَ ذَهَابِ بَعْضِهِمْ إِلَى مَنْعِ الرِّوَايَةِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى مَنْعِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْعَمَلِ بِالْمَرْوِيِّ بِالْإِجَازَةِ كَالْمُرْسَلِ مَنْعُهُ هُنَا مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَلِذَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ هُنَا: كَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ السَّابِقُ، يَعْنِي فِي الْإِجَازَةِ، يَقْتَضِي مَنْعَ هَذَا أَيْضًا.
546- وَبَعْضُهُمْ أَجَازَ لِلْمُوصَى لَهُ *** بِالْجُزْءِ مِنْ رَاوٍ قَضَى أَجَلَهُ 547- يَرْوِيهِ أَوْ لِسَفَرٍ أَرَادَهْ *** وَرُدَّ مَا لَمْ يُرِدِ الْوِجَادَهْ الْقِسْمُ (السَّابِعُ) مِنْ أَقْسَامِ أَخْذِ الْحَدِيثِ وَتَحَمُّلِهِ (الْوَصِيَّةُ) مِنَ الرَّاوِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَوْ سَفَرِهِ لِلطَّالِبِ (بِالْكِتَابِ) أَوْ نَحْوِهِ مِنْ مَرْوِيِّهِ (وَبَعْضُهُمْ) كَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ (أَجَازَ لِلْمُوصَى لَهُ) الْمُعَيَّنِ وَاحِدًا فَأَكْثَرَ (بِالْجُزْءِ) مِنْ أُصُولِهِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فَأَكْثَرَ، وَلَوْ بِكُتُبِهِ كُلِّهَا (مِنْ رَاوٍ) لَهُ رِوَايَةٌ بِالْمُوصَى بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلِمَهُ صَرِيحًا بِأَنَّ هَذَا مِنْ مَرْوِيِّهِ حِينَ (قَضَى أَجَلَهُ) بِالْمَوْتِ (يَرْوِيهِ)؛ أَيْ: أَنْ يَرْوِيَهُ كَمَا فَعَلَ أَبُو قِلَابَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْجَرْمِيُّ الْبَصْرِيُّ أَحَدُ الْأَعْلَامِ مِنَ التَّابِعِينَ حَيْثُ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ بِالشَّامِ إِذْ هَرَبَ إِلَيْهَا لَمَّا أُرِيدَ لِلْقَضَاءِ بِكُتُبِهِ إِلَى تِلْمِيذِهِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ إِنْ كَانَ حَيًّا وَإِلَّا فَلْتُحْرَقْ، وَنُفِّذَتْ وَصِيَّتُهُ وَجِيءَ بِالْكُتُبِ الْمُوصَى بِهَا مِنَ الشَّأْمِ لِأَيُّوبَ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ وَأَعْطَى فِي كِرَائِهَا بِضْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، ثُمَّ سَأَلَ ابْنَ سِيرِينَ: أَيَجُوزُ لَهُ التَّحْدِيثُ بِذَلِكَ؟ فَأَجَازَهُ. رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي (الْكِفَايَةِ) (أَوْ) حِينَ تَوَجَّهَ (لِسَفَرٍ أَرَادَهُ) إِلْحَاقًا لَهُ بِالْمَوْتِ، بَلْ عَزَى شَيْخُنَا الْجَوَازَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِقَوْمٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: إِنَّ الرِّوَايَةَ بِالْوَصِيَّةِ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ. وَسَبَقَهُمَا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَقَالَ: هَذَا طَرِيقٌ قَدْ رُوِيَ فِيهِ عَنِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ إِجَازَةُ الرِّوَايَةِ بِهِ. ثُمَّ عَلَّلَهَا بِأَنَّ فِي دَفْعِهَا لَهُ نَوْعًا مِنَ الْإِذْنِ وَشَبَهًا مِنَ الْعَرْضِ وَالْمُنَاوَلَةِ. قَالَ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الضَّرْبِ الَّذِي قَبْلَهُ (وَ) لَكِنْ (رُدَّ) الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ حَسْبَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ، بَلْ نَقَلَهُ عَنْ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِهَا وَابْتِيَاعِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الرِّوَايَةِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْوِجَادَةِ. قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ أَدْرَكْنَا كَافَّةَ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تَقَدَّمَتْ مِنَ الرَّاوِي إِجَازَةٌ لِلَّذِي سَارَتْ إِلَيْهِ الْكُتُبُ بِرِوَايَةِ مَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ سَمَاعَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ حِينَئِذٍ فِيمَا يَرْوِيهِ مِنْهَا: أَنَا وَثَنَا. عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الْإِجَازَةِ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ بَعِيدٌ جِدًّا، وَهُوَ زَلَّةُ الْعَالِمِ (مَا لَمْ يُرِدِ) الْقَائِلُ بِهِ (الْوِجَادَةُ) الْآتِيَةُ بَعْدُ؛ أَيِ: الرِّوَايَةُ بِهَا. قَالَ: وَلَا يَصِحُّ تَشْبِيهُهُ بِوَاحِدٍ مِنْ قِسْمَيِ الْإِعْلَامِ وَالْمُنَاوَلَةِ، فَإِنَّ لِمُجَوِّزٍ بِهِمَا مُسْتَنَدًا ذَكَرْنَاهُ لَا يَتَقَرَّرُ مِثْلُهُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ هَاهُنَا. قَالَ شَيْخُنَا: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْوَصِيَّةِ نُقِلَتْ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَالرِّوَايَةُ بِالْوِجَادَةِ لَمْ يُجَوِّزْهَا أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي حِكَايَةٍ قَالَ فِيهَا: وَعَنْ كِتَابِ أَبِيهِ بِتَيَقُّنٍ أَنَّهُ بِخَطِّ أَبِيهِ دُونَ غَيْرِهِ. فَالْقَوْلُ بِحَمْلِ الرِّوَايَةِ بِالْوَصِيَّةِ عَلَى الْوِجَادَةِ غَلَطٌ ظَاهِرٌ. وَسَبَقَهُ ابْنُ أَبِي الدَّمِ فَقَالَ: الرِّوَايَةُ بِالْوِجَادَةِ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي بُطْلَانِهَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، فَهِيَ عَلَى هَذَا أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنَ الْوِجَادَةِ بِلَا خِلَافٍ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ قَوْلَ مَنْ أَجَازَ الرِّوَايَةَ بِالْوَصِيَّةِ مُؤَوَّلٌ عَلَى إِرَادَةِ الرِّوَايَةِ بِالْوِجَادَةِ، مَعَ كَوْنِهِ لَا يَقُولُ بِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِالْوِجَادَةِ، غَلَطٌ ظَاهِرٌ. وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ عَمِلَ بِالْوِجَادَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْبُطْلَانُ هُوَ الْحَقُّ الْمُتَعَيِّنُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ بِتَحْدِيثٍ لَا إِجْمَالًا وَلَا تَفْصِيلًا، وَلَا تَتَضَمَّنُ الْإِعْلَامَ لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً. عَلَى أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ الْمُفْتِيَ بِالْجَوَازِ كَمَا تَقَدَّمَ تَوَقَّفَ فِيهِ بَعْدُ، وَقَالَ لِلسَّائِلِ نَفْسِهِ: لَا آمُرُكَ وَلَا أَنْهَاكَ. بَلْ قَالَ الْخَطِيبُ عَقِبَ حِكَايَتِهِ: يُقَالُ: إِنَّ أَيُّوبَ كَانَ قَدْ سَمِعَ تِلْكَ الْكُتُبَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْفَظُهَا، فَلِذَلِكَ اسْتَفْتَى ابْنَ سِيرِينَ فِي التَّحْدِيثِ مِنْهَا. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ وَرَدَ عَنْهُ كَرَاهَةُ الرِّوَايَةِ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي لَيْسَتْ مَسْمُوعَةً. فَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: قُلْتُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ يَجِدُ الْكِتَابَ، أَيَقْرَؤُهُ أَوْ يَنْظُرُ فِيهِ؟ قَالَ: لَا، حَتَّى يَسْمَعَهُ مِنْ ثِقَةٍ. فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ فَضْلًا عَنِ الْوَصِيَّةِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ: أَرَدْتُ أَنْ أَضَعَ عِنْدَهُ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ، وَقَالَ: لَا يَلْبَثُ عِنْدِي كِتَابٌ.
548- ثُمَّ الْوِجَادَةُ وَتِلْكَ مَصْدَرْ *** وَجَدْتُهُ مُوَلَّدًا لِيَظْهَرْ 549- تَغَايُرُ الْمَعْنَى وَذَاكَ إِنْ تَجِدْ *** بِخَطِّ مَنْ عَاصَرْتَ أَوْ قَبْلُ عُهِدْ 550- مَا لَمْ يُحَدِّثْكَ بِهِ وَلَمْ يُجِزْ *** فَقُلْ بِخَطِّهِ وَجَدْتُ وَاحْتَرِزْ 551- إِنْ لَمْ تَثِقْ بِالْخَطِّ قُلْ وَجَدْتُ *** عَنْهُ أَوِ اذْكُرْ قِيلَ أَوْ ظَنَنْتُ 552- وَكُلُّهُ مُنْقَطِعٌ وَالْأَوَّلُ *** قَدْ شِيبَ وَصْلًا مَا وَقَدْ تَسَهَّلُوا 553- فِيهِ بِعَنْ قَالَ وَهَذَا دُلْسَهْ *** تَقْبُحُ إِنْ أَوْهَمَ أَنَّ نَفْسَهْ 554- حَدَّثَهُ بِهِ وَبَعْضٌ أَدَّى *** حَدَّثَنَا أَخْبَرَنَا وَرُدَّا 555- وَقِيلَ فِي الْعَمَلِ إِنَّ الْمُعْظَمَا *** لَمْ يَرَهُ وَبِالْوُجُوبِ جَزَمَا 556- بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَهْوَ الْأَصْوَبُ *** وَلِابْنِ إِدْرِيسَ الْجَوَازَ نَسَبُوا 557- وَإِنْ يَكُنْ بِغَيْرِ خَطِّهِ فَقُلْ *** قَالَ وَنَحْوَهَا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ 558- بِالنُّسْخَةِ الْوُثُوقُ قُلْ بَلَغَنِي *** وَالْجَزْمُ يُرْجَى حِلُّهُ لِلْفَطِنِ الْقِسْمُ (الثَّامِنُ) مِنْ أَقْسَامِ أَخْذِ الْحَدِيثِ وَنَقْلِهِ (الْوِجَادَةُ)، (ثُمَّ) يَلِي مَا تَقَدَّمَ (الْوِجَادَةُ) بِكَسْرِ الْوَاوِ، (وَتِلْكَ)؛ أَيْ: لَفْظُ الْوِجَادَةِ (مَصْدَرْ وَجَدْتُهُ مُوَلَّدًا)؛ أَيْ: غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنَ الْعَرَبِ، بِمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الِاصْطِلَاحِ- كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا النَّهْرَوَانِيُّ- وَلَّدُوا قَوْلَهُمْ: وِجَادَةٌ. فِيمَا أُخِذَ مِنَ الْعِلْمِ مِنْ صَحِيفَةٍ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ وَلَا إِجَازَةٍ وَلَا مُنَاوَلَةٍ، اقْتِفَاءً لِلْعَرَبِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَصَادِرِ “ وَجَدَ “ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ. (لِيَظْهَرَ تَغَايُرُ الْمَعْنَى وَذَاكَ)؛ أَيْ: قِسْمُ الْوِجَادَةِ اصْطِلَاحًا نَوْعَانِ: حَدِيثٌ وَغَيْرُهُ؛ فَالْأَوَّلُ (أَنْ تَجِدَ بِخَطِّ) بَعْضِ (مَنْ عَاصَرْتَ) سَوَاءً لَقِيتَهُ أَمْ لَا، أَوْ بِخَطِّ بَعْضِ مَنْ (قَبْلُ) مِمَّنْ لَمْ تُعَاصِرْهُ مِمَّنْ (عُهِدَ) وُجُودُهُ فِيمَا مَضَى فِي تَصْنِيفٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ وَهُوَ يَرْوِيهِ، مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ وَكَذَا الْمَوْقُوفُ وَمَا أَشْبَهَهُ. (مَا لَمْ يُحَدِّثْكَ بِهِ وَلَمْ يُجِزْ) لَكَ رِوَايَتَهُ (فَقُلْ) حَسْبَمَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِيمَا تُورِدُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا مَعْنَاهُ (بِخَطِّهِ) أَيْ: بِخَطِّ فُلَانٍ (وَجَدْتُ)، وَكَذَا: وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ: كَقَرَأْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ، أَوْ فِي كِتَابِ فُلَانٍ بِخَطِّهِ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ. وَتَذْكُرُ شَيْخَهُ وَتَسُوقُ سَائِرَ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، أَوْ مَا وَجَدْتَهُ بِخَطِّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، (وَاحْتَرِزْ) عَنِ الْجَزْمِ (إِنْ لَمْ تَثِقْ بـِ) ذَاكَ (الْخَطِّ) بِطَرِيقِهِ الْمَشْرُوحِ فِي الْمُكَاتَبَةِ، بَلْ (قُلْ وَجَدْتُ عَنْهُ) أَيْ: عَنْ فُلَانٍ، أَوْ بَلَغَنِي عَنْهُ، أَوْ أَذْكُرُ: وَجَدْتُ بِخَطٍّ قِيلَ: إِنَّهُ خَطُّ فُلَانٍ، أَوْ قَالَ لِي فُلَانٌ: إِنَّهُ خَطُّ فُلَانٍ. (أَوْ ظَنَنْتُ) أَنَّهُ خَطُّ فُلَانٍ أَوْ ذَكَرَ كَاتِبَهُ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُفْصِحَةِ بِالْمُسْتَنَدِ فِي كَوْنِهِ خَطَّهُ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ خَطِّهِ فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ يَخْتَلِفُ بِالنَّظَرِ لِلْوُثُوقِ بِهِ وَعَدَمِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي النَّوْعِ الثَّانِي قَرِيبًا. ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّقْيِيدِ بِمَنْ لَمْ يُجِزْ هُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ عِيَاضٌ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ التَّكَلُّمَ عَلَى الْوِجَادَةِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْإِجَازَةِ، أَهِيَ مُسْتَنَدٌ صَحِيحٌ فِي الرِّوَايَةِ أَوِ الْعَمَلِ؟ وَإِلَّا فَقَدَ اسْتَعْمَلَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ الْإِجَازَةِ فَيُقَالُ: وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ وَأَجَازَهُ لِي. وَهُوَ- كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ- وَاضِحٌ، وَرُبَّمَا لَا يُصَرِّحُ بِالْإِجَازَةِ كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي: ثَنَا فُلَانٌ. وَلَفْظُ الْوِجَادَةِ يَشْمَلُهُمَا (وَكُلُّهُ) أَيِ: الْمَرْوِيُّ بِالْوِجَادَةِ الْمُجَرَّدَةِ سَوَاءٌ وَثِقْتَ بِكَوْنِهِ خَطَّهُ أَمْ لَا. (مُنْقَطِعٌ) أَوْ مُعَلَّقٌ، فَقَدْ قَالَ الرَّشِيدُ الْعَطَّارُ فِي (الْغُرَرِ الْمَجْمُوعَةِ) لَهُ: الْوِجَادَةُ دَاخِلَةٌ فِي بَابِ الْمَقْطُوعِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الرِّوَايَةِ، بَلْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ عَدَّهُ مِنَ التَّعْلِيقِ أَوْلَى مِنَ الْمُنْقَطِعِ وَمِنَ الْمُرْسَلِ- يَعْنِي بِالنَّظَرِ لِثَالِثِ الْأَقْوَالِ فِي تَعْرِيفِهِ- وَإِنْ أَجَازَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ الرِّوَايَةَ عَنِ الْوِجَادَةِ فِي الْكُتُبِ مِمَّا لَيْسَ بِسَمَاعٍ لَهُمْ وَلَا إِجَازَةٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي (الْكِفَايَةِ) وَعَقَدَ لِذَلِكَ بَابًا وَسَاقَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي قَائِمِ سَيْفِ أَبِيهِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَحِيفَةً فِيهَا كَذَا. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ: رَأَيْتُ فِي كِتَابٍ عِنْدِي عَتِيقٍ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ أَبُو الزِّنَادِ. وَذَكَرَ حَدِيثًا. وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: أَوْدَعَنِي فُلَانٌ كِتَابًا، أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُ هَذِهِ، فَوَجَدْتُ فِيهِ: عَنِ الْأَعْرَجِ قَالَ، وَكَانَ يُحَدِّثُنَا بِأَشْيَاءَ مِمَّا فِي الْكِتَابِ وَلَا يَقُولُ: أَنَا وَلَا ثَنَا فِي آخَرِينَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَاكَ عَمَّنْ سَمِعُوا مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ وَعَرَفُوا حَدِيثَهُ مَعَ إِيرَادِهِمْ لَهُ بِوَجَدْتُ أَوْ رَأَيْتُ وَنَحْوِهِمَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَرِهَ الرِّوَايَةَ عَنِ الصُّحُفِ غَيْرِ الْمَسْمُوعَةِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا، وَسَاقَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ كِتَابًا فِيهِ عِلْمٌ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عَالِمٍ فَلْيَدْعُ بِإِنَاءٍ وَمَاءٍ فَلْيَنْقَعْهُ فِيهِ حَتَّى يَخْتَلِطَ سَوَادُهُ مَعَ بَيَاضِهِ). وَعَنْ وَكِيعٍ قَالَ: لَا يُنْظَرْ فِي كِتَابٍ لَمْ يَسْمَعْهُ؛ لَا يَأْمَنُ أَنْ تَعْلَقَ بِقَلْبِهِ مِنْهُ. وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ كَمَا فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، بَلْ قَالَ عِيَاضٌ: إِنَّهُمُ اتَّفَقُوا، يَعْنِي بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كَلَامُ النَّوَوِيِّ الْمَاضِي عَلَى مَنْعِ النَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ بِالْوِجَادَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلِذَا صَرَّحَ ابْنُ كَثِيرٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةٌ عَمَّا وَجَدَهُ فِي الْكِتَابِ. قُلْتُ: وَمَا وَقَعَ فِي أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مِنَ الْمَنَاقِبِ مِنْ (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) مِمَّا رَوَاهُ عَنْ شَيْخِهِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: ذَهَبْتُ أَسْأَلُ الزُّهْرِيَّ عَنْ حَدِيثِ الْمَخْزُومِيَّةِ فَصَاحَ بِي قَالَ: فَقُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَلَمْ تَحْمِلْهُ عَنْ أَحَدٍ؟. قَالَ: وَجَدْتُهُ فِي كِتَابٍ كَانَ كَتَبَهُ أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. لَا يُخْدَشُ فِيهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ نَفْسِهِ مُتَّصِلًا مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ (وَ) لَكِنِ (الْأَوَّلُ) وَهُوَ مَا إِذَا وَثِقَ بِأَنَّهُ خَطُّهُ (قَدْ شِيبَ وَصْلًا) أَيْ: بِوَصْلِ (مَا) حَيْثُ قِيلَ فِيهِ: وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ. لِمَا فِيهِ مِنَ الِارْتِبَاطِ فِي الْجُمْلَةِ، وَزِيَادَةِ قُوَّةٍ لِلْخَبَرِ، فَإِنَّهُ إِذَا وُجِدَ حَدِيثٌ فِي (مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ) مَثَلًا وَهُوَ بِخَطِّهِ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَحْمَدَ كَذَا. أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ: قَالَ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ رُبَّمَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ وَالتَّغْيِيرَ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ النَّقْلَ بِالْمَعْنَى بِخِلَافِ الْخَطِّ. (وَقَدْ تَسَهَّلُوا)؛ أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ كَبَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالْحَكَمِ بْنِ مِقْسَمٍ، وَأَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَمَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، وَوَائِلِ بْنِ دَاوُدَ. (فِيهِ) أَيْ: فِي إِيرَادٍ مَا يَجِدُونَهُ بِخَطِّ الشَّخْصِ فَأَتَوْا (بـِ) لَفْظِ (عَنْ) فُلَانٍ أَوْ نَحْوِهَا، مِثْلَ “ قَالَ “ مَكَانَ “ وَجَدْتُ “؛ إِذْ أَكْثَرُ رِوَايَةِ بَهْزٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِيمَا قِيلَ مِنْ صَحِيفَةٍ، وَكَذَا قَالَهُ شُعْبَةُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ، وَصَالِحٌ جَزَرَةُ وَغَيْرُهُ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ فِي رِوَايَةِ وَائِلٍ عَنْ وَلَدِهِ بَكْرٍ. وَصَرَّحَ بِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَمَّا قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، عَمَّنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُحَدِّثُنَا؟ فَقَالَ: صَحِيفَةٌ وَجَدْنَاهَا. وَالْجُمْهُورُ فِي رِوَايَةِ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ. وَكَذَا قِيلَ: إِنَّ الْحَكَمَ عَنْ مِقْسَمٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ سِوَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ، وَالْبَاقِي كِتَابٌ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَهَذَا دُلْسَةٌ تَقْبُحُ إِنْ أَوْهَمَ) الْوَاجِدُ بِأَنْ كَانَ مُعَاصِرًا لَهُ (أَنَّ نَفْسَهُ) أَيِ: الشَّخْصُ الَّذِي وَجَدَ الْمَرْوِيَّ بِخَطِّهِ (حَدَّثَهُ بِهِ) أَوْ لَهُ مِنْهُ إِجَازَةٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُوهِمْ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُعَاصِرًا لَهُ (وَبَعْضٌ) جَازَفَ فَـ (أَدَّى) مَا وَجَدَهُ كَذَلِكَ قَائِلًا: ثَنَا وَأَنَا. قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ: ثَنَا صَاحِبٌ لَنَا مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ ثِقَةٌ يُقَالُ لَهُ: أَشْرَسُ. قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فَكَانَ يُحَدِّثُنَا عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، فَقَدِمَ عَلَيْنَا إِسْحَاقُ فَجَعَلَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ لَقِيتَهُ قَالَ: لَمْ أَلْقَهُ، مَرَرْتُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَوَجَدْتُ كِتَابًا لَهُ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَيْضًا، وَلَكِنْ رُوِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَبُو جَعْفَرٍ: اسْتَوْصِ بِإِسْحَاقَ خَيْرًا فَإِنَّهُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَقِيَ الزُّهْرِيَّ، وَحِينَئِذٍ؛ فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي عَنَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِالْبَعْضِ، فَقَدْ ظَهَرَ الْخَدْشُ فِيهِ وَلَعَلَّهُ عَنَى غَيْرَهُ، وَمُقْتَضَى جَزْمِ غَيْرِ وَاحِدٍ بِكَوْنِ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ جَدِّهِ، إِنَّمَا وَجَدَ كِتَابَهُ فَحَدَّثَ مِنْهُ، مَعَ تَصْرِيحِهِ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ قَلِيلَةٍ بِالسَّمَاعِ وَالتَّحْدِيثِ، إِدْرَاجُهُ فِي الْبَعْضِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدَ (رَدَّا) ذَلِكَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ أَجَازَ النَّقْلَ فِيهِ بِذَلِكَ وَلَا مَنْ عَدَّهُ مَعَدَّ الْمُسْنَدِ. انْتَهَى. وَلَعَلَّ فَاعِلَهُ كَانَتْ لَهُ مِنْ صَاحِبِ الْخَطِّ إِجَازَةٌ وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى إِطْلَاقَهُمَا فِي الْإِجَازَةِ كَمَا ذَكَرَهُ عِيَاضٌ، ثُمَّ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي الْقِسْمِ قَبْلَهُ. وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقَوْلِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَلْخِيِّ: إِنَّ الْمُجَوِّزِينَ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَقُولَ: أَنَا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ. احْتَجُّوا بِأَنَّهُ إِذَا وَجَدَ سَمَاعَهُ بِخَطٍّ مَوْثُوقٍ بِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: ثَنَا فُلَانٌ، يَعْنِي كَمَا سَيَجِيءُ فِي مَحَلِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ أَقْبَحُ تَدْلِيسٍ قَادِحٍ فِي الرِّوَايَةِ. (وَ) لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ (قِيلَ فِي الْعَمَلِ) بِمَا تَضَمَّنَهُ (إِنَّ الْمُعْظَمَا) مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ (لَمْ يَرَهُ) قِيَاسًا عَلَى الْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَمْ يَتَّصِلْ، وَكَانَ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا يُفَرِّقُ بِأَنَّهُ هُنَاكَ فِي الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ، وَأَمَّا مَنْ يَرَى مِنْهُمُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ فَقَدْ يُفَرِّقُ بِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهَا الِاتِّصَالَ. (وَ) لَكِنْ (بِالْوُجُوبِ) فِي الْعَمَلِ حَيْثُ سَاغَ (جَزَمَا) أَيْ: قَطَعَ (بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ) مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عِنْدَ حُصُولِ الثِّقَةِ بِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ عُرِضَ عَلَى جُمْلَةِ الْمُحَدِّثِينَ لَأَتَوْهُ؛ فَإِنَّ مُعْظَمَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ لَا يَرَوْنَهُ حُجَّةً. (وَ) الْقَطْعُ بِالْوُجُوبِ (هُوَ الْأَصْوَبُ) الَّذِي لَا يَتَّجِهُ غَيْرُهُ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ، يَعْنِي الَّتِي قَصُرَتِ الْهِمَمُ فِيهَا جِدًّا، وَحَصَلَ التَّوَسُّعُ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ الْعَمَلُ فِيهَا عَلَى الرِّوَايَةِ لَانْسَدَّ بَابُ الْعَمَلِ بِالْمَنْقُولِ لِتَعَذُّرِ شَرْطِ الرِّوَايَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، يَعْنِي: فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُجَرَّدُ وِجَادَاتٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ. قُلْتُ: وَقَوْلُ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ: (كُنَّا نَسْمَعُ بِالصَّحِيفَةِ فِيهَا عِلْمٌ فَنَنْتَابُهَا كَمَا يَنْتَابُ الرَّجُلُ الْفَقِيهَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا هَهُنَا آلُ الزُّبَيْرِ وَمَعَهُمْ قَوْمٌ فُقَهَاءُ) مُشْعِرٌ بِعَمَلِهِمْ بِمَا فِيهَا كَالْعَمَلِ بِقَوْلِ الْفَقِيهِ. (وَلِـ) لْإِمَامِ الْأَعْظَمِ (ابْنِ إِدْرِيسَ) الشَّافِعِيِّ (الْجَوَازَ نَسَبُوا) أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ نُظَّارِ أَصْحَابِهِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِعِيَاضٍ: وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْجُوَيْنِيُّ وَاخْتَارَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَرْبَابِ التَّحْقِيقِ. فَاجْتَمَعَ فِي الْعَمَلِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْمَنْعُ، الْوُجُوبُ، الْجَوَازُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ لِلْعَمَلِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟) قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ، قَالَ: (وَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟) وَذَكَرُوا الْأَنْبِيَاءَ، قَالَ: (وَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟) قَالُوا: فَنَحْنُ، قَالَ: (وَكَيْفَ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟) قَالُوا: فَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَأْتُونَ بَعْدَكُمْ يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِهَا) حَيْثُ قَالَ: فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَدْحُ مَنْ عَمِلَ بِالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِمُجَرَّدِ الْوِجَادَةِ، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ حَسَنٌ. قُلْتُ: وَفِي الْإِطْلَاقِ نَظَرٌ؛ فَالْوُجُودُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يُسَوِّغُ الْعَمَلَ. (وَ) أَمَّا (إِنْ يَكُنْ) وَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مَا تَجِدُ مِنْ مُصَنَّفٍ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ عَاصَرْتَهُ أَوَّلًا كَمَا بَيَّنَ أَوَّلًا (بِغَيْرِ خَطِّهِ) أَيِ: الْمُصَنِّفِ، مَعَ الثِّقَةِ بِصِحَّةِ النُّسْخَةِ بِأَنْ قَابَلَهَا الْمُصَنِّفُ أَوْ ثِقَةٌ غَيْرُهُ بِالْأَصْلِ أَوْ بِفَرْعٍ مُقَابَلٍ كَمَا قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ. (فَقُلْ: قَالَ) فُلَانٌ كَذَا (وَنَحْوَهَا) مِنْ أَلْفَاظِ الْجَزْمِ، كَذَكَرَ فُلَانٌ، أَوِ بِخَطِّ مُصَنِّفِهِ مَعَ الثِّقَةِ بِأَنَّهُ خَطُّهُ فَقُلْ أَيْضًا: وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ. وَنَحْوَهَا كَمَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَاحْكِ كَلَامَهُ، (وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِالنُّسْخَةِ الْوُثُوقُ) فَـ(قُلْ: بَلَغَنِي) عَنْ فُلَانٍ أَنَّهُ ذَكَرَ كَذَا، أَوْ وَجَدْتُ فِي نُسْخَةٍ مِنَ الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي الْجَزْمَ. (وَ) لَكِنِ (الْجَزْمُ) فِي الْمَحْكِيِّ لِمَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (يُرْجَى حَلُّهُ لِلْفَطِنِ) الْعَالِمِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ مَوَاضِعُ الْأَسْقَاطِ وَالسَّقْطِ وَمَا أُحِيلَ عَنْ جِهَتِهِ؛ أَيْ: بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ مِنْ غَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَإِلَى هَذَا- فِيمَا أَحْسَبُ- اسْتَرْوَحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِيمَا نَقَلُوهُ مِنَ كُتُبِ النَّاسِ مَعَ تَسَامُحِ كَثِيرٍ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ الْجَازِمِ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَلَا تَثَبُّتٍ، فَيُطَالِعُ أَحَدُهُمْ كِتَابًا مَنْسُوبًا إِلَى مُصَنِّفٍ مُعَيَّنٍ وَيَنْقُلُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثِقَ بِصِحَّةِ النُّسْخَةِ قَائِلًا: قَالَ فُلَانٌ كَذَا. وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ. قُلْتُ: وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا يُوجَدُ بِحَوَاشِي الْكُتُبِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالتَّقْيِيدَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بِخَطٍّ مَعْرُوفٍ؛ فَلَا بَأْسَ بِنَقْلِهَا وَعَزْوِهَا إِلَى مَنْ هِيَ لَهُ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُهَا إِلَّا لِعَالِمٍ مُتْقِنٍ، وَرُبَّمَا تَكُونُ تِلْكَ الْحَوَاشِي بِخَطِّ شَخْصٍ وَلَيْسَتْ لَهُ، أَوْ بَعْضُهَا لَهُ وَبَعْضُهَا لِغَيْرِهِ فَيَشْتَبِهُ ذَلِكَ عَلَى نَاقِلِهِ بِحَيْثُ يَعْزُو الْكُلَّ لِوَاحِدٍ.
559 وَاخْتَلَفَ الصِّحَابُ وَالْأَتْبَاعُ *** فِي كِتْبَةِ الْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعُ 560 عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَهُمْ بِالْجَزْمِ *** لِقَوْلِهِ اكْتُبُوا، وَكَتَبَ السَّهْمِي (كِتَابَةُ الْحَدِيثِ وَضَبْطُهُ) بِالشَّكْلِ وَنَحْوِهِ وَمَا أُلْحِقَ بِذَلِكَ مِنَ الْخَطِّ الدَّقِيقِ وَالرَّمْزِ وَالدَّارَةِ، مِمَّا سَنُبَيِّنُ أَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الضَّبْطِ وَمِنْ آدَابِ الْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا كَانَ الْأَنْسَبُ تَقْدِيمَهُ عَلَى الضَّبْطِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (وَاخْتَلَفَ الصِّحَابُ)؛ أَيِ: الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا- جَمْعُ صَاحِبٍ كَجِيَاعٍ وَجَائِعٍ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْكَسْرَ فِي صِحَابٍ وَالْفَتْحَ فِي صَحَابَةٍ أَكْثَرُ، (وَ) كَذَا (الْأَتْبَاعُ) لِلصَّحَابَةِ (فِي كِتْبَةِ) بِكَسْرِ الْكَافِ؛ أَيْ: كِتَابَةِ (الْحَدِيثِ) وَالْعِلْمِ عَمَلًا وَتَرْكًا. فَكَرِهَهَا لِلتَّحْرِيمِ- كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ النَّفِيسِ- غَيْرُ وَاحِدٍ؛ فَمِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ. وَمِنَ التَّابِعِينَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، بَلْ أَمَرُوا بِحِفْظِهِ عَنْهُمْ كَمَا أَخَذُوهُ حِفْظًا مُتَمَسِّكِينَ بِمَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ، مَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ). وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتْبِ الْحَدِيثِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ. وَأَجَازَهَا بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَمِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُهُ الْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَذَا ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا، وَمِنَ التَّابِعِينَ قَتَادَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، بَلْ حَكَاهُ عِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ الْفَرِيقَيْنِ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا صَحَّ: (قَيِّدُوا الْعِلْمَ. بِالْكِتَابِ) بَلْ رُوِيَ رَفْعُهُ وَلَا يَصِحُّ. وَقَالَ أَنَسٌ: (كَتْبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ). (وَ) لَكِنِ (الْإِجْمَاعُ) مُنْعَقِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ (عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَهُمْ)، أَيْ: بَعْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا زَادَهُ الذَّهَبِيُّ (بِالْجَزْمِ) فِي حِكَايَتِهِ بِدُونِ تَرَدُّدٍ بِحَيْثِ زَالَ ذَلِكَ الْخِلَافُ، كَمَا أَجْمَعَ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى جَوَازِهَا فِي الْقُرْآنِ لِأَدِلَّةٍ مُنْتَشِرَةٍ يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى فَضْلِ تَدْوِينِ الْعِلْمِ وَتَقْيِيدِهِ. كَـ (قَوْلِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَصَحُّهَا: (اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ) يَعْنِي بِهَاءٍ مُنَوَّنَةٍ فِي الْوَقْفِ وَالدَّرْجِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ؛ أَيِ: الْخُطْبَةُ الَّتِي سَمِعَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لَكِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُدَّعَى فِيهِ أَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ. وَفِيهِ نَظَرٌ، وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: (إِيتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ). (وَ) لِـ (كَتْبِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (السَّهْمِيِّ) نِسْبَةً لِسَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصٍ، كَمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (مَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ). كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْتُبُ مَا أَسْمَعُهُ مِنْكَ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، فَإِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا) وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُسَمِّي صَحِيفَتَهُ تِلْكَ الصَّادِقَةَ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ احْتِرَازًا عَنْ صَحِيفَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلْ رُوِيَ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِمَّا ضَعَّفَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا شَكَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَمَ الْحِفْظِ، فَقَالَ لَهُ: (اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ). وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: (هَذِهِ أَحَادِيثُ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبْتُهَا وَعَرَضْتُهَا). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ، وَأَسَانِيدُهَا ضَعِيفَةٌ. وَلِقَوْلِ عَلِيٍّ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ (مَا كَتَبْنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْقُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ). وَلِقَوْلِ قَتَادَةَ إِذْ سَأَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَأَكْتُبُ مَا أَسْمَعُ؟ وَمَا يَمْنَعُكَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ أَنْبَأَكَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ! وَقَرَأَ: {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} وَكَذَا قَالَ أَبُو الْمَلِيحِ الْهُذَلِيُّ الْبَصْرِيُّ: يَعِيبُونَ عَلَيْنَا أَنْ نَكْتُبَ الْعِلْمَ أَوْ نُدَوِّنَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ}. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ فَارِسٍ فِي مَآخِذِ الْعِلْمِ: {فَاكْتُبُوهُ} حَيْثُ قَالَ: فَجَعَلَ كِتَابَةَ الدَّيْنِ وَأَجَلَهُ وَكَمِّيَّتَهُ مِنَ الْقِسْطِ عِنْدَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ قِيامًا لِلشَّهَادَةِ وَنَفْيًا لِلِارْتِيَابِ لِقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا}، [الْبَقَرَةَ: 282].. قُلْتُ: وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَعَلَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} فَقَدْ فَسَّرَهُمَا الْحَسَنُ بِالدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ، ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ ابْنَ عَبَّاسٍ: (أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَيِ: الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ لِلْوِجَادَةِ: (يَجِيءُ بَعْدَكُمْ قَوْمٌ يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا) عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ مِنْ إِخْبَارِهِ عَمَّا سَيَقَعُ، وَهُوَ تَدْوِينُ الْقُرْآنِ وَكَتْبُهُ فِي صُحُفِهِ؛ يَعْنِي: وَكِتَابَةُ الْحَدِيثِ. وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اقْتَرَنَ مَعَهَا قِصَرُ الْهِمَمِ وَنَقْصُ الْحِفْظِ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّمَنِ الْأَوَّلِ؛ لِكَوْنِ الْعَرَبِ كَانُوا مَطْبُوعِينَ عَلَى الْحِفْظِ مَخْصُوصِينَ بِهِ، بِحَيْثُ قَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنِّي لِأَمُرُّ بِالنَّقِيعِ فَأَسُدُّ أُذُنِي مَخَافَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْخَنَا، فَوَاللَّهِ مَا دَخَلَ أُذُنِي شَيْءٌ قَطُّ فَنَسِيتُهُ. وَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ نَحْوَهُ، وَحَفِظَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَصِيدَةَ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبَكِّرُ. فِي سَمْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا قِيلَ، بَلْ بَلَغَنَا عَنِ الْبُلْقِينِيِّ أَنَّهُ حَفِظَ قَصِيدَةً مِنْ مَرَّةٍ، وَلَيْسَ أَحَدٌ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا، فَخُشِيَ مِنْ عَدَمِ تَقْيِيدِهِ انْدِرَاسُهُ وَضَيَاعُهُ فَدُوِّنَ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ صَلَاحٍ: وَلَوْلَا تَدْوِينُهُ فِي الْكُتُبِ لَدَرَسَ فِي الْأَعْصُرِ الْأَخِيرَةَ، يَعْنِي: كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ: (انْظُرُوا مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبُوهُ فَإِنِّي خَشِيتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ). وَقَالَ عِيَاضٌ: “ وَالْحَالُ الْيَوْمَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْكِتَابَةِ لِانْتِشَارِ الطُّرُقِ وَطُولِ الْأَسَانِيدِ وَقِلَّةِ الْحِفْظِ وَكَلَالِ الْأَفْهَامِ “. وَقَالَ الْخَطِيبُ: قَدْ صَارَ عِلْمُ الْكَاتِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَثْبَتُ مِنْ عِلْمِ الْحَافِظِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ يَنِدُّ كَمَا تَنِدُّ الْإِبِلُ، وَلَكِنَّ الْكَتْبَ لَهُ حُمَاةٌ، وَالْأَقْلَامَ عَلَيْهِ رُعَاةٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ: لَوْلَا الْكِتَابَةُ أَيُّ شَيْءٍ كُنَّا؟ بَلْ قَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ: كُلُّ مَنْ لَا يَكْتُبُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: لَوْلَا الْكِتَابُ مَا حَفِظْنَا. لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فِي الطَّرَفَيْنِ طُرُقًا؛ أَحَدُهَا: أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِوَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ خَشْيَةَ الْتِبَاسِهِ بِغَيْرِهِ، وَالْإِذْنُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَلِذَا خَصَّ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ بِحَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: النَّهْيُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ مِنَ الْقُرْآنِ كِتَابٌ يُضَاهَى بِهِ. يَعْنِي: فَحَيْثُ أُمِنَ الْمَحْذُورُ بِكَثْرَةِ حُفَّاظِهِ وَالْمُعْتَنِينَ بِهِ وَقُوَّةِ مَلَكَةِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ لِتَمْيِيزِهِ عَنْ غَيْرِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ. أَوْ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِكِتَابَةِ غَيْرِ الْقُرْآنِ مَعَ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ تَأْوِيلَهُ فَرُبَّمَا كَتَبُوهُ مَعَهُ. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَعَلَّ مِنْ ذَلِكَ مَا قُرِئَ شَاذًّا فِي قَوْلِهِ: (مَا لَبِثُوا حَوْلًا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) وَالْإِذْنُ فِي تَفْرِيقِهِمَا. أَوِ النَّهْيُ مُتَقَدِّمٌ وَالْإِذْنُ نَاسِخٌ لَهُ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنَ الِالْتِبَاسِ، كَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ ابْنُ شَاهِينٍ، فَإِنَّ الْإِذْنَ لِأَبِي شَاهٍ كَانَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، وَاسْتُظْهِرَ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَكْتُبُونَ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ أَقْرَبُهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُنَافِيهَا. وَقِيلَ: النَّهْيُ لِمَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْحِفْظِ. وَالْإِذْنُ لِغَيْرِهِ، وَقِصَّةُ أَبِي شَاهٍ حَيْثُ كَانَ الْإِذْنُ لَهُ لَمَّا سَأَلَ فِيهَا مُشْعِرَةٌ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: النَّهْيُ خَاصٌّ بِمَنْ خُشِيَ مِنْهُ الِاتِّكَالُ عَلَى الْكِتَابِ دُونَ الْحِفْظِ، وَالْإِذْنُ لِمَنْ أُمِنَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلِذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سَيُرِينَ أَنِّهُ كَانَ لَا يَرَى بِالْكِتَابَةِ بَأْسًا، فَإِذَا حَفِظَ مَحَاهُ، وَنَحْوُهُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ وَغَيْرِهِمَا. وَعَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ يَكْتُبُونَ، إِنَّمَا كَانُوا يَحْفَظُونَ، فَمَنْ كَتَبَ مِنْهُمُ الشَّيْءَ فَإِنَّمَا كَانَ لِيَحْفَظَهُ فَإِذَا حَفِظَهُ مَحَاهُ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَمِنْ طَرِيقِهِ ابْنُ صَلَاحٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: كَانَ هَذَا الْعِلْمُ كَرِيمًا تَتَلَاقَاهُ الرِّجَالُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي الْكُتُبِ دَخَلَ فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي حَدِيثٍ أَبِي سَعِيدٍ فِي النَّهْيِ أَنَّ الصَّوَابَ وَقْفُهُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالَّذِي اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بَلْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ لَا يَبْعُدُ وُجُوبُهُ عَلَى مَنْ خَشِيَ النِّسْيَانَ مِمَّنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُ الْعِلْمِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الذَّهَبِيِّ: إِنَّهُ تَعَيَّنَ فِي الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا وَتَحَتَّمَ. قَالَ غَيْرُهُمَا: وَلَا يَنْبَغِي الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا حَتَّى لَا يَصِيرَ لَهُ تَصَوُّرٌ وَلَا يَحْفَظَ شَيْئًا، فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ: لَيْسَ بِعِلْمٍ مَا حَوَى الْقِمْطَرُ *** مَا الْعِلْمُ إِلَّا مَا حَوَاهُ الصَّدْرُ وَقَالَ آخَرُ: اسْتَوْدَعَ الْعِلْمُ قِرْطَاسًا فَضَيَّعَهُ *** وَبِئْسَ مُسْتَوْدَعُ الْعِلْمِ الْقَرَاطِيسُ وَلِذَا قَالَ ثَعْلَبٌ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ عَالِمًا فَاكْسَرِ الْقَلَمَ. وَأَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الْحَدِيثَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى كُلِّ أَرْضٍ لَهُ عَلَيْهَا سُلْطَانٌ، ثُمَّ كَثُرَ التَّدْوِينُ ثُمَّ التَّصْنِيفُ، وَحَصَلَ بِذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ قَالَ السُّبْكِيُّ: يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَّخِذَ كِتَابَةَ الْعِلْمِ عِبَادَةً، سَوَاءٌ تَوَقَّعَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا فَائِدَةٌ أَمْ لَا. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَجْرِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ تَتَوَفَّرُ عَلَى حِفْظِهِ وَإِنْ كَانَ مَكْتُوبًا، وَذَلِكَ لِلَذَاذَةِ نَظْمِهِ وَإِيجَازِهِ، وَحُسْنِ تَأْلِيفِهِ وَإِعْجَازِهِ، وَكَمَالِ بَلَاغَاتِهِ، وَحُسْنِ تَنَاسُبِ فَوَاصِلِهِ وَغَايَاتِهِ، وَزِيَادَةِ التَّبَرُّكِ بِهِ، وَطَلَبِ تَحْصِيلِ الْأُجُورِ الْعَظِيمَةِ بِسَبَبِهِ. 561- وَيَنْبَغِي إِعْجَامُ مَا يُسْتَعْجَمْ *** وَشَكْلُ مَا يُشْكِلُ لَا مَا يُفْهَمْ 562- وَقِيلَ كُلُّهُ لِذِي ابْتِدَاءِ *** وَأَكَّدُوا مُلْتَبِسَ الْأَسْمَاءِ 563- وَلْيَكُ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْهَامِشِ مَعْ *** تَقْطِيعِهِ الْحُرُوفَ فَهْوَ أَنْفَعْ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (وَيَنْبَغِي) اسْتِحْبَابًا مُتَأَكَّدًا، بَلْ عِبَارَةُ ابْنُ خَلَّادٍ وَعِيَاضٍ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ، لَكِنَّ فِي حَقِّ مَنْ حَفِظَ الْعِلْمَ بِالْخَطِّ لِطَالِبِ الْعِلْمِ، لَا سِيَّمَا الْحَدِيثُ وَمُتَعَلَّقَاتُهُ مَعَ صَرْفِ الْهِمَّةِ لِضَبْطِ مَا يُحَصِّلُهُ بِخَطِّهِ أَوْ بِخَطِّ غَيْرِهِ مِنْ مَرْوِيِّهِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ ضَبْطًا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِالْتِبَاسُ. (إِعْجَامُ) أَيْ: نَقْطُ (مَا يُسْتَعْجَمُ) بِإِغْفَالِ نَقْطِهِ، بِحَيْثُ تَصِيرُ فِيهِ عُجْمَةٌ بِأَنْ يُمَيِّزَ الْخَاءَ الْمُعْجَمَةَ مِنَ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالذَّالَ الْمُعْجَمَةَ مِنَ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، كَحَدِيثِ: (عَلَيْكُمْ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ) فَيُعْجِمُ كُلًّا مِنَ الْخَاءِ وَالذَّالِ بِالنَّقْطِ وَكَالْنَقِيعِ وَالْبَقِيعِ، فَيُمَيِّزُ مَا يَكُونُ بِالنُّونِ مِمَّا هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ. وَكَذَا فِي الْأَسْمَاءِ، يُبَيِّنُ خَبَّابًا مِنْ جَنَابٍ وَحُبَابٍ، وَأَبَا الْجَوْزَاءِ مِنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَنِ بِذَلِكَ الْكَثِيرُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ اتِّكَالًا عَلَى حِفْظِهِمْ، كَإِيرَادِهِمْ الْمَوْضُوعَاتِ بِدُونِ تَصْرِيحٍ بِبَيَانِهَا، فَقَدْ قَالَ الثَّوْرِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي (أَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ) لَهُ: الْخُطُوطُ الْمُعْجَمَةُ كَالْبُرُودِ الْمُعَلَّمَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: رُبَّ عِلْمٍ لَمْ تُعْجَمْ فُصُولُهُ اسْتُعْجِمَ مَحْصُولُهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ ثَابِتِ بْنِ مَعْبَدٍ: نُورُ الْكِتَابِ الْعَجْمُ. وَكَذَا يُرْوَى مِنْ قَوْلِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِعْجَامُ الْمَكْتُوبِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْجَامِهِ. بَلْ أَوْرَدَ الْخَطِيبُ فِي “ جَامِعِهِ “ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أَوْسٍ الْغَسَّانِيِّ كَاتِبِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَتَبْتُ بَيْنَ يَدَيْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كِتَابًا، فَقَالَ لِي: يَا عُبَيْدُ، ارْقُشْ كِتَابَكَ، فَإِنِّي كَتَبْتُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: (يَا مُعَاوِيَةُ، ارْقُشْ كِتَابَكَ) قُلْتُ: وَمَا رَقْشُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: إِعْطَاءُ كُلِّ حَرْفٍ مَا يَنُوبُهُ مِنَ النَّقْطِ. (وَ) كَذَا يَنْبَغِي (شَكْلُ مَا يُشْكِلُ) إِعْرَابُهُ مِنَ الْمُتُونِ وَالْأَسْمَاءِ فِي الْكِتَابِ، فَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ إِشْكَالِهِ. (لَا مَا يُفْهَمُ) بِدُونِ شَكْلٍ وَلَا نَقْطٍ. فَإِنَّهُ تَشَاغُلٌ بِمَا غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ، وَفِيهِ عَنَاءٌ، بَلْ قَدْ لَا يَكُونُ فِيهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يُشْكِلُ الْحَرْفَ إِذَا كَانَ شَدِيدًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا. وَكَانَ عَفَّانُ وَبَهْزٌ وَحَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ أَصْحَابُ الشَّكْلِ وَالتَّقْيِيدِ، وَحَكَى عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ (سِمَاتِ الْخَطِّ وَرُقُومِهِ) أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ الْإِعْجَامَ وَالْإِعْرَابَ إِلَّا فِي الْمُلْبِسِ، وَرُبَّمَا يَحْصُلُ لِلْكِتَابِ إِظْلَامٌ. (وَقِيلَ) بَلْ يَنْبَغِي الشَّكْلُ وَالْإِعْجَامُ لِلْمَكْتُوبِ (كُلُّهُ) أَشْكَلَ أَمْ لَا. وَصَوَّبَهُ عِيَاضٌ (لِـ) أَجْلِ (ذِي ابْتِدَاءٍ) فِي الصَّنْعَةِ وَالْعِلْمِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْمُؤْتَلِفَ وَالْمُخْتَلِفَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمَيِّزُ الْمُشْكِلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا صَوَابَ وَجْهِ الْإِعْرَابِ لِلْكَلِمَةِ مِنْ خَطِئِهِ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ وَاضِحًا عِنْدَ قَوْمٍ مُشْكِلًا عِنْدَ آخَرِينَ، كَالْعَجَمِ وَمَنْ شَاكَلَهُمْ، وَالْقَصْدُ عُمُومُ الِانْتِفَاعِ، وَرُبَّمَا يَظُنُّ هُوَ لِبَرَاعَتِهِ الْمُشْكِلَ وَاضِحًا، بَلْ وَقَدْ يَخْفَى عَنْهُ الصَّوَابُ بَعْدُ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَثِيرًا مَا يَتَهَاوَنُ فِي ذَلِكَ الْوَاثِقُ بِذِهْنِهِ وَتَيَقُّظِهِ، وَذَلِكَ وَخِيمُ الْعَاقِبَةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُعَرَّضٌ لِلنِّسْيَانِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْبُسْتِيُّ- وَكَانَ يُكْثِرُ التَّجْنِيسَ فِي شِعْرِهِ-: يَا أَفَضَلَ النَّاسِ إِفْضَالًا عَلَى النَّاسِ *** وَأَكْثَرَ النَّاسِ إِحْسَانًا إِلَى النَّاسِ نَسِيتُ وَعْدَكَ وَالنِّسْيَانُ مُغْتَفَرٌ *** فَاعْذُرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوُّلُ النَّاسِ وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ: سُمِّيتَ إِنْسَانًا لِأَنَّكَ نَاسٍ. وَمِمَّنْ كَانَ كَثِيرَ الْعَجْمِ وَالنَّقْطِ لِكِتَابِهِ أَبُو عَوَانَةَ الْوَضَّاحُ أَحَدُ الْحُفَّاظِ، فَقُدِّمَ كِتَابُهُ عَلَى حِفْظِ غَيْرِهِ لِشِدَّةِ إِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ لَهُ. وَرُبَّمَا- كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ عِيَاضٌ- يَقَعُ النِّزَاعُ فِي حُكْمٍ مُسْتَنْبَطٍ مِنْ حَدِيثٍ يَكُونُ مُتَوَقِّفًا عَلَى ضَبْطِ الْإِعْرَابِ فِيهِ، فَيُسْأَلُ الرَّاوِي: كَيْفَ ضَبْطُ هَذَا اللَّفْظِ؟ فَيَصِيرُ مُتَحَيِّرًا لِكَوْنِهِ أَهْمَلَهُ، أَوْ يَجْسُرُ عَلَى شَيْءٍ بِدُونِ بَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ كَقَوْلِهِ: (ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ) فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ يُرَجِّحُونَ النَّصْبَ لِاشْتِرَاطِهِمُ التَّذْكِيَةَ، وَالْجُمْهُورُ كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا يُرَجِّحُونَ الرَّفْعَ لِإِسْقَاطِهِمْ ذَكَاتَهُ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُحَقِّقِينَ وَجَّهَ النَّصْبَ أَيْضًا بِمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: (لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) فَالْجَمَاعَةُ يَرْوُونَهُ بِرَفْعِ صَدَقَةٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ، وَالْإِمَامِيَّةُ يَرْوُونَهُ بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُورَثُ مَا تَرَكُوهُ صَدَقَةً دُونَ غَيْرِهِ. عَلَى أَنَّ ابْنَ مَالِكٍ وَجَّهَ النَّصْبَ بِمَا يُوَافِقُ الْجَمَاعَةَ فَقَالَ: التَّقْدِيرُ: مَا تَرَكْنَا مَبْذُولٌ صَدَقَةً. فَحَذَفَ الْخَبَرَ وَبَقِيَ الْحَالُ مِنْهُ. وَنَظِيرُهُ: {وَنَحْنُ عُصْبَةً} بِالنَّصْبِ، وَقَوْلُهُ: (هُوَ لَكَ عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ) فَالْجَمَاعَةُ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ بَيْنَ “ لَكَ “ وَ “ عَبْدٍ “ وَبَعْضُ الْمُخَالِفِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى حَذْفِهِ بَيْنَ “ عَبْدٍ “ وَ “ ابْنٍ “ مَعَ تَنْوِينِ “ عَبْدٍ “. وَنَحْوُهُ فِي السَّنَدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَلِكَوْنِ سَلُولَ أُمَّهُ؛ إِنْ لَمْ يُثْبِتِ الْأَلِفَ فِي ابْنِ سَلُولَ وَيُنَوِّنْ أُبَيًّا يُظَنُّ أَنَّهُ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ ابْنُ بُحَيْنَةَ، كَمَا سَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِيمَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ. وَرَحِمَ اللَّهُ كُلًّا مِنَ السِّلَفِيِّ وَالْمِزِّيِّ فَقَدْ كَانَا مَعَ جَلَالَتِهِمَا يَضْبِطَانِ الْأَشْيَاءَ الْوَاضِحَةَ، حَتَّى إِنَّ السِّلَفِيَّ تَكَرَّرَ لَهُ نَقْطُ الْخَاءِ مِنْ “ أَنَا “، وَالْمِزِّيَّ قَدْ يُسَكِّنُ النُّونَ مِنْ “ عَنْ “، وَلَكِنَّ هَذَا تَكَلُّفٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي ضَبْطِ الْمُتُونِ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرِهَا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يُقَالَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْ أَوْ يُثْبَتَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِغَيْرِ طَرِيقِهِ. (وَ) لَكِنْ (أَكَّدُوا) أَيِ: الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ (مُلْتَبِسَ)؛ أَيْ: ضَبْطَ مُلْتَبِسِ (الْأَسْمَاءِ) لَا سِيَّمَا الْأَسْمَاءُ الْأَعْجَمِيَّةُ وَالْقَبَائِلُ الْغَرِيبَةُ لِقِلَّةِ الْمُتَمَيِّزِينَ فِيهَا. بِخِلَافِ الْإِعْرَابِ، وَلِأَنَّهَا- كَمَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّجِيرَمِيُّ: أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالضَّبْطِ. قَالَ: لِأَنَّهَا لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ وَلَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا. وَمَا لَعَلَّهُ يُقَالُ فِي رَدِّ هَذَا التَّعْلِيلِ مِنْ كَوْنِ الرَّاوِي عَنْ ذَاكَ الْمُلْتَبِسِ أَوْ شَيْخِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ لِلْعَالِمِ بِهِ، وَالْكَلَامُ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ. وَمِمَّنْ كَانَ يَحُضُّ عَلَى الضَّبْطِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَعَفَّانُ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمَا عِيَاضٌ. (وَلْيَكُ) بِسُكُونٍ اللَّامِ كَمَا هُوَ الْأَكْثَرُ فِيهَا مِثْلَ: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} ضَبْطُهُ لِلْمُشْكِلِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَلْفَاظِ (فِي الْأَصْلِ وَ) كَذَا (فِي الْهَامِشِ) مُقَابِلَهُ حَسْبَمَا جَرَى عَلَيْهِ رَسْمُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الضَّبْطِ؛ لِأَنَّ جَمْعَهَا أَبْلَغُ فِي الْإِبَانَةِ وَأَبْعَدُ مِنَ الِالْتِبَاسِ، بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَوَّلِهِمَا فَإِنَّهُ رُبَّمَا دَاخَلَهُ نَقْطٌ أَوْ شَكْلٌ لِغَيْرِهِ مِمَّا فَوْقَهُ أَوْ تَحْتَهُ، فَيَحْصُلُ الِالْتِبَاسِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ دِقَّةِ الْخَطِّ وَضِيقِ الْأَسْطُرِ، قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِعِيَاضٍ. وَيَكُونُ مَا بِالْهَامِشِ مِنْ ذَلِكَ (مَعْ تَقْطِيعِهِ الْحُرُوفَ) مِنَ الْمُشْكِلِ (فَهْوَ أَنْفَعْ) وَأَحْسَنُ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ يُظْهِرُ شَكْلَ الْحَرْفِ بِكِتَابَتِهِ مُفْرَدًا فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ كَالنُّونِ وَالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كُتِبَتْ مُجْتَمِعَةً وَالْحَرْفُ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِهَا أَوْ وَسَطِهَا، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحَا بِهِ فَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الضَّبْطِ. نَعَمْ نَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ عِيَاضٍ، وَهُوَ إِمَّا سَهْوٌ أَوْ رَآهُ فِي غَيْرِ “ الْإِلْمَاعِ “ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ وَحَكَاهُ عَنِ الْمُتْقِنِينَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، فَقَالَ فِي “ الِاقْتِرَاحِ “: وَمِنْ عَادَةِ الْمُتْقِنِينَ أَنْ يُبَالِغُوا فِي إِيضَاحِ الْمُشْكِلِ فَيُفَرِّقُوا حُرُوفَ الْكَلِمَةِ فِي الْحَاشِيَةِ وَيَضْبِطُوهَا حَرْفًا حَرْفًا فَلَا يَبْقَى بَعْدَهُ إِشْكَالٌ. [فَائِدَةٌ]: وَمِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّيَقُّظُ لِمَا يَقَعُ مِنَ الضَّبْطِ نَقْطًا وَشَكْلًا فِي خَطِّ الْأَئِمَّةِ بِغَيْرِ خُطُوطِهِمْ وَلَوْ كَانَ صَوَابًا، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى، وَرُبَّمَا لَا يُمَيِّزُهُ الْحُذَّاقُ، وَيَا فَضِيحَةَ مَنِ اعْتَمَدَ صَنِيعَهُ بِقَصْدِ التَّخْطِئَةِ لِلْأَئِمَّةِ. الثَّانِي: قَدِ اسْتَثْنَى ابْنُ النَّفِيسِ مِمَّا تَقَدَّمَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ وَقَالَ: إِنَّ الْأَوْلَى تَجْرِيدُهُ عَنِ الْإِعْجَامِ وَالْإِعْرَابِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ جَمِيعَهَا زَوَائِدُ عَلَى الْمَتْنِ. وَبِمَا تَقَرَّرَ فِي كَوْنِ دِقَّةِ الْخَطِّ قَدْ تَقْتَضِي الِالْتِبَاسَ كَانَ إِيضَاحُهُ مِمَّا يَتِمُّ بِهِ الضَّبْطُ. 564 وَيُكْرَهُ الْخَطُّ الدَّقِيقُ إِلَّا *** لِضِيقِ رَقٍّ أَوْ لِرَحَّالٍ فَلَا 565 وَشَرُّهُ التَّعْلِيقُ وَالْمَشْقُ كَمَا *** شَرُّ الْقِرَاءَةِ إِذَا مَا هَذْرَمَا
(وَيُكْرَهُ) كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ (الْخَطُّ الدَّقِيقُ) أَوِ الرَّقِيقُ، لَا سِيَّمَا وَالِانْتِفَاعُ بِهِ لِمَنْ يَقَعُ لَهُ الْكِتَابُ مِمَّنْ يَكُونُ ضَعِيفَ الْبَصَرِ أَوْ ضَعِيفَ الِاسْتِخْرَاجِ مُمْتَنِعٌ أَوْ بَعِيدٌ، بَلْ رُبَّمَا يَعِيشُ الْكَاتِبُ نَفْسُهُ حَتَّى يَضْعُفَ بَصَرُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا يَحْكِي أَنَّ الَّذِي يَكْتُبُ الْخَطَّ الدَّقِيقَ رُبَّمَا يَكُونُ قَصِيرَ الْأَمَلِ لَا يُؤَمِّلُ أَنْ يَعِيشَ طَوِيلًا. وَأَقُولُ: بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ طَوِيلَ الْأَمَلِ حَيْثُ تَرَجَّى مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنَّهُ وَلَوْ عَمَّرَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْخَطِّ الدَّقِيقِ. ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْحُكْمُ بِالْكَرَاهَةِ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْحُكَمَاءِ فِي كَوْنِهِ رِيَاضَةً لِلْبَصَرِ وَتَدْمِينًا لَهُ كَمَا يُرَاضُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ بِمَا يَخُصُّهُ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَأَدْمَنَ عَلَى سِوَاهُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ مُعَانَاتُهُ، كَمَنْ يَتْرُكُ الْمَشْيَ أَوْ لَا يَشَمُّ إِلَّا الرَّوَائِحَ الطَّيِّبَةَ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ تَعَاطَى الْمَشْيَ وَشَمَّ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ مَشَقَّةً شَدِيدَةً بِخِلَافِ مَنِ اعْتَادَهُ أَحْيَانًا. وَلَا فَعَلَ جَمَاعَةٌ لِذَلِكَ حَتَّى بَعْدَ تَقَدُّمِهِمْ فِي السِّنِّ، مِنْهُمُ الْحَافِظَانِ الشَّمْسُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ وَالْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ، وَمِنْهُمْ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ كَتَبَ “ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ “ وَ “ مُسْلِمٍ “ فِي مُجَلَّدٍ لَطِيفٍ وَبِيعَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، فَالْمَشَقَّةُ بِذَلِكَ هِيَ الْأَغْلَبُ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ لِابْنِ عَمِّهِ حَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَرَآهُ يَكْتُبُ خَطًّا دَقِيقًا: لَا تَفْعَلْ؛ فَإِنَّهُ يَخُونُكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ. رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي “ جَامِعِهِ “، وَسَاقَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَكِيمَةَ قَالَ: كُنَّا نَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ بِالْكُوفَةِ فَيَمُرُّ بِنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَيَقُومُ عَلَيْنَا فَيَقُولُ: أَجْلِ قَلَمَكَ. قَالَ: فَقَطَطْتُ مِنْهُ ثُمَّ كَتَبْتُ فَقَالَ: هَكَذَا نَوِّرُوا مَا نَوَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. (إِلَّا) أَنْ تَكُونَ دِقَّةُ الْخَطِّ (لِـ) عُذْرٍ كَـ (ضِيقِ رَقٍّ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْقِرْطَاسُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْكَاغِدُ أَيْضًا. بِأَنْ يَكُونَ فَقِيرًا لَا يَجِدُ ثَمَنَهُ أَوْ يَجِدُ الثَّمَنَ وَلَكِنْ لَا يَجِدُ الرَّقَّ، (أَوْ لِرَحَّالٍ) مُسَافِرٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ يُرِيدُ حَمْلَ كُتُبِهِ مَعَهُ فَيَحْتَاجُ إِمَّا لِفَقْرِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ أَضْبَطَ، أَنْ تَكُونَ خَفِيفَةَ الْحَمْلِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْأَرْغِيَانِيُّ: كُنْتُ أَمْشِي بِمِصْرَ وَفِي كُمِّي مِائَةُ جُزْءٍ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ أَلْفُ حَدِيثٍ. (فَلَا) كَرَاهَةَ حَيْثُ اتَّصَفَ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرَ، فَضْلًا عَنْ أَكْثَرَ، كَأَنْ يَكُونَ فَقِيرًا رَحَّالًا، وَأَكْثَرُ الرَّحَّالِينَ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ يَجْتَمِعُ فِي حَالِهِ الصِّفَتَانِ اللَّتَانِ يَقُومُ بِهِمَا الْعُذْرُ فِي تَدْقِيقِ الْخَطِّ، يَعْنِي كَمَا وَقَعَ لِأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رُوزْبَةَ الْفَارِسِيِّ، وَكَانَ يَكْتُبُ خَطًّا دَقِيقًا حَيْثُ قِيلَ لَهُ: لِمَ تَفْعَلُ؟ فَقَالَ: لِقِلَّةِ الْوَرَقِ وَالْوَرِقِ، وَخِفَّةِ الْحَمْلِ عَلَى الْعُنُقِ. وَلَكِنْ قَالَ الْخَطِيبُ: بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى خَطًّا دَقِيقًا قَالَ: هَذَا خَطُّ مَنْ لَا يُوقِنَ بِالْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. يُشِيرُ إِلَى أَنَّ دَاعِيَةَ الْحِرْصِ عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْوَرَقِ أَلْجَأَتْهُ لِذَلِكَ؛ إِذْ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَخْلَفٌ لَوَسَّعَ. [كَرَاهَةُ تَعْلِيقِ الْخَطِّ وَالْمَشْقِ]: (وَشَرُّهُ) أَيِ: الْخَطِّ (التَّعْلِيقُ) وَهُوَ فِيمَا قِيلَ: خَلْطُ الْحُرُوفِ الَّتِي يَنْبَغِي تَفْرِقَتُهَا، وَإِذْهَابُ أَسْنَانِ مَا يَنْبَغِي إِقَامَةُ أَسْنَانِهِ، وَطَمْسُ مَا يَنْبَغِي إِظْهَارُ بَيَاضِهِ. (وَ) كَذَا (الْمَشْقُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ، وَهُوَ خِفَّةُ الْيَدِ وَإِرْسَالُهَا مَعَ بَعْثَرَةِ الْحُرُوفِ وَعَدَمِ إِقَامَةِ الْأَسْنَانِ، كَمَا كَانَ شَيْخُنَا يَحْكِي أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يَرَاهُ يَكْتُبُ كَذَلِكَ: تَكْتُبُونَ تَمْشُقُونَ تُضَيِّعُونَ الْكَاغِدَ. فَيَجْتَمِعَانِ فِي عَدَمِ إِقَامَةِ الْأَسْنَانِ، وَيَخْتَصُّ التَّعْلِيقُ بِخَلْطِ الْحُرُوفِ وَضَمِّهَا، وَالْمَشْقُ بِبَعْثَرَتِهَا وَإِيضَاحِهَا بِدُونِ الْقَانُونِ الْمَأْلُوفِ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْكُتَّابِ: مَفْسَدَةٌ لِخَطِّ الْمُبْتَدِي، وَدَالٌّ عَلَى تَهَاوُنِ الْمُنْتَهِي بِمَا يَكْتُبُ. غَيْرَ أَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الْمَشْقَ وَالتَّعْلِيقَ وَإِغْفَالَ الشَّكْلِ وَالنَّقْطِ فِي الْمُكَاتَبَاتِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي “ أَدَبِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا “: وَهُوَ مُسْتَحْسَنٌ فِيهَا، فَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ إِدْلَالِهِمْ بِالصَّنْعَةِ وَتَقَدُّمِهِمْ فِي الْكِتَابَةِ يَكْتَفُونَ بِالْإِشَارَةِ وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى التَّلْوِيحِ، وَيَرَوْنَ الْحَاجَةَ إِلَى اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ الْإِبَانَةِ تَقْصِيرًا. قَالَ: وَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ مُسْتَقْبَحًا (كَمَا) أَنَّهُ (شَرُّ الْقِرَاءَةِ إِذَا مَا)؛ أَيْ: إِذَا (هَذْرَمَا) بِالْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ: أَسْرَعَ بِحَيْثُ يَخْفَى السَّمَاعُ. فَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ دُرُسْتُوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدَّيْنَوَرِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: “ شَرُّ الْكِتَابَةِ الْمَشْقُ، وَشَرُّ الْقِرَاءَةِ الْهَذْرَمَةُ، وَأَجْوَدُ الْخَطِّ أَبْيَنُهُ “. وَعِنْدَهُ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: “ الْخَطُّ عَلَامَةٌ، فَكُلَّمَا كَانَ أَبْيَنَ كَانَ أَحْسَنَ “ وَعَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ: وَزْنُ الْخَطِّ وَزْنُ الْقِرَاءَةِ، أَجْوَدُ الْقِرَاءَةِ أَبْيَنُهَا، وَأَجْوَدُ الْخَطِّ أَبْيَنُهُ. [تَحْقِيقُ الْخَطِّ وَتَحْسِينُهُ]: وَحِينَئِذٍ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَحْقِيقُ الْخَطِّ، وَهُوَ أَنْ يُمَيِّزَ كُلَّ حَرْفٍ بِصُورَتِهِ الْمُمَيِّزَةِ لَهُ بِحَيْثُ لَا تَشْتَبِهُ الْعَيْنُ الْمَوْصُولَةُ بِالْفَاءِ أَوِ الْقَافِ، وَالْمَفْصُولَةُ بِالْحَاءِ أَوِ الْخَاءِ. وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكَاتِبِهِ: “ أَطِلْ جِلْفَةَ قَلَمِكَ، وَأَسْمِنْهَا، وَأَيْمِنْ قِطَّتَكَ وَحَرِّفْهَا، وَأَسْمِعْنِي طَنِينَ النُّونِ، وَخَرِيرَ الْخَاءِ، أَسْمِنِ الصَّادَ، وَعَرِّجِ الْعَيْنَ، وَاشْقُقِ الْكَافَ، وَعَظِّمِ الْفَاءَ، وَرَتِّلِ اللَّامَ، وَاسْلُسِ الْبَاءَ وَالتَّاءَ وَالثَّاءَ، وَأَقِمِ الْوَاوَ عَلَى ذَنَبِهَا وَاجْعَلْ قَلَمَكَ خَلْفَ أُذُنِكَ فَهُوَ أَجْوَدُ لَكَ “ رَوَاهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَصْرِفَ زَمَنَهُ فِي مَزِيدِ تَحْسِينِهِ وَمَلَاحَةِ نَظْمِهِ، لِحُصُولِ الْغَرَضِ بِدُونِهِ، بَلِ الزَّمَنُ الَّذِي يَصْرِفُهُ فِي ذَلِكَ يَشْتَغِلُ فِيهِ بِالْحِفْظِ وَالنَّظَرِ، وَلَيْسَتْ رَدَاءَةُ الْخَطِّ الَّتِي لَا تُفْضِي إِلَى الِاشْتِبَاهِ بِقَادِحَةٍ، إِنَّمَا الْقَادِحُ الْجَهْلُ. وَلِذَا بَلَغَنَا عَنْ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ الرَّبَّانِيِّ الشِّهَابِ الْحِنَّاوِيِّ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَآهُ يُلَازِمُ بَعْضَ الْكِتَابِ فِي تَعَلُّمِ صِنَاعَتِهِ فَقَالَ لَهُ: أَرَاكَ حَسَنَ الْفَهْمِ، فَأَقْبِلْ عَلَى الْعِلْمِ وَدَعْ عَنْكَ هَذَا، فَإِنَّ غَايَتَكَ فِيهِ أَنْ تَصِلَ لِشَيْخِكَ، وَهُوَ- كَمَا تَرَى- مُعَلِّمُ كِتَابٍ، أَوْ نَحْوُ هَذَا، وَأَوْشَكَ إِنِ اشْتَغَلْتَ بِالْعِلْمِ تَسُودُ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ. قَالَ: فَنَفَعَنِي اللَّهُ بِذَلِكَ مَعَ بَرَاعَتِهِ فِي الْكِتَابَةِ أَيْضًا. وَنَحْوُهُ مَنْ رَأَى الْبَدْرَ الْبَشْتَكِيَّ عِنْدَ بَعْضِ الْكُتَّابِ، وَرَأَى قُوَّةَ عَصَبِهِ وَسُرْعَةَ كِتَابَتِهِ فَسَأَلَهُ: كَمْ تَكْتُبُ مِنْ هَذَا كُلَّ يَوْمٍ؟ فَذَكَرَ لَهُ عِدَّةَ كَرَارِيسَ، فَقَالَ لَهُ: الْزَمْ هَذَا، وَاتْرُكْ عَنْكَ الِاشْتِغَالَ بِقَانُونِ الْكِتَابِ، فَإِنَّكَ وَلَوِ ارْتَقَيْتَ لَا تَنْهَضُ فِي الْكِتَابَةِ كُلَّ يَوْمٍ بِمَا تُحَصِّلُهُ مِنْ كِتَابَتِكَ الْآنَ. فَأَعْرَضَ عَنِ التَّعَلُّمِ فَفَاقَ فِي سُرْعَةِ الْكِتَابَةِ. وَمَحَلُّ مَا زَادَ عَلَى الْغَرَضِ مِنْ ذَلِكَ مَحَلُّ مَا زَادَ عَلَى الْكَلَامِ الْمَفْهُومِ، مِنْ فَصَاحَةِ الْأَلْفَاظِ، وَلِذَلِكَ قَالَتِ الْعَرَبُ: حُسْنُ الْخَطِّ إِحْدَى الْفَصَاحَتَيْنِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ: اعْذُرْ أَخَاكَ عَلَى رَدَاءَةِ خَطِّهِ *** وَاغْفِرْ رَدَاءَتَهُ لِجَوْدَةِ ضَبْطِهِ وَالْخَطُّ لَيْسَ يُرَادُ مِنْ تَعْظِيمِهِ *** وَنِظَامِهِ إِلَّا إِقَامَةُ سَمْطِهِ فَإِذَا أَبَانَ عَنِ الْمَعَانِي خَطُّهُ *** كَانَتْ مَلَاحَتَهُ زِيَادَةُ شَرْطِهِ وَلْيَتَجَنَّبْهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، لِمَا ثَبَتَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ. وَالْكِتَابَةُ بِالْحِبْرِ أَوْلَى مِنَ الْمِدَادِ، بَلْ وَمِنْ مَاءِ الذَّهَبِ وَمِنَ الْأَحْمَرِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتُ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْكِتَابَةَ بِالْأَحْمَرِ شِعَارُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَجُوسِ، وَيَكُونُ الْحِبْرُ بَرَّاقًا جَارِيًا، وَالْقِرْطَاسُ نَقِيًّا صَافِيًا. قَالُوا: وَلَا يَكُونُ الْقَلَمُ صُلْبًا جِدًّا، فَلَا يَجْرِي بِسُرْعَةٍ، وَلَا رَخْوًا جِدًّا فَيَحْفَى سَرِيعًا، وَلْيَكُنْ أَمْلَسَ الْعُودِ مُزَالَ الْعُقُودِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقَلَمَ الَّذِي بِآخِرِهِ عُقْدَةٌ يُورِثُ الْفَقْرَ. حَكَاهُ صَاحِبُ “ تَارِيخِ إِرْبَلَ “ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ، وَاسِعَ الْفَتْحَةِ، طَوِيلَ الْجِلْفَةِ، مُحَرَّفَ الْقِطَّةِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ عَادَتُهُ الْكِتَابَةُ بِالْمُدَوَّرِ، وَمَا يُقَطُّ عَلَيْهِ صُلْبًا جِدًّا، وَيُحْمَدُ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ وَخَشَبُ الْآبَنُوسِ النَّاعِمِ، وَسِكِّينُ قَلَمِهِ أَحَدُّ مِنَ الْمُوسَى، صَافِيَةُ الْحَدِيدِ، وَلَا يَسْتَعْمِلُهَا فِي غَيْرِهِ. كَمَا بَيَّنَ أَكْثَرَهُ الْخَطِيبُ فِي “ جَامِعِهِ “. وَلَا يَتَوَرَّعُ عَنْ كِتَابَةِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ مِنْ مَحْبَرَةِ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ، إِلَّا إِنْ عَلِمَ عَدَمَ رِضَاهُ، فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو جَعْفَرٍ الْأَنْمَاطِيُّ مِرْبَعٌ: كُنْتُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ مَحْبَرَةٌ، فَذَكَرَ حَدِيثًا فَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَكْتُبَ مِنْهَا، فَقَالَ لِي: اكْتُبْ يَا هَذَا، فَهَذَا وَرَعٌ مُظْلِمٌ. وَلِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنَ الِاحْتِيَاجِ لِضَبْطِ الْفَوَائِدِ وَنَحْوِهَا قِيلَ: مَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ بِلَا مَحْبَرَةٍ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلْكُدْيَةِ. وَعنِ الْمُبَرِّدِ قَالَ: رَأَيْتُ الْجَاحِظَ يَكْتُبُ شَيْئًا، فَتَبَسَّمَ فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقِرْطَاسُ صَافِيًا، وَالْمِدَادُ نَامِيًا، وَالْقَلَمُ مُوَاتِيًا، وَالْقَلْبُ خَالِيًا، فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ غَانِيًا. وَكَمَا يُهْتَمُّ بِضَبْطِ الْحُرُوفِ الْمُعْجَمَةِ- كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي انْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَيْهَا- بِالنَّقْطِ- كَذِلِكَ يُهْتَمُّ بِضَبْطِ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَةِ جَلِيِّهَا وَخَفِيِّهَا، أَوْ خَفِيِّهَا فَقَطْ كَمَا اتَّضَحَ هُنَاكَ بِعَلَامَةٍ لِلْإِهْمَالِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِعْجَامِهَا؛ إِذْ رُبَّمَا يَحْصُلُ بِإِغْفَالِهِ خَلْطٌ. كَمَا يُحْكَى أَنَّ بَعْضَهُمْ أَمَرَ عَامِلًا لَهُ فِي رِسَالَةٍ أَنْ يُحْصِيَ مَنْ قِبَلَهُ مِنَ الْمُخَنَّثِينَ وَيَأْمُرَهُمْ بِكِيتَ وَكِيتَ، فَقَرَأَهَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، إِلَى أَنْ وَقَفَ عَلَى حَقِيقَتِهِ. 566 وَيُنْقَطُ الْمُهْمَلُ لَا الْحَا أَسْفَلَا *** أَوْ كَتْبُ ذَاكَ الْحَرْفِ تَحْتُ مَثَلَا 567 أَوْ فَوْقَهُ قُلَامَةً أَقْوَالُ *** وَالْبَعْضُ نَقْطَ السِّينِ صَفًّا قَالُوا 568 وَبَعْضُهُمْ يَخُطُّ فَوْقَ الْمُهْمَلْ *** وَبَعْضُهُمْ كَالْهَمْزِ تَحْتُ يَجْعَلْ
(وَيُنْقَطُ) الْحَرْفُ (الْمُهْمَلُ) كَالدَّالِ وَالرَّاءِ وَالصَّادِ وَالطَّاءِ وَالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا، (لَا الْحَا) بِالْقَصْرِ، بِمَا فَوْقَ الْحَرْفِ الْمُعْجَمِ الْمُشَاكِلِ لَهُ (أَسْفَلَا) أَيْ: أَسْفَلَ الْحَرْفِ الْمُهْمَلِ، وَلَمْ يُصَرِّحِ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِعِيَاضٍ بِاسْتِثْنَاءِ الْحَاءِ اكْتِفَاءً بِالْعِلَّةِ فِي الْقَلْبِ، وَهِيَ تَحْصِيلُ التَّمْيِيزِ، فَمَتَى كَانَ مُوقِعًا فِي الِالْتِبَاسِ لَمْ يَحْصُلِ الْغَرَضُ. وَالْحَاءُ إِذَا جُعِلَتْ نُقْطَةَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةَ تَحْتَهَا الْتَبَسَتْ بِالْجِيمِ، وَحِينَئِذٍ فَتَرْكُ الْعَلَامَةِ لِهَذَا الْحَرْفِ عَلَامَةٌ، وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا قَوْلُ الزَّرْكَشِيِّ: خَرَجَ بِقَوْلِهِ: “ فَوْقَ “ مَا إِذَا كَانَ النَّقْطُ تَحْتُ فَلَا يُسْتَحَبُّ، وَذَلِكَ كَالْحَاءِ، فَإِنَّهُ لَوْ نُقِطَتْ مِنْ تَحْتِهَا لَالْتَبَسَتْ بِالْجِيمِ. وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّمَا تَرْكُ الْحَاءِ لِوُضُوحِهَا. وَلَيْسَ هَذَا الِاصْطِلَاحُ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ، وَلِذَا قَالَ عِيَاضٌ: وَسَبِيلُ النَّاسِ فِي ضَبْطِهَا مُخْتَلِفٌ. يَعْنِي: فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْلُكُ هَذَا، أَوْ كَمَا لِبَعْضِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْأَنْدَلُسِ مِمَّا قَالَهُ عِيَاضٌ أَيْضًا (كَتْبُ) أَيْ: يَكْتُبُ نَظَيْرَ (ذَاكَ الْحَرْفِ) الْمُهْمَلِ الْمُتَّصِلِ أَوِ الْمُنْفَصِلِ (تَحْتُ)؛ أَيْ: تَحْتَهُ (مَثَلَا) بِفَتْحَتَيْنِ؛ أَيْ: عَلَى صِفَتِهِ، سَوَاءً كَانَ شَبِيهًا لَهُ فِي الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ وَفِي الْقَدْرِ أَوْ لَا، غَيْرَ أَنَّ كَوْنَهُ أَصْغَرُ مِنْهُ وَمُجَرَّدًا أَنْسَبُ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: يُكْتَبُ تَحْتَ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ حَاءٌ مُفْرَدَةٌ صَغِيرَةٌ، وَكَذَا يُكْتَبُ تَحْتَ كُلٍّ مِنَ الدَّالِ وَالصَّادِ وَالطَّاءِ وَالسِّينِ وَالْعَيْنِ صِفَتُهَا صَغِيرَةً. (أَوْ) يُجْعَلُ (فَوْقَهُ)؛ أَيِ: الْمُهْمَلِ (قُلَامَةً) كَقُلَامَةِ الظُّفْرِ مُضْجَعَةٌ عَلَى قَفَاهَا لِتَكُونَ فَرْجَتُهَا إِلَى فَوْقَ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ فَقَطْ مُثِّلَتْ بِالْقُلَامَةِ؛ إِذِ الْمُشَاهَدُ فِي خَطِّ كَثِيرِينَ لَا يُشَابِهُهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ هِيَ مُنْجَمِعَةٌ لَا هَكَذَا مِنْ أَسْفَلِهَا. (أَقْوَالُ) ثَلَاثَةٌ وَأَوَّلُهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ النَّقْطُ مِنْ أَسْفَلَ كَهَيْئَتِهِ مِنْ فَوْقُ بِحَيْثُ يَكُونُ مَا تَحْتَ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ كَالْأَثَافِيِّ، وَهِيَ بِالْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَقَدْ تُخَفَّفُ- مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الْقِدْرُ مِنْ حَدِيدٍ وَحِجَارَةٍ وَغَيْرِهِمَا فِي سَفَرٍ وَغَيْرِهِ، لَكِنَّ الْأَنْسَبَ وَالْأَبْعَدَ عَنِ اللَّبْسِ قَلْبُهَا، فَتَكُونُ النُّقْطَتَانِ الْمُحَاذِيَتَانِ لِلْمُعْجَمَةِ مِنْ فَوْقُ مُحَاذِيَتَيْنِ لِلْمُهْمَلَةِ مِنْ أَسْفَلَ. وَ(الْبَعْضُ) مِمَّنِ اصْطَلَحَ عَلَى النَّقْطِ (نَقْطَ السِّينِ صَفًّا) وَاحِدًا يُصَفُّ تَحْتَهَا (قَالُوا) أَيْ: قَالُوهُ لِئَلَّا تَزْدَحِمَ النُّقْطَةُ أَوِ النُّقْطَتَانِ مَعَ مَا يُحَاذِيهَا مِنَ السَّطْرِ الَّذِي يَلِيهَا فَيُظْلِمُ، بَلْ رُبَّمَا يَحْصُلُ بِهِ لَبْسٌ (وَبَعْضُهُمْ يَخُطُّ فَوْقَ) الْحَرْفِ (الْمُهْمَلِ) خَطًّا صَغِيرًا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ وَلَا يَفْطِنُ لَهُ كَثِيرُونَ. يَعْنِي: لِكَوْنِهِ خَفِيًّا غَيْرَ شَائِعٍ، وَلِذَا اشْتَبَهَ عَلَى الْعَلَاءِ مُغْلِطَائِيِّ الْحَنَفِيِّ حَيْثُ تَوَهَّمَهُ فَتْحَةً لِذَاكَ الْحَرْفِ إِذْ قَرَأَ: “ رَضْوَانُ “ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَلَيْسَتِ الْفَتْحَةُ إِلَّا عَلَامَةَ الْإِهْمَالِ، وَكَذَا وَقَفَ عَلَى هَذِهِ الْعَلَامَةِ لِلْمُهْمَلِ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ الْمُصَنَّفِ. (وَبَعْضُهُمْ) وَهُوَ طَرِيقٌ خَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ (كَالْهَمْزِ تَحْتُ)؛ أَيْ: تَحْتَ الْمُهْمَلِ (يَجْعَلُ) حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ عِيَاضٌ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ تَحْتَ الْمُهْمَلِ عَلَى مِثَالِ النَّبْرَةِ وَهِيَ- كَمَا ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ وَابْنُ سِيدَهْ- الْهَمْزَةُ، بَلْ حَكَى عِيَاضٌ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ الْمَشَارِقَةِ أَنَّهُ يَجْعَلُ فَوْقَ الْمُهْمَلِ خَطًّا صَغِيرًا يُشْبِهُ النَّبْرَةَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَادِسًا أَوْ سَابِعًا، وَإِنْ تَرَدَّدَ الْمُصَنِّفُ أَهُوَ غَيْرُ الْخَطِّ أَوْ عَيْنُهُ؟ وَوَجَدْتُ أَيْضًا سَابِعًا أَوْ ثَامِنًا. فَرَوَى الْخَطِيبُ فِي “ جَامِعِهِ “ مِنْ طِرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ إِدْرِيسَ يَقُولُ: كَتَبْتُ- يَعْنِي عَنْ شُعْبَةَ- حَدِيثَ أَبِي الْحَوْرَاءِ- يَعْنِي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَخِفْتُ أَنْ أُصَحِّفَ فِيهِ فَأَقُولَ: أَبُو الْجَوْزَاءِ بِالْجِيمِ وَالزَّاءِ، فَكَتَبْتُ تَحْتَهُ: حُورُ عِينٍ. وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِقَوْلِهِ: وَرُبَّمَا كَتَبُوا مَا يَدُلُّ عَلَى الضَّبْطِ بِأَلْفَاظٍ كَامِلَةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِ. وَنَحْوُهُ رَدُّ الدَّارَقُطْنِيِّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ قَرَأَ عَلَيْهِ: يُسَيْرُ بْنُ ذُعْلُوقٍ- بِالْيَاءِ- بِقَوْلِهِ: {ن وَالْقَلَمِ}. وَوَرَاءَ هَذَا مَنْ يَقْتَصِرُ فِي الْبَيَانِ عَلَى مَا هُوَ الْأُسْلُوبُ الْأَصْلِيُّ لَهَا، وَهُوَ إِخْلَاؤُهَا عَنِ الْعَلَامَةِ الْوُجُودِيَّةِ لِغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا طَرِيقُ مَنْ لَمْ يَسْلُكْ جَانِبَ الِاسْتِظْهَارِ، وَهُوَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ فِي الظُّهُورِ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ الشَّيْءِ. وَنَحْوُهُ مَنِ اصْطَلَحَ فِي الْبَيَانِ مَعَ نَفْسِهِ شَيْئًا انْفَرَدَ بِهِ عَنِ النَّاسِ لِأَنَّهُ يُوقِعُ غَيْرَهُ بِهِ فِي الْحَيْرَةِ وَاللَّبْسِ لِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى مُرَادِهِ فِيهِ كَمَا اتَّفَقَ فِي “ رِضْوَانَ “. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَقَدْ قَرَأْتُ جُزْءًا عَلَى بَعْضِ الشُّيُوخِ فَكَانَ كَاتِبُهُ يَعْمَلُ عَلَى الْكَافِ عَلَامَةً شَبِيهَةً بِالْخَاءِ الَّتِي تُكْتَبُ عَلَى الْكَلِمَاتِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا نُسْخَةٌ أُخْرَى، وَكَانَ الْكَلَامُ يُسَاعِدُ عَلَى إِسْقَاطِ الْكَلِمَةِ وَإِثْبَاتِهَا فِي مَوَاضِعَ، فَقَرَأْتُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا نُسْخَةٌ، وَبَعْدَ فَرَاغِ الْجُزْءِ تَبَيَّنَ لِي اصْطِلَاحُهُ فَاحْتَجْتُ إِلَى إِعَادَةِ قِرَاءَةِ الْجُزْءِ. انْتَهَى. وَرُبَّ عَلَامَةٍ أَحْوَجَتْ إِلَى عَلَامَةٍ حَتَّى لِفَاعِلِهَا، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَنْبَغِي- كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ- أَنْ يَأْتِيَ بِاصْطِلَاحٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ. 569- وَإِنْ أَتَى بِرَمْزِ رَاوٍ مَيَّزَا *** مُرَادَهُ وَاخْتِيرَ أَلَّا يَرْمُزَا 570- وَتَنْبَغِي الدَّارَةُ فَصْلًا وَارْتَضَى *** إِغْفَالَهَا الْخَطِيبُ حَتَّى يُعْرَضَا 571- وَكَرِهُوا فَصْلَ مُضَافِ اسْمِ اللَّهْ *** مِنْهُ بِسَطْرٍ إِنْ يُنَافِ مَا تَلَاهْ
|